محافظ الإسكندرية: جاهزون لانتخابات النواب بتنسيق كامل بين الجهات التنفيذية    افتتاح أسواق اليوم الواحد فى كفر شكر والقناطر الخيرية    مختار غباشي: الانتخابات العراقية تمثل محطة اختبار مهمة في المنافسة السياسية    هشام الحلبي: زيارة الشرع لأمريكا متوقعة.. دول كبرى تتنافس على سوريا    البيت الأبيض يحذر من تقلص الناتج المحلي الأمريكي بسبب الإغلاق الحكومي    زيزو برفقة كأس السوبر: عاش الأهلى.. صورة    قرار صادم من يايسله تجاه نجم الأهلي السعودي    بجلباب «جعفر العمدة».. شبيه محمد رمضان يثير الجدل في عزاء والده    دايت من غير حرمان.. سر غير متوقع لخسارة الوزن بطريقة طبيعية    «قومي المرأة» يكرم فريق رصد دراما رمضان 2025    المدير الإقليمي لليونسكو بالقاهرة: تعمل على إصدار توصيات بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي    أب يكتشف وفاة طفليه أثناء إيقاظهما من النوم في الصف    خيانة تنتهي بجريمة.. 3 قصص دامية تكشف الوجه المظلم للعلاقات المحرمة    حبس المتهمين في مشاجرة بالسلاح الناري في أسيوط    «المرشدين السياحيين»: المتحف المصرى الكبير سيحدث دفعة قوية للسياحة    محمود مسلم ل كلمة أخيرة: منافسة قوية على المقاعد الفردية بانتخابات النواب 2025    الاتحاد الأوروبي يرفض استخدام واشنطن القوة ضد قوارب في الكاريبي    محافظ الغربية يتفقد مستشفى قطور المركزي وعيادة التأمين الصحي    استشاري: العصائر بأنواعها ممنوعة وسكر الفاكهة تأثيره مثل الكحول على الكبد    برنامج مطروح للنقاش يستعرض الانتخابات العراقية وسط أزمات الشرق الأوسط    بث مباشر.. البابا تواضروس يشارك في احتفالية مرور 17 قرنًا على انعقاد مجمع نيقية    أهالي «علم الروم»: لا نرفض مخطط التطوير شرط التعويض العادل    شبيه شخصية جعفر العمدة يقدم واجب العزاء فى وفاة والد محمد رمضان    قراءة صورة    «ما تجاملش حد على حساب مصر».. تصريحات ياسر جلال عن «إنزال صاعقة جزائريين في ميدان التحرير» تثير جدلًا    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    «فريق المليار يستحق اللقب».. تعليق مثير من خالد الغندور بعد فوز الأهلي على الزمالك    أوقاف شمال سيناء تناقش "خطر أكل الحرام.. الرشوة نموذجًا"    الخارجية الباكستانية تتهم أفغانستان بالفشل في اتخاذ إجراءات ضد الإرهاب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    قتل وهو ساجد.. التصريح بدفن جثة معلم أزهرى قتله شخص داخل مسجد بقنا    غدًا.. وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة فى لقاء خاص على القاهرة الإخبارية    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    استعدادات أمنية مكثفة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025    بيحبوا يثيروا الجدل.. 4 أبراج جريئة بطبعها    حزب السادات: مشهد المصريين بالخارج في الانتخابات ملحمة وطنية تؤكد وحدة الصف    توقيع مذكرة تفاهم لدمج مستشفى «شفاء الأورمان» بالأقصر ضمن منظومة المستشفيات الجامعية    أخبار السعودية اليوم.. إعدام مواطنين لانضمامهما إلى جماعة إرهابية    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    محافظ بني سويف ورئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة يفتتحان فرع المجلس بديوان عام المحافظة    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    محافظ قنا يترأس اجتماع لجنة استرداد أراضي الدولة لمتابعة جهود التقنين وتوحيد الإجراءات    الصدفة تكتب تاريخ جديد لمنتخب مصر لكرة القدم النسائية ويتأهل لأمم إفريقيا للمرة الثالثة في تاريخه    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس البورصة: 5 شركات جديدة تستعد للقيد خلال 2026    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    زيادة فى الهجمات ضد مساجد بريطانيا.. تقرير: استهداف 25 مسجدا فى 4 أشهر    «زي كولر».. شوبير يعلق على أسلوب توروب مع الأهلي قبل قمة الزمالك    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    نهائي السوبر.. الأهلي والزمالك على موعد مع اللقب 23    تشكيل الزمالك المتوقع ضد الأهلي في نهائي السوبر المصري    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات مصرية .. الشارع الأعظم
نشر في المصري اليوم يوم 18 - 09 - 2009


مم يتكون الشعاع؟.. هل الضوء متصل أم منفصل؟
هل يجىء إلينا فى خطوط ممتدة بلا انقطاع من المصدر الذى يصعب تحديده إلى المقصد الذى يعسر تعيينه؟
من الثابت علمياً أن الضوء الذى يتجسد لنا شاملاً، فيحيط بنا ويتخللنا، نتخلله، يتكون من جسيمات دقيقة جداً، من الجزء يكون الكل، من الذرات التى تعجز أبصارنا عن رؤيتها تتكون الأشكال والأجسام.
من الجزء يتكون الكل
منطق قانون يسرى فى المدينة، فى الزخرفة، فى الحكى، فى منظومة اللحظات التى تتعاقب فى المراجع وأحاول تثبيتها عبر الضوء والزمن من حيوات القاهرة العتيقة، إذا ما رأيناها متجاورة، أو متتابعة، تكتمل، صورة تلد صورة، لوحة تتفرع عن الأخرى، تماماً مثل حكايات ألف ليلة، مثل الزخارف المجردة التى تتدفق إلى ما لا نهاية، بينما يمكن أن يكتمل تكوينها عند أى نقطة.
فى ذلك اليوم البعيد من فبراير عام تسعة وستين وتسعمائة ميلادية، وقف القائد جوهر صقلى الأصل، قائد جيوش الخليفة المعز لدين الله الفاطمى القادم من المغرب ليغزو مصر - وقف وسط ضباطه وجنوده فى انتظار اللحظة المناسبة لوضع أساس المدينة التى ستكون عاصمة الدولة الفاطمية الجديدة على مصر، كان المنجمون يتطلعون إلى النجوم لاختيار اللحظة الأسعد كى يطلقوا إشارة بدء تشييد المدينة، نصبوا الأجراس لذلك.
حدث قبل اكتمال الغروب أن وقف طائر على الحبل الذى يصل الأجراس ببعضها، عندئذ ظن المنجمون أن الإشارة انطلقت، فنظروا إلى السماء، كان القاهر متألقاً فى السماء بلونه الأحمر، والقاهر أحد أسماء المريخ أو مارس، هكذا أصبح الاسم، القاهرة هكذا جاء ميلاد المدينة مرتبطاً بالفلك، بالضوء، بالكون، بالكل، إنه نفس المضمون المصرى العتيق، عندما كانت العمارة متصلة بالنجوم، والجهات الأربع، وأيضا.. النهر، مصدر الحياة للوادى، والحضارة النامية على ضفتيه.
يمضى النهر من الجنوب إلى الشمال، وهكذا جميع الشوارع الرئيسية فى القاهرة، أو المدن المصرية الأخرى، خاصة مدن الجنوب، حيث الصلة بالنهر أكثر حميمية ومباشرة، فى البداية احتوت المدينة على قصرين فقط لسكنى الخليفة وحاشيته، الشرقى الكبير، والغربى الصغير، وما بينهما شارع يمتد من الجنوب إلى الشمال، بحذاء النهر على البعد، يتخلله ميدان لاستعراض الجند، وإقامة الحفلات، مازال الطريق المتعرج، الرئيسى، يقسم القاهرة القديمة إلى قسمين، إنه يمتد الآن من ميدان القلعة، حتى ضاحية العباسية شرقاً، أشهر أقسامه ما يعرف بشارع المعز لدين الله، أو بين القصرين، عنوان الملحمة الشهيرة نجيب محفوظ «نوبل 1988».
يمضى الطريق مثل النهر تماماً، لا يسير فى خط مستقيم، إنما يتعرج بحيث يبدو مغلقا كل خمسين أو مائة متر، فإذا وصلنا إلى المنطقة التى يبدو مغلقاً عندها نجد انفراجة تؤدى إلى الجزء التالى، دائماً هناك وعد بالوصول، تبدو المسافة قصيرة، غير أنها تؤدى إلى أخرى، إن هذا التقسيم التلقائى للمسافة يحدث شعوراً بالراحة عند من يمشى على قدميه أو يقطع الطريق على ظهور الإبل أو الحمير كما كان الأمر حتى نهاية القرن التاسع عشر، عندما كانت الحيوانات هى الوسيلة الرئيسية للانتقال فى المدينة، وأيضاً لتزويدها بالماء.
 من ناحية أخرى يؤدى هذا التعرج إلى تبادل ظلال المبانى، فينتفى الشعور بالحر صيفاً، وتنكسر حدة الرياح الباردة فى الشتاء، مازال الطريق الرئيسى فى القاهرة القديمة يحمل المعالم التى سجلها المقريزى فى القرن الرابع عشر الميلادى فى كتابه الفخم «المواعظ والاعتبار بذكر ما فى مصر من خطط وآثار». عرف الشارع الرئيسى بقصبة القاهرة، أو الشارع الأعظم، يبدأ من ميدان الرميلة الذى يعرف الآن بميدان القلعة، وينتهى عند باب الفتوح، أحد أبواب أربعة متبقية من بوابات القاهرة القديمة السبع.
منه تتفرع الخطط، والخط يعنى الناحية.
من الخط تتفرع الحارات، والحارة تضم مجموعة من المسالك.
منها الدرب، وهذا يؤدى من مكان إلى مكان.
منها الزقاق، ويتخلل الدرب، أو يصل ما بين دربين، والزقاق عرضه أقل وطوله أصغر.
ومنها العطفة، وهى المنحنى داخل الدرب.
ومنها الخوخة، وهى نقب فى بيت قديم يعترض مرور الناس، وطبقاً للتعاليم الدينية فيوجد ما يعرف بحق الطريق لجميع الناس، فإذا أقدم أحدهم على بناء قصر أو حتى مسجد يعترض الناس، فلابد أن ينشئ ممراً يسهل مرور الناس من مكان إلى آخر، هكذا ظهرت الأقبية، وأشهرها الآن اثنان، الأول قبو درب قرمز تحت مسجد الأمير مثقال، أو قبو بشتاك تحت قصر الأمير الشهير بالجمالية.
هكذا جاء تصميم المدينة نتيجة احتياجات اجتماعية، ومناخية، وعقائد قديمة مصرية متوارثة، تصل المكان بالنجوم والشمس، بالكون الفسيح، وبالنهر، بالنيل مصدر الحياة الرئيسى، ثمة ضرورة أخرى، الضرورة الأمنية، كثيراً ما كانت الاضطرابات تقع فى الزمن المملوكى، وحتى يتجنب الأهالى عبث المماليك، وغارات اللصوص، أصبح لكل حارة باب يغلق ما بعد الغروب وحتى الفجر، عند وقوع الاضطرابات، كانت مسؤولية فتحه وغلقه تقع على شيخ الحارة الذى يحتفظ بالمفاتيح، وهو المسؤول عن السكان أمام الوالى والمحتسب.
الحارة، إنها الوحدة الأساسية لتصميم المدينة، إنها صورة مصغرة للكون الكبير، للحياة بتنوع مصائرها وتداخل مساراتها وتفاعلاتها، لذلك أقول دائماً الحارة عالم صغير، والعالم حارة كبيرة.
نسمات العصارى
ولدت فى جهينة، بسوهاج، محفوفاً بنخيل الصعيد وظلاله وسموقه وأصالته، لكننى نموت وشببت فى الخلاء القاهرى، ومنه أستمد أقدم صور عمرى.
أقامت أسرتى فى المنزل رقم واحد، عطفة باجنيد، المتفرعة من درب الطبلاوى، بيت ربما بنى فى القرن التاسع عشر، مكون من خمسة طوابق، وهذا ارتفاع له شأن فى الأربعينيات عندما بدأ وعيى يلتقط أول مظاهر الوجود، كنا نسكن الطابق الأخير، وأمامنا يمتد سطح فسيح أو هكذا كان يبدو لى فى طفولتى، فلكم تتغير نسبية الأشياء مع التقدم فى العمر، كان الأفق القاهرى رحيماً بالنظر، خلاء ممتد، وتاريخ واضح، الأهرام فى الغرب، ومآذن السلطان حسن والرفاعى ومحمد على والمحمودية ومئذنة سيدنا ومولانا الحسين، كله تسمعه فى الجنوب، والمقطم الذى لم نعرف جبلاً أكثر منه ارتفاعاً يحد المدينة من الشرق، وكانت عمارة حديثة مرتفعة تقوم إلى الشمال ناحية غمرة، تحمل إعلاناً دائرياً، يلمع فى الليل عن مشروب غازى، لم يكن الأفق القاهرى مدججاً بالخرسانة والأبراج كما يبدو الآن، ولم يكن التلوث بهذه الدرجة التى نراها الآن، حيث تجثم غمامة كثيفة على المدينة طوال ساعات النهار.
كنت أشب على قدمى لأتطلع إلى الأفق الفسيح، وأسطح البيوت المجاورة، والمعالم، ولو أننى اخترت من حياتى لحيظات حانية، لكان أولها لحظات العصارى فى المدينة القديمة، خاصة عندما تنكسر درجات الحرارة إذا كان الفصل صيفاً، أو تغمق الظلال مسرعة باكتمال الليل شتاءً، ولأن معظم شهور السنة حارة، لذلك اشتد الشوق إلى النسمة، والهواء الطيب فى بلادنا يجىء من الشمال، ومن العبارات التى تتردد كثيراً فى ذاكرتى منذ الطفولة:
«عايزة أشم الهوا..»
«يا سلام على نسمة العصارى..»
كانت نسمات العصارى من مفرجات الكروب، وبواعث الراحة، وأسباب هدهدة الروح فى القاهرة القديمة، لذلك اتخذ المعمارى القديم ما يكفل استدارة البناء تجاه الشمال، ليستقبل النسمات الحانية، المرطبة.. من التكوينات الغريبة التى لفتت نظرى فى الصبا، بناء هرمى الشكل من خشب غامق، يواجه الشمال بفتحة واسعة، وكان مثيراً لخيالى، خاصة أنه ارتبط بالقصر القديم، المهجور، بؤرة الذاكرة ومحور الحارة، قصر المسافرخانة، شيئاً فشيئاً عرفت أن هذا التكوين اسمه (ملقف)، وأنه مخصص لاستقبال الهواء، ودفعه إلى قاعات وغرف البيت، إنه ابتكار عتيق فرضته ظروف البيئة منذ العصر الفرعونى، على جدران مقبرة (نب آمون) من الأسرة التاسعة عشرة نرى الملاقف،
 ويذكر المرحوم المهندس حسن فتحى فى دراسة جميلة عن القاعة القاهرية أن منازل تل العمارنة ضمت قاعات تحيط بها الحجرات، ويرتفع سقفها إلى أعلى من منسوب باقى السقف، بها فتحات لتصريف الهواء الساخن تماماً كما هو الحال فى القاعة العربية ولكن بدون الملقف.
بدءاً من الأسرة التاسعة عشرة بدأ ظهور الملقف، واستمر فى التطور حتى وصل إلى درجة متقدمة من الكمال فى العمارة العربية، واحتفظت المنازل القاهرية بملاقف متكاملة، أهمها قصر المسافرخانة وقاعة محب الدين، للهواء حركة داخل المبانى، تنشأ من اختلاف الضغوط، حيث يمضى الضغط من العالى إلى الواطى، وخلال عملية التصعيد والإحلال، يصعد الساخن ويستقر البارد الملطف، ليجد طريقه عبر ثنايا البيت، من الملقف إلى الطوابق العليا، ثم السفلى، حتى أبعد نقطة فى البناء.
 إن الهواء القادم من الشمال يتجمع عند الفتحة، أعلى الملقف، هنا يحدث ضغط للدخول عبر هذه المصيدة المحكمة، وشيئاً فشيئاً تنتقل النسمات من أعماق الكون إلى ثنايا الصدور، وليس مثل صدورنا القاهرية فى تنسمها الهواء الطيب ساعة العصارى، وكان من أسعد حالاتى تلك اللحيظات التى أجوس فيها داخل قاعات المسافرخانة، أو حجراتها، أصغى إلى حفيف النسمات السارية، وأحن إلى الزمن الجميل، وأحمد الله على تلك النسمات، وكل ما تأتى به المقادير.
                                 ■ ■ ■
مهما أوغل الإنسان فى الزمان، أو ابتعد فى المكان، فإن فؤاده يعتصم إلى الأبد بتلك المواضع التى عرف فيها القلب رعيشاته الأولى، فاتحة الحب، أول مدارج العشق، السعى إلى اكتمال إنسانية الإنسان.
فى زمنى الأول، زمن طفولتى، لم يكن ثمة حرج أو فواصل، الفروق بين الأنثى والذكر لا تزعج الأهل، الأولاد هم الأولاد حتى وإن كانوا صبياناً وبنات، الغريب.. أن الإنسان ينتهى كما بدأ، فى المراحل الأخيرة من العمر تصبح الصداقة أسهل وأصفى بين الرجل والمرأة، بعد نفاد توترات الغريزة، بعد إشباعها، بعد اليأس من تجدد الصبوات، يرتد الأمر فى الكبر إلى ما كان عليه فى الصغر، فما أعجب الدائرة إذ تدنو من اكتمال محيطها وتماس طرفيها، لا يتم هذا التمام إلا بانغلاقها، غير أن نقطة النهاية تمتزج بالبداية، تندمج بها، فلا نعرف عند أى نقطة تنتهى الدائرة أو تبدأ.
هكذا العمر، مثل الدائرة.. ولأن دائرتى تدعو من التلاحم، من التمام، فإننى أستعيد البدايات، تبدو تفاصيل العمر الأول واضحة جداً، جلية فى مراحل العمر المتأخرة، والحارة بالنسبة لى ركن آوى إليه إذ تشتد الهموم، أو تعمق الوحدة.
صغاراً كنا نلعب فى الحارة الآمنة التى لا يدخلها غريب إلا فيما ندر، وتلك ميزة حوارى القاهرة القديمة المتفرعة من بعضها كأغصان شجرة، أو نقش قديم، تتلاقى وحداته وتتفرق، أحياناً يؤدى بعضها إلى بعض، وأحياناً تكتفى بذاتها.
تماماً مثل «درب الطبلاوى»، نلعب فى الحارة، يختبئ أحدنا ونبحث عنه، يعصب آخر عينيه، ونقف مجموعة ويضربه أحدنا، وينزع العصابة محاولاً استنتاج الضارب فإذا نجح يحتل الضارب مكان المضروب، حتى إذا انفردت بابنة الجيران، أدعوها إلى لعبة (صبيان وبنات)، وتلك لعبة ذات خصوصية، إذ تتم فوق سلم البيت، وليس فى فراغ الحارة، نقوم خلالها بتمثيل دور زوج وزوجة، نؤثث البيت المتخيل من فوارغ علب السجائر، وأغطية الزجاجات، وبقايا الألعاب التى كان الوالد يحرص على شرائها فى الأعياد لنا، أما الأطفال فمن قماش محشو، أو عروس من البلاستيك الذى كان مادة حديثة فى ذلك الوقت،
 أما الحوار فمن تفاصيل الحياة التى نعيشها، من واقع الأسرتين، خروج إلى الشغل، أنزل عندئذ إلى الطابق الأسفل، مجرد أربع أو خمس درجات، أبقى بمفردى قليلاً، ثم تنتهى ساعات العمل، فأرتقى الدرج مرة أخرى، أطرق الباب الوهمى، أعبره، الزوجة تجلس حاملة العروس الصغيرة، تخبرنى بمرضها وارتفاع حرارتها، فأبدى الجزع، وأضمها إلى صدرى،
تقترح الأم أن نذهب إلى الطبيب، عندئذ نصعد إلى الطابق العلوى، وأتحول من زوج إلى طبيب يكشف على العروس الصغيرة، وأعيد تجسيد مشهد أكون قد عاينته فى عيادة حقيقية، أصف الدواء وأبدى النصح، ثم أعود أباً فأصحب الأم والطفلة إلى خارج البيت فى نزهة لنشم الهواء، دائماً كانت هذه العبارة تتردد فى سمعى من نساء الحارة، الرغبة فى الطلوع إلى السطح لشم الهواء، أو الخروج لزيارة مولانا والفرجة على الناس، أمضى مع ابنة الجيران عبر الحارة،
ونمر بفرن الحاج ناصيف، نحذر الاقتراب من المسافرخانة، نتطلع بحذر إلى أسوارها العالية، داخلها أمنا الغولة، تستدرج الأطفال لتحولهم إلى وجبة شهية، كثير من الأماكن العتيقة، المهجورة، فرضت حماية ذاتية من خلال الأسطورة المتداولة، لعل أبرزها ما يُروى عن (الرصد) الذى يحمى المقابر الفرعونية، والكنوز المطمورة، كثيرون خافوا ارتياد هذه الأماكن خشية الطلاسم والأرصاد، لذلك كنا نخشى الاقتراب من المسافرخانة، أو عبور عتباتها.
نخطو، ونشب مع الزمن، ويعرف القلب تلك الخفقات، مشاعر دفينة لا تعبر عن نفسها، الحب فى صمت، من طرف واحد، ذلك الميراث الطويل الذى مازال يشكل بواعث توجهنا إلى الآخر، كلما نأى الحبيب ازددنا به تعلقاً، وكلما اتسعت المسافة اقتربنا منه أكثر،
 هكذا توالى خفق القلب فى جنبات الحارة، وكان مجرد ظهور الحبيبة، مجرد ظهورها فى النافذة، أو لواح جزء منها، أو حتى ظلها - كفيلاً بإحداث الزلزلة، فى الروح، فى الوجدان، لكم أستدعى الآن لحظات عرفتها فى الحارة، كانت الروح تنتفض، والأشواق غير المرئية تحمل الإنسان على أجنحتها، وتفتح الآفاق اللامرئية، الخفية، والمنظورة أيضاً، وهذا ما لا تقدر أقوى المثيرات اليوم على تحريكه فى الروح.
كانت الحارة السد، الصغيرة، أوسع من جميع المجرات، وأبعد من كل المسافات، من فوق سطح البيت تعرفت على الآفاق كافة، وهذا ما يحتاج استعادة النظر ولكن.. عبر الذاكرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.