البورصات الأوروبية تغلق على تباين مع استيعاب المستثمرين لبيانات التضخم الأمريكية    وزير الخارجية يؤكد دعم مصر لاستقرار العراق والأردن ضد محاولات النيل منهما    رئيس بولندا يؤكد دعم بلاده لتوسيع عضوية الاتحاد الأوروبي    عاجل:- دخول جماهير الأهلي مجانًا لنهائي دوري أبطال إفريقيا في ملعب رادس    ضبط شخص بالمنوفية لقيامه بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب    5 معلومات عن إميلي شاه خطيبة مينا مسعود.. تعشق الرقص والسفر    تعرف على القطع الأثرية المميزة لشهر مايو بالمتاحف.. صور    بعد تصدره مؤشر جوجل.. أعمال كريم قاسم الفنية    قبل البيرة ولا بعدها؟..تعليق علاء مبارك على انسحاب يوسف زيدان من تكوين    تنظيم 10 ندوات لمناقشة المشكلات المجتمعية المرتبطة بالقضية السكانية في شمال سيناء    بسبب تأكل المواسير| تسرّب في خط الوقود الرئيسي المغذي لمنطقتي المنيا وأسيوط    المشدد 3 سنوات ل6 أشخاص بتهمة حيازة أسلحة واستعراض قوة بشبرا الخيمة    جامعة حلوان تنظم ورشة عمل للتعريف باختصاصات عمل وحدة مناهضة العنف ضد المرأة    وزارة الأوقاف تفتتح 12 مسجدًا الجمعة القادمة    5 معلومات عن السيارات الكهربائية في مصر |إنفوجراف    بيخوفني.. لهذا السبب كريم قاسم يتصدر مؤشر جوجل    الأربعاء.. انطلاق فعاليات الدورة الثانية لمعرض زايد لكتب الأطفال    بعد تصدرها التريند.. ما هي آخر أعمال نسرين طافش؟    مفاجأة كبرى.. ديبالا في مدريد هذا الصيف    جامعة كفرالشيخ تتقدم 132 مركزا عالميا في التصنيف الأكاديمي CWUR    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية الهندسة    دولة أوروبية تنوي مضاعفة مساعداتها للفلسطينيين 4 أضعاف    الجنائية الدولية: نسعى لتطبيق خارطة الطريق الليبية ونركز على تعقب الهاربين    وزيرة الهجرة: للمجتمع المدني دور فاعل في نجاح المبادرات القومية الكبرى    شعبة الأدوية: الشركات تتبع قوعد لاكتشاف غش الدواء وملزمة بسحبها حال الاكتشاف    هيئة الأرصاد الجوية تحذر من اضطراب الملاحة وسرعة الرياح في 3 مناطق غدا    «على قد الإيد».. أبرز الفسح والخروجات لقضاء «إجازة الويك اند»    برلماني: مصر قادرة على الوصول ل50 مليون سائح سنويا بتوجيهات الرئيس    نائب محافظ أسوان تتابع معدلات تنفيذ الصروح التعليمية الجديدة    كورتوا على رادار الأندية السعودية    أخبار الأهلي : مروان عطية يثير القلق في الأهلي.. تعرف على التفاصيل    الشيبي يظهر في بلو كاست للرد على أزمة الشحات    وزير التعليم يفتتح الندوة الوطنية الأولى حول «مفاهيم تعليم الكبار»    لماذا أصبح عادل إمام «نمبر 1» في الوطن العربي؟    أشرف عطية يتفقد الأعمال الجارية بمشروع محور بديل خزان أسوان الحر    "العيد فرحة".. موعد عيد الأضحى 2024 المبارك وعدد أيام الاجازات الرسمية وفقًا لمجلس الوزراء    «الزراعة»: مشروع مستقبل مصر تفكير خارج الصندوق لتحقيق التنمية    مصرع شخص غرقاً فى مياه نهر النيل بأسوان    مقبلات اليوم.. طريقة تحضير شوربة الدجاج بالمشروم    «صحة النواب» توصي بزيادت مخصصات «العلاج على نفقة الدولة» 2 مليار جنيه    بالصور.. وزير الصحة يبحث مع "استرازنيكا" دعم مهارات الفرق الطبية وبرامج التطعيمات    طالب يضرب معلمًا بسبب الغش بالغربية.. والتعليم: إلغاء امتحانه واعتباره عام رسوب    التشكيل الرسمي لمباراة الاتحاد السكندري وسموحة في الدوري    دعاء للميت في ذي القعدة.. تعرف على أفضل الصيغ له    مهرجان الإسكندرية يعلن تفاصيل المشاركة في مسابقة أفلام شباب مصر    «الداخلية»: ضبط 25 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    وزير الدفاع البريطاني: لن نحاول إجبار أوكرانيا على قبول اتفاق سلام مع روسيا    داعية إسلامي: يوضح ما يجب على الحاج فعله فور حصوله على التأشيرة    أحمد الطاهرى: فلسطين هي قضية العرب الأولى وباتت تمس الأمن الإقليمي بأكمله    مصر تدين الهجوم الإرهابى بمحافظة صلاح الدين بالعراق    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    مفتي الجمهورية يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمى..    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    فى أول نزال احترافى.. وفاة الملاكم البريطانى شريف لوال    "مقصود والزمالك كان مشارك".. ميدو يوجه تحية للخطيب بعد تحركه لحماية الأهلي    رئيس جامعة القاهرة: زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين 25%    الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم الأراضي السكنية بمشروع 263 فدانا بمدينة حدائق أكتوبر    «الأونروا»: أكثر من 150 ألف إمرأة حامل فى غزة يواجهن ظروفا ومخاطر صحية رهيبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحجر همسة.. والخشب نسمة.. والزجاج مناجاة.. عمارة الخلاء (2 - 2) مسجد قايتباى.. كوكب من الضوء
نشر في المصري اليوم يوم 15 - 09 - 2009

مازلنا مع موسوعة بريس دافن أو إدريس أفندى الفرنسى.. خمس لوحات ضمها المجلد.. الأول، المخصص لفنون العمارة فى معظمه، ثلاث منها تصور المسجد من الخارج والداخل، ولوحة تفصيلية لنقوش المئذنة وأجزائها، وأخرى لواجهة السبيل اللوحة الأولى تمثل منظراً عاماً للمسجد، أتصور أن بريس دافن كان يقف فى نقطة تقع إلى الشرق باتجاه الشمال قليلاً عندما كان يرسم المسجد، تبدو الواجهة والمدخل والسبيل والضريح والمئذنة، الملامح الرئيسية كما هى الآن تقريباً، ولكن المبنى الأمامى المخصص للحوض والساقية يبدو فى اللوحة متصلاً بالمسجد، يصلهما جدار عريض، أزيل، وشق طريق ضيق يمر الآن بين المسجد والحوض..
فى اللوحة بعض أحجار المدخل محطمة.. ودرجات السلم أيضاً، والركن الغربى متهدم، هذا كله تم ترميمه خلال حقبتين مختلفتين فى القرن العشرين، الأولى، قامت بها لجنة حفظ الآثار العربية فى بداية القرن، والثانية فى المرحلة التى تولى خلالها الشهيد الدكتور أحمد قدرى هيئة الآثار المصرية.. نلاحظ فى لوحة دافن أن البيوت لم تكن ملاصقة للمسجد، والأرض رملية، الآن البيوت قبيحة المظهر تطبق على المسجد من الشرق والأرض مرصوفة بالأسفلت!!..
وأظن أن الرصف بالحجر أنسب لحوارى وشوارع القاهرة القديمة، وقد كانت كلها كذلك ولكن عباقرة المحافظة أزالوا الأحجار ورصفوا الحوارى بالأسفلت الذى سرعان ما تدب إليه البثور والحفر، وللعلم.. فإن أهم أجزاء العواصم الأوروبية مرصوف بالحجر، تماماً كما كان الوضع فى القرون السابقة.
تظهر المئذنة فى اللوحة سامقة شامخة إنها واحدة من أجمل المآذن المصرية على الإطلاق، ولن أتعجل الحديث عنها.. فلى عندها وقفة ستطول.
اللوحة الثانية تبين الإيوان المواجه للداخل من الدهليز، أما الثالثة فللإيوان الشرقى، حيث القبلة والمحراب، الملامح الأساسية باقية حتى الآن، وبرغم جمال لوحات دافن، فإنها مجرد إشارة إلى صرح عظيم، فللألوان فى مسجد قايتباى منزلة عظمى.
وأعود إلى رؤيتى الخاصة للمسجد وإلى علاقتى به.
■ ■ ■
جئت إليه مراراً، فى الأغلب الأعم بمفردى، ومرات قليلة مع من أحب، وأدرك اهتمامه بما سيرى، وإذ ألمح انفعالاً لا أبخل بوصف كل ما أرى، وما اعتقده من دلالات، بعد عشر سنوات مع مسجد قايتباى والمساجد الأخرى، أزعم أننى توحدت بها وبقدر ما تحقق لى هذه المعايشة من ثراء وجدانى وروحى.. بقدر ما أشعر بانعكاس هذا على عالمى الأدبى، بدءاً من الأسلوب اللغوى، وحتى المعمار الفنى للروايات، فالفنون متصلة.
جئت إلى المسجد فى أوقات مختلفة، صباحاً وظهراً وعصراً وغروباً وليلاً وما من مرة أبلغه فيها إلا أقول لنفسى عند دخولى الصحن: هذا كوكب من الضوء، منظومة من الألوان والزجاج والحجارة والخشب والعاج تحولت إلى كون صغير، مجرة من الجمال المهموس، هذه ليست أحجاراً صلدة ولكنها إشارات إلى الأصل الذى جلبت منه، وإلى البناء الذى تكونه الآن.
الزجاج الملون يرشح ويحول ويلون الضوء القادم من الخارج، الحروف العربية متداخلة متشابكة تطوق المكان من خلال السقفة والجدران، وحول المحراب، العقود من حجارة أحدها منقوش والتالى بدون نقش، يحدث هذا التبادل نوعاً من التجسيد ويضفى الحركة.
فى جدار الإيوان الرئيسى ثلاث نوافذ من الزجاج الملون المعشق بالجبس، النافذة الوسطى على هيئة دائرة، الزجاج أصفر، ربما رمز إلى الشمس.
المكان كله قائم على الجدران فقط، على الفراغ، ما من أعمدة، ما من جزء مكشوف، الصحن كله مغطى ومع ذلك فالإحساس بالسماء يستمر قوياً من خلال المساقط الأفقية التى تتخلل الدهليز المؤدى، وهذا الصفاء المدهش الذى يضفيه المكان.
مكانى المفضل للجلوس الإيوان الغربى.. المواجه للإيوان الرئيسى أولى ظهرى الأبواب الخشبية الثلاثة المؤدية إلى الخارج.. أرفع البصر محاولاً تثبيت النقوش والخطوط والألوان فى ذاكرتى.
أما أفضل أوقاتى، فلحظات الأصيل، حيث يقف الموضع كله على مشارف الغروب، ولا أدرى السبب الذى يجعلنى أصغى إلى تلاوة الشيخ محمد رفعت، تنبع من داخلى بدون أن يصلنى صوته من مذياع أو أى مصدر آخر، ينبعث الترتيل الكريم من المكان أيضاً من الزوايا، والأركان القصية الظليلة التى أعطاها الفنانون نفس العناية.. كل جزء أعد وصيغ بدقة رائعة.
وإذ أستعيد صوت الشيخ رفعت الرخيم، خاصة عند تلاوته بعض الآيات التى أرددها دائماً:
«أيحسب الإنسان أن يترك سدى».
«والضحى والليل إذا سجى».
يغمرنى هدوء عميق، وتلفنى سكينة قبل أن أقوم متوجهاً إلى القبة التى تحوى الضريح وأصبح متأهباً لمصالحة الوجود جميعاً!
■ ■ ■
لنتأهب
ليبدأ استعدادنا للدخول إلى أقصى وأبعد نقطة فى المكان إلى الجزء الثالث من المسجد، والذى يذكرنى بقدس الأقداس فى معابدنا الفرعونية، لنولى ظهرنا للصحن ولنمض إلى الضريح، إلى القبة التى يرقد تحتها السلطان الأشرف قايتباى.
لا شىء يوحى بالمكان الذى سنمضى إليه، مجرد باب من الخشب المنقوش، المطعم، لا تميزه أى خصوصية، فحول الصحن عدد آخر من الأبواب، وكثيرا ما أدخل الصحن بعد الظهر، بعد انصراف الحارس المكلف من هيئة الآثار، إنه يغلق هذه البوابة الصغيرة بقفل، فيصبح اجتيازها صعباً، لو أن شخصاً يدخل لأول مرة، ويجهل المكان لما خطر له أن خلف هذه البوابة الصغيرة ممراً صغيراً يؤدى بنا إلى كون بأكمله.
نجتازه إذن، ممر صغير بين جدران الصحن والقبة، متصل بالسماء، لا سقف، سلالم تؤدى إلى الفناء الخلفى، نجتاز باب العتبة، وسرعان ما يغمر الروح مزيج من أحاسيس مختلفة، منها السكينة والخشوع والرهبة والرضا والتسليم وخوف ناءٍ.
نحن تحت القبة الشاهقة التى تبدو من بعيد متناسقة متكاملة مع المئذنة، محفورة عليها زخارف نباتية من الحجر نفسه، رؤيتها من بعيد شىء، والوقوف تحتها شىء آخر.
القبة تحتها الضريح دائماً، القبة رمز ومعنى، أما الرمز فلقبة الكون الكبرى، لقبة السماء الزرقاء التى يحدها الأفق ويجعلها أيضاً تبدو لا نهائية، وهى معنى لأن الراقد تحت الضريح، ولى من أولياء الله الصالحين كان، أو ملكاً، أو أميراً، أو شيخاً فقيهاً محدثاً، مضى عن هذه الدنيا إلى العالم الآخر، وهذه القبة التى هى رمز للكون تعنى الأبدية أيضاً.
وللقباب فى المعمار الإسلامى شأن عظيم لنا معه وقفة أخرى، لكن الذى يعنينى من قبة قايتباى أنها نهاية مطاف فى تطور طويل، فى قبة قلاوون يقوم البناء على أربعة مداميك، وأربعة أعمدة جرانيتية لابد أنها كانت جزءاً من معبد فرعونى ذات يوم، ولكن فى قبتى خانقاه فرج بن برقوق، وقايتباى، يقوم البناء هنا على فراغ، على الهو، نعم.. على اللا مادة، تبدأ جدران القبة من الأرض مربعة وترتفع بما يوازى ارتفاع أربعة طوابق من بناء حديث، وعند نقطة معينة تبدأ المقرنصات، إنه الحل الهندسى العبقرى الذى توصل إليه المهندس المصرى المسلم للانتقال من الشكل الرباعى إلى الشكل الدائرى للقبة.
والمقرنص كلمة لم يحسم العلماء أصلها حتى الآن، وإن كنت أميل إلى رأى الدكتور عبدالعزيز مرزوق فى كتابه «الفنون الزخرفية الإسلامية»، حيث يقول إن أصلها لفظة «مقرفص» للتشابه الغريب بين حنية المقرنص وبين الجالس القرفصاء، أما فى قاموس لسان العرب، فالمقرص صفة للبازى المعد للصيد أو المربوط ليسقط ريشه، وما من صلة بين معنى الكلمة فى لسان العرب، وشكل المقرنص المعمارى، أما ما يقوله دياز DIAZ فى دائرة المعارف الإسلامية إن الكلمة مأخوذة عن كورنيس اليونانية أى كورنيش، فهذا تحليل واه وكلام فارغ.
المقرنص حل معمارى إسلامى خالص، لا تراه فى أى معمار آخر فى العالم، يتكون من وحدات متصلة، منفصلة، نفس القانون الذى يحكم فن الزخرفة العربية، كل وحدة مستقلة بنفسها، ومتصلة بما بعدها، يمكن أن يستمر التكرار بلا نهاية تماماً كاستمرار الزمنى الأزلى، ويمكن أن تتوقف الوحدة أو الوحدات عند أى نقطة فيكتمل الشكل الزخرفى أو الهندسى، تماماً كالزمن الفردى المحدود ببداية ونهاية. ما من شىء يعكس المفهوم الإسلامى للزمن وللحياة كالفن العربى الذى اصطلح على تسميته بالأرابيسك.
المقرنص الواحد يشبه محراباً صغيراً، أو جزءاً طولياً منه، تتعدد أشكاله، يذكرنا فى العموم ببيوت النحل، فى الأركان الأربعة لقبة قايتباى تطل علينا المقرنصات الرقيقة المتراكمة فى حركة صاعدة إلى أعلى، وفى الوقت نفسه إذا وصلنا بالبصر إلى نهايتها يخيل إلينا أنها هابطة من أعلى إلى أسفل، المهم أنها نقطة محورية فى البناء ومرحلة تتدرج فيها الجدران من المربع إلى الدائرى، حيث تبدأ القبة التى تميل جدرانها حتى تلتقى كل جهاتها عند المركز الشاهق الذى يعلوه الجوسق النحاسى من الخارج، وأحياناً يطل العنصر الفرعونى بشدة وإلا فماذا يعنى هذا القارب الموجود فوق قبة مولانا الإمام الشافعى، أو قبتى فرج بن برقوق؟!.
ما من مرة أقف تحتها إلا وينتابنى فى البداية إعجاب ودهشة، كيف واتت الجرأة المعمارى المصرى العبقرى بلوغ الارتفاع الشاهق بدون أعمدة، صعد بالجدران والقبة مستنداً إلى الهواء، إن الأمر يحتاج إلى دقة هائلة وإلى قوة خيال أيضاً، وهذا كله وراءه طاقة من الإيمان ورؤية يريد المعمارى هنا أن يشعرك باللانهائية إذا تطلعت إلى أعلى صوب الخالق الأعظم.. وحقاً قد نجح، فرغم أن القبة مصنوعة من المادة ومن الحجر فإن الواقف تحت المركز مهما حاول فلن يدرك نهاية القبة، هذا الفراغ الشاهق، المنطلق من الأرض إلى العلو، وكالسهم لا يحد منه شىء حتى القبة نفسها، لا أقدر على إطالة النظر إلى لحيظات معدودات بعدها يرتد بصرى إلى الأرض متعباً مرهقاً.
لا فائدة، فالكينونة المادية لن تبلغ أبداً المركز والسمة.
وقد شاء المعمارى أن يشعرك أيضاً بمحدودية الحياة الدنيا وقصرها، هذا هو ضريح سلطان عظيم حكم تسعة وعشرين عاماً كاملة، وكان عصره مزدهراً، قوياً ها هو تحت الأرض، مجهول للكثيرين، وحقاً. لكم عجبت لشعبنا المصرى العظيم، البناء هنا رائع والقبة هائلة، ومع ذلك لا يقف أحد الزوار البسطاء ليقرأ الفاتحة خصيصاً على روح أى سلطان مدفون، وإن فعل يقول «لأرواح موتى المسلمين عامة»، ومع ذلك فإن الجموع تتزاحم حول أضرحة الأولياء والمشايخ الذين يجلهم الناس، إذا أردنا أن نعرف الفرق، فلنزُر القباب التى دفن تحتها السلاطين والأمراء، مثل قايتباى وقلاوون، وبرقوق، والمؤيد، والقباب المدفون تحتها الأولياء والمشايخ، مثل الحسين، والسيدة زينب، يوم الجمعة الماضى مضيت إلى زيارة أمى وأبى - رحمهما الله - المدفونين على مقربة من سيدى الليثى،
وسيدى عقبة، وسيدى ذى النون، والإمام الأعظم الشافعى، انتهيت إليه، جلست أمام ضريحه، تحت قبة هائلة الجمال، عظيمة البنيان، مجمع للفنون الإسلامية كافة، رحت أرقب الطائفين بالضريح، وتطلع الرجال والنساء والأطفال، وتمسحهم بأعتابه، على بعد متر واحد يقوم ضريح الملك الكامل، والملكة شمس، ولكن عبور الجمع أمامهما سريع، أدركت إلى أى حد يجهل المثقفون منا شعبهم، وأدركت إلى أى حد أفسدت النظريات علينا حياتنا إلى واقعنا الحقيقى، إلى علاقة الشعب المصرى الخاصة جداً، والطويلة جداً بقديسيه، فراعنة كانوا، أو مسيحيين، أو مسلمين.
تحت قبة الإمام الشافعى لاتزال الحياة تتدفق، ومجراها يسيل، تحت قبة قايتباى يزداد الإحساس بالفناء والعدم، ويبدو أن الملوك أدركوا ذلك، فتوسلوا بالأولياء ليذكرهم الناس، حتى إن بعضهم كان يدفن عند قدمى شيخ فقير صالح اعتقد الناس فيه.
على الطرف الآخر من القبة يوجد مربع داخله حجر أسود عليه أثر قدم، يقال إنه، أثر قدم سيدنا وشفيعنا محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى هذا الأثر يسعى العشرات من البسطاء يومياً، يقبلونه، ويتبركون به، وقد يلتفتون إلى السلطان الراقد تحت تربة من الرخام البارد.
■ ■ ■
كل ما فى القبة أصداء ورموز، فالمكان رمز للأول وللآخر، للبداية والنهاية، للحياة وللموت، والكلمات المكتوبة بخط عربى رائع متشابكة حول القبة، آيات بينات، النوافذ الملونة الموزعة على الارتفاع الشاهق، هنا أجمل وأرق مجموعة من النوافذ ذات الزجاج المعشق بالجبس، إحداها مستديرة ناحية الشرق، زجاجها أصفر، رمز للشمس ربما بعضها داخله أشجار خضراء، ربما رمز لشجر الجنة، فى الأعالى ست عشرة نافذة علوية شاهقة تنتظم حول القبة الدائرية، هناك فى أقصى الارتفاع أربع، كل منها تواجه جهة أصلية من جهات العالم.
على امتداد النهار ينفذ الضوء، ولكنه لا يصلنا فى صورته الأصلية، إنما يلامس الجدران ملوناً، أتأمل البقع المتداخلة التى لا يمكن تصنيفها، فلا هى حمراء ولا صفراء ولا خضراء إنما هى ألوان لا وجود لمثلها فى العالم الحسى، إنما هى شفرات يستعصى فكها لأنها باختصار.. ليست من عالمنا.
■ ■ ■
هكذا يتحول الحجر إلى همسة، والخشب إلى صدى، والكلمة إلى رمز، والوجود كله إلى حلم.
يعلو على الضريح كرسى المصحف، من الخشب المطعم بالعاج، أما المصحف نفسه فيستقر الآن فى مبنى دار الكتب المصرية المطل على النيل والمعروف بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
أخطو تجاه الضريح، أقرأ له الفاتحة، فلم يكن قايتباى ظالماً، ولا غشوماً، هكذا عرفته من خلال تاريخه، ومن أصدق من ابن إياس المعاصر له، حتى نقف على بعض من ملامحه لنستعيد بعضاً منه، خاصة البداية والنهاية.
■ ■ ■
فى كتاب «الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع»، يذكر السخاوى أن قايتباى ولد تقريباً سنة ثمانمائة وعشرين، أحضره إلى مصر تاجر الرقيق محمود بن رستم لذلك لقب بالمحمودى، اشتراه الأشرف برسباى سلطان مصر، ثم انتقلت ملكيته إلى السلطان الظاهر جقمق الذى أعتقه، وهكذا بدأ ارتقاء السلم المملوكى، يذكر السخاوى أن بعض الشيوخ الكرام تنبأوا له بأنه سوف يصير ملكاً، هكذا قال له المحب الطوخى، ومحمد العراقى شيخ خانقاه سرياقوس الذى قالها صريحة فى وجهه:
استفق فإنك الملك وكن من الله على حذر وإيقان. وتلك نبوءة تعرض للقتل، فقد كان سلاطين المماليك يخشون الأمراء الأقوياء الذين يمكن أن يخلفوهم ويحاولوا سلطنتهم. تقول مصادر التاريخ إن المنجمين قالوا للسلطان الغورى إن من سيخلفه على عرش مصر يبدأ اسمهم بحرف السين وسرعان ما بدأ الغورى يتعقب الأمراء الأقوياء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف السين ويعمل على تصفيتهم خاصة سيباى نائب الشام، لكن الغورى لم يفكر قط فى سليم العثمانى الذى غزا مصر وحوّلها إلى ولاية تابعة للأستانة وقتل الغورى نفسه!
أحد الصالحين رأى حلماً أخبر عنه، إذ شاهد شجرة رمان عليها ثمرة واحدة فقط وقايتباى يمد يده ليقطفها، لكن قايتباى أمره بكتمان ما رأى.. طبعاً تحوطاً وحذراً. يقول ابن إياس إنه فى رجب سنة 872ه، قرر الأمراء خلع السلطان تمربغا، ومبايعة الأتابكى قايتباى وتلقب بالملك الأشرف، وعندما تقدموا إليه بشعار الملك، العمامة السوداء، والجبة السوداء المطرزة بالذهب والسيف البداوى، تمنع وبكى، وألبسوه الشعار غصباً، وهو يتمنع غاية الامتناع.
لا نعرف هل كان تمنعه هذا ناتجاً عن رهبة حقيقية من المسؤولية الجديدة، أو أنه كان يتظاهر، أى يمثل، المهم أننى لاحظت أن الذين تمنعوا وبكوا من سلاطين المماليك هم الذين قضوا أطول الفترات فى الحكم، أمضى قايتباى حوالى تسع وعشرين سنة، ومات على فراشه وهذا أمر نادر فى العصر المملوكى، لم تقطع رأسه ولم يخوزق ولم يدس أحدهم السم له.
بلاشك كان عصره أزهى الأزمنة المملوكية وكان بداية النهاية أيضاً التى اكتملت عام 922ه على يدى سليم العثمانى.
كان قايتباى سلطاناً عظيماً، يذكرنا بملوك مصر الأقدمين رمسيس الثانى، وتحتمس، وأحمس، الحقيقة أن سلاطين المماليك كانوا فراعنة مسلمين، وأنا أقصد المضمون الثقافى والسياسى الذى استمر على امتداد التاريخ المصرى، ولهذا تفصيل طويل!
■ ■ ■
أتطلع إلى القبر، إلى الضريح الرخامى المهمل، أستيعد صوت ابن إياس وهو يصف موكب توليه السلطنة: «فلما ركب سار ومشت قدامه الأمراء بالشاش والقماش، وركب الخليفة عن يمينه، وسار حتى طلع من باب سر القصر الكبير، فلما طلع جلس على سرير الملك، وقبل له الأمراء الأرض، وذلك يوم الاثنين سادس رجب من السنة المذكورة، قيل ولى الملك وله من العمر أربع وخمسون سنة..».
يبدأ إذن عصر قايتباى، وتصل الفنون فيه إلى مستويات رفيعة، هذه القبة شاهد عليها، هذا التناسق، هذه الدقة التى تعتبر طابعاً للمكان كله، خلال سنوات حكمه بدا قايتباى كبناء عظيم، انتشرت منشآته فى مصر والشام والحجاز، ويضيق المجال عن حصرها، لكن أهمها بلا شك هذا المسجد، وقلعته الشهيرة فى الإسكندرية القائمة حتى يومنا هذا التى قامت على أنقاض منارة الإسكندرية وإعادة بناء المسجد النبوى الشريف فى المدينة المنورة بعد الحريق الذى شب فيه، ومازال البناء الذى شيده قايتباى يشكل النواة الأساسية للمسجد ولشخصيته المعمارية، عديدة ومهمة منشآت قايتباى المعمارية، كثيرة تفاصيل الأحداث التى تخللتها مدته، ونصل إلى النهاية مع ابن إياس إذ يقول:
«فلما كان يوم الأحد سابع وعشرين ذى القعدة من سنة إحدى وتسعمائة، فيه كانت وفاة الملك الأشرف أبوالنصر قايتباى المحمودى الظاهرى، توفى إلى رحمة الله تعالى فى ذلك اليوم بعد العصر وبات بالقلعة، وأخرج صبيحة يوم الاثنين ثامن عشرين فتوفى وله من العمر نحو من أربع وثمانين سنة ومات بعلة الدبلة، واعتراه علة البطن أيضاً، وامتنع عن الأكل مدة انقطاعه حتى مات».
وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وواحدًا وعشرين يوماً، بما فيه من مدة انقطاعه عند تودعك جسده.
يقول ابن إياس إنه عاش عمره كله وهو فى عز وشهامة، من حين كان خاصكياً إلى أن بقى سلطاناً ولا نُفِىَ قط، ولا تقيد ولا سُجن، وكان عليه سكينة ووقار، مهاب الشكل فى العيون، جميل الهيئة، مبجلاً فى موكبه، كفوا للسلطنة، وافر العقل، سديد الرأى، عارفاً بأحوال المملكة، يضع الأشياء فى محلها.
حسناً يا شيخنا العظيم ابن إياس.. فلتستمر فى سردك، ولأقرأ أنا الفاتحة على روح السلطان الذى دونت هذا عنه، فقد أصبح تحت تراب هذه القبة، وأنت أيضاً فى مكان ما من هذه الأرض، مازلت أجهله ولم أستدل عليه، لكننى أترحم عليك قبل تأهبى للصعود إلى المئذنة، وأقرأ على روحك الفاتحة، فكلنا مصيرنا إلى هذه الرقدة الأبدية، وحسن الحظ من سيذكره الناس يوماً، ومن أجل هذه الذكرى قامت هذه القبة، وذلك المسجد، وانتظمت هذه الفنون كلها.
من قايتباى نخرج إلى عالم القاهرة القديمة الذى تتعدد طبقاته ورموزه وإشاراته، لعلنا نقدر أن ننفذ إلى بعض منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.