«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسجد قجماس الإسحاقى (2-2) الرحيل عبر الأنفاس فى مسجد مسافر على الماء
نشر في المصري اليوم يوم 05 - 09 - 2009

تلك الرهافة اللونية على الجدران، الضوء المار عبر الزجاج والجبس، أعتبرها رسائل قادمة من أعماق الكون، هنا تتمثل إحدى خصائص العمارة المصرية الدينية، منذ العصور القديمة وحتى العصر المملوكى، الذى عرف اكتمال الشخصية المصرية فى العمارة الإسلامية، هذه السمة ضرورة وجود صلة بين البناء والكون، فى مصر القديمة كان تحديد الجهات من أهم شروط العمارة، مدخل الهرم الأكبر متجه إلى النجم سوتيس «الشعرى اليمانية» مداخل المعابد أيضاً المطلة على النيل، فى مقبرة حور محب فى وادى الملوك دُهشت فى غرفة الدفن عندما رأيت تحديداً دقيقاً للجهات الأربع الأصلية عند عمق بعيد تحت الأرض، إشارات واضحة إلى الجهات الأربع، إشارات لا تخطئ.. هذه السمة نجدها فى العمارة الإسلامية المصرية من خلال عدة خصائص، منها الصحن المفتوح فى قلب البناء، وتلك النوافذ التى تسمح بمرور الضوء عبر الزجاج الملون لتلقى بلمسات حانية من الألوان المتداخلة والصريحة، ألوان من الضوء، لم يكوّنها مداد ولا مادة.
فى النصف الأول من النهار تجىء الرسائل الضوئية من الشرق، تشتعل النوافذ بمهرجان كونى فتتضح الكتابة المبثوثة فى النوافذ، والتى تتضمن اسم المنشئ فى الأغلب الأعم أو آيات قرآنية.
فى النصف الثانى من النهار يفد الضوء من الجهة الغربية، من تتبع حركة هذه المساحات المتفاوتة ورعشاتها على الجدران يمكننى تحديد الوقت، قلت إنها أشبه برسائل من أعماق الكون، أحد المعانى الجلية من حركتها من ظهورها واختفائها، إنه لا شىء يثبت، لا شىء يظل على حاله. بمجرد أن ندرك الألوان تتحرك أو تختفى، إنها دلالة على حركة الكون، على ديمومته، لو ثبتت لصار عدماً. فى الحركة حياة وفى الثبات عدم وخواء، ما نظنه ثابتاً مقيماً أبداً لا يبقى على حاله.
«وترى الجبال جامدة وهى تمر مرّ السحاب..»
«كل يوم هو فى شأن..»
«والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم..»
هذا هو المضمون الكونى الذى أقرؤه فى تلك الرسائل، ما من شىء فى الواقع الذى ندركه بالحواس له صفة الثبات والاستمرار، حتى الجبال التى نراها راسخة، صامدة، عاتية، ليست إلا وجوداً مؤقتاً، مرتبطاً بظروف بعينها، هذه الجبال تمر كالسحاب فى رسوخها البادى، ويوماً ما، لحظة ما فى المستقبل الآتى لن تكون موجودة، تماماً مثل الكوكب الذى نعيش عليه، والمنظومة الشمسية كلها التى تدور إلى حين.
هذا التغير المستمر دعوة للتبصر، للنفاذ إلى الحقائق التى لا تزول، الباقية أبداً.
«كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام..»
الآن أقترب فى رحلتى بالحياة منذ أن ولدت من عامى الخامس والستين، وإنه لكرم من الله سبحانه وتعالى أن أبلغ هذا المدى الذى لم أتوقعه بالقياس إلى ما عرفته من أخطار وما مررت به من أزمات صحية. غير أننى الآن وقد وصلت إلى مرحلة متقدمة ألتفت إلى ما كان منى ويدركنى ذهول، حتى لأسأل نفسى بصوت مرتفع أحياناً: أهكذا مرت الأوقات؟ أهكذا مرت مراحل العمر التى لم أتصور أنها ستفنى؟
فى الطفولة يظن الإنسان أن أوقاته لن تنقضى أبداً، إن ما ينعم به من أمان الأسرة باق لن يزول، إلى أن يشتد عوده فيبدأ فى اتخاذ طريقه فى الحياة فرداً مفرداً، حتى الثلاثين من العمر يتطلع الإنسان إلى الآتى، وعندها يبدأ فى الالتفات، يزداد إيقاع السنوات سرعة مع التقدم فى العمر، ربما لكثرة المشاغل، وربما لخاصية فى تكوين الإنسان وعلاقته بالزمن، تعمل أسباب التفرقة والهدم والبناء أيضاً بدون أن ننتبه، بدون أن نعى، حتى نصل إلى لحظة نردد فيها آسفين: ليتنى ما فرطت!
هذا النور الملون يذكرنى فى حركته على الجدران بعمرى المنقضى، ما إن أتملَّ منه عند موضع معين إلا وأجده فى آخر بدون أن ألحظ الحركة، هكذا الأوقات، كل شىء زائل، كل ما نظنه ثابتاً فى سفر، نحن نرحل بين الأنفاس، ننتقل باستمرار، إلى أن تحل النقلة الكبرى فتسافر ذراتنا المكونة فى أرجاء الكون، ما أعظم الشيخ الأكبر سيدى محيى الدين عندما قال:
«لما كانت الحياة جمعاً والموت تفرقة..»
ذلك هو، وهذا مضمون الرسالة التى يسر لها الفنان المصرى المجهول الطريق لكى تصل إلينا، بريد الكون، شفرة الضوء الحاوية.
غير أن جامع قجماس الإسحاقى يمنحنى المزيد، هذا الجامع الذى تتحاور فيه العناصر، تتداخل الزخرفة بالعمارة، والعمارة بالضوء، والوجود بالعدم، أتطلع إلى أرضيته فأدرك المعنى من النقوش، الجامع محيط حاوٍ، والكل مسافر باتجاه المحراب حيث الوقفة النهائية بين يدى الله سبحانه وتعالى.
موج من بعده موج
إنها الأرض يابسة، إنه الرخام، لكن هذا كله بحر، محيط، فالماء واحد، النقش يقول هذا، إنها الأرضية التى بهرتنى عندما أدركت واستوعبت، الجامع كله منقوش بالموج، أمواج تلى أمواجاً، أمواج بيضاء وأخرى سوداء، تضاد اللونين أوجد حركة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار، موج يتبعه موج فلا ندرى الأسبقية لمن؟
كثيراً ما وقفت عند شاطئ الماء، نهراً كان أو بحراً أو محيطاً، أسأل نفسى: من أين تبدأ هذه الموجة؟ تماماً كما تلمسنى النسمة فأسأل نفسى: من أى موضع فى الكون هبت تلك النسمة، وكم قطعت من مسافة حتى وجدت طريقها إلىّ؟ كأن مصمم أرضية المسجد قرأ تساؤلاتى قبل وفادتى إلى الدنيا، أو يمكن القول إن الاستفسارات موجودة، علينا أن نجدها، كذلك الأجوبة، غير أن الأجوبة أصعب وقد لا نصل إليها أبداً، كم من أسئلة كبرى ستظل بالنسبة لى بلا إجابات حتى عروجى من الدنيا الذى بات وشيكاً.
من الجدار إلى الجدار موج يليه موج، لا يمكن تعيين بداية ولا نهاية، كذلك حركة الماء، الماء كله واحد عند الاستواء، حتى وإن كان بعضه عذباً والآخر مالحا، هكذا زخرفة الأرضية، هكذا النقش، ليس مهماً أن نرى، المهم كيف نرى، أرجو أن نتذكر ذلك.
يمكن للناظر أن يرى فى النقوش أشكالاً هندسية مجردة من مثلثات متعاقبة، وألا يرى المعنى الكامن، ويمكن تعدد الرؤى، بالنسبة لى الجوهر الواضح تدفق هذه الأشكال الموحية بالموج من نقطة لا يمكن تحديدها إلى أخرى لا يمكن تعيينها مروراً بالمحراب والمنبر اللذين تشير الأمواج كلها إليهما، لا يمكن اعتبار الحركة عكسية فى الاتجاه الآخر صوب الغرب، إنها حركة ذات اتجاه واحد، واحد فقط. تماماً مثل الزمن الذى يدفعنا إلى اتجاه واحد لا بديل له، لا رجعة منه ولا انثناء.
تستغرقنى هذه الأرضية التى تستلهم الآية الكريمة
«وكان عرشه على الماء..»
صحيح أن أرضية المسجد من رخام وحجر، لكن هذا كله يمر مرور الموج وينقضى مثل السحاب، هذا الوعى بالتلاشى يعبر عن جوهر العقيدة الإسلامية الذى يجد التعبير الأقصى عنه فى العمارة، إنه رفض الاكتفاء، اكتفاء البشر والأشياء بالموجودات المحدودة، وبكل ما يحيطهم من أشياء مادية ملموسة، تلبية لنداء العلو والارتقاء الذى لا يرد، يتجه بصرى منذ الدخول صوب المحراب، المحراب أولاً، منه ننثنى، منه نتطلع إلى سائر الجهات، حتى نمثل أمامه فنتوقف، كل بمفرده.
«ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة..»
ها هى الزخارف ترق وتشف كلما اقتربنا من المحراب، حتى إذا دنونا منه تتصاعد الأنغام الخفية، ويصبح كل غصن فى الزخرفة لحناً يمتزج بالآخر، وإشارة إلى المطلق.
أتأهب، ولكن قبل مواصلة الرحلة، قبل التقلب مع الأنفاس، أحاول استرجاع سيرة هذا الأمير، وما جرى له، وكيف انتهى الأمر بالمسجد إلى رجل فقير لم يكن له من الأمر شىء ولكن المسجد كله أصبح يعرف به، فسبحان من له الدوام.
الأمير قجماس
بعكس الأمير ألجاى اليوسفى، القوى، المتجبر، زوج أم السلطان، وأيضاً بعكس الطنبغا الماردينى الأهيف، الذى كان فى مشيه تعشق، محبوب السلطان، يبدو الأمير قجماس الإسحاقى هادئاً، مسالماً، محمود السيرة.
يقول شمس الدين السخاوى المؤرخ فى موسوعته «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» وكان مؤرخاً حاد اللسان، ناقداً قاسياً لأهل زمنه، يقول عنه: إنه قجماس الإسحاقى الظاهرى نائب الشام (المنصب الثانى فى الدولة المملوكية)، نشأ فى خدمة أستاذه وكان حسن الحظ، نلاحظ أن هذه صفة نادرة بين المماليك فقد كان الأمراء أهل حرب وسياسة وحكم، والذين اشتغلوا بالعلم والفن منهم استثناء، بعكس المصريين الذين تخصصوا فى الحضارة سواء كانوا علماء أزهر أو بنائين.
إذن، أتقن الأمير قجماس فن الخط، كتب نص البردة، القصيدة المشهورة وأهداها إلى أستاذه، وكتب فى حضرته البسملة، يبدو أن أستاذه كان يشك فيه، فى عهد السلطان خشقدم أصبح خازندار كيس (أى أميناً على الخزائن) وفى عهد السلطان بلباى صار أمير عشرة، وعندما تولى السلطان قايتباى ترقى فى المراتب حتى أصبح نائباً للشام، كانت حياته عامرة بالأعمال التى تعود بالفائدة على الناس، وكان ممن يوصفون بأنهم رجال دولة، يصفه السخاوى بقوله:
«وكان ساكناً خيراً من خيار أبناء جنسه متثبتاً متواضعاً متأدباً مع العلماء والصالحين».
أما ابن إياس فيذكره عند وفاته ويقول:
«وفى شوال من سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة جاءت الأخبار بوفاة نائب الشام قجماس الإسحاقى الظاهرى، وكان ديّناً خيّراً فى غاية الاحتشام مع لين جانب، وكان إنساناً حسناً لا بأس به...».
لا تناقض هنا بين شخصية الأمير ومسجده، رجل هادئ، خيّر، وعمارة بالغة الجمال، يقول أهالى الدرب الأحمر إنه بنى الجامع وبنى آخر فى الشام لكنه لم يدفن لا هنا ولا هناك، لقد دفن فى مقابر باب النصر، أما الذى رقد فى الموضع الذى كان من المفترض أن يرقد فيه، يشاء القدر أن يدفن فيه الشيخ أبوحريبة، وأن يعرف المسجد باسمه، هذه ظاهرة منتشرة فى مصر، أن يبنى أحد الحكام مسجداً لتخليد اسمه، ثم يحدث أن يطلق الناس أحد الفقراء على المسجد فيصير معروفاً به، ويلغى اسم المنشئ الأصلى، أبرز هذه الظاهرة فى المسجد الضخم الذى أمرت بتشييده خوشيار هانم (الوالدة باشا)، ثم أصبح اسمه مسجد الرفاعى بعد أن دفن فيه الشيخ أحمد أبوشباك، أحد أفراد الطريقة الرفاعية، هذه ظاهرة تتصل بعلاقة المصريين بحكامهم سأتوقف أمامها فيما بعد.
من هو الشيخ أحمد أبوحريبة؟ يحدثنا عنه على باشا مبارك فى خططه.
اسمه الشيخ أحمد الشنتناوى، من قرية شنتنا، أصله من مدينة قنا بالصعيد الأعلى، يقال إن نسبه يتصل بالشيخ عبدالرحيم القناوى، قرأ القرآن وحفظه فى صغره، ثم اشتغل بالفلاحة ونسج الصوف. وسلك طريق القوم أى أصبح متصوفاً فأخذ العهد عن الشيخ الشنتناوى، ثم حضر إلى القاهرة وفتح دكان عطارة، ثم اشتغل بحرفة الكتابة عند قبطى فى مخبز بحارة درب سعادة، ثم أخذ طريق الختمية عن بعض خلفاء الشيخ عثمان المرغنى المعروف بالختم وأصله من السودان، كتب مؤلفات عديدة منها قصيدة فى أسماء الله الحسنى نحو مائة بيت، وأخرى نحو ثلاثين، وتائية تحاكى تائية ابن الفارض، وتفسير للقرآن الكريم ومناجاة وأوراد وصلوات..
يصفه على باشا مبارك بكرم النفس، والعطف على الفقراء، أرسل إليه محمد على باشا خمسمائة جنيه مصرية فردّها، وأنعم عليه عباس باشا بأطيان فلم يقبلها، ولم يزل يترقى فى الإنعامات حتى توفى قبيل فجر الأحد لخمسة عشر خلت من ربيع الأول سنة ثمانى وستين ومائتين وألف (ه)، وكان عمره ستين سنة، دفن بجامع قجماس، هذا ما يحدثنا به على باشا مبارك.. شيئاً فشيئاً أصبح اسمه مرتبطاً بالمسجد، صار له مولد وأحباب، وأطلق اسم أبوحريبة على الشارع الممتد بجوار المسجد، فما أغرب مصائر البنيان مع الزمان، تتبدل بها الأحوال تماماً مثل البشر، فلأعد إلى المسجد ولأسبح مع الموج المتجه إلى المنبر.
المحراب والمنبر
منغم، منمنم، هادئ، مرقق، هذه أوصاف تتداعى إلى روحى كلما دنوت من المحراب، أمامنا تقنية جديدة ربما تستخدم لأول مرة فى العصر المملوكى، الزخارف ليست بقطع الرخام الصغيرة (الخردة) إنما بمعجون صُبَّ فى مجار دقيقة تشكل الفروع والأوراق زخارف مهسهسة، بلغت الرقة درجة أنه رقق الحجر، بل إن الرقة المنبعثة من المنبر تفيض على جميع التفاصيل المتفرعة، كأن الزخرفة منقوشة على حرير مهفهف، هنا تمثل كل الألوان، وتشف الموجودات عن مكنونها، لم يدعنا الفنان المصرى الذى أبدع هذا الجمال نتساءل عن هويته، فى مرة نادرة، استثنائية، كتب اسمه وسط المحراب فى دائرة.
«هذا من عمل عبدالقادر..»
ولأننى موقن أن الاسم وجود فى حد ذاته أنحنى احتراماً، شاكراً عبدالقادر وعمله، هنا يبلغ الفن الإسلامى الغاية القصوى.
الكلمة تصبح زهرة
المعنى يصبح تكويناً
التكوين يصير ابتهالاً
عند المنبر تكتمل ظروف الحوار، مع النفس، مع الكون، وتنهمر الإشارات، أعلى قبة من خشب تستدعى إلىّ ثراء قبة قايتباى، الألوان متماهية وليست متعارضة، المنبر ماثل كأنه درج من الهمس، من الضوء، كل نظرة إلى زخارف المسجد جالبة للترقيق، للاستسلام التام بأن الوجود الحقيقى للرب سبحانه وتعالى، لكل تفصيلة، زخرفة كانت أو تكويناً، خلفية قرآنية.
المنبر آية، خشب مغطى بالأطباق النجمية، تنتظم حول بعضها البعض، طبق نجمى من أربع وعشرين ريشة، كل الأشكال توحى بديمومة الكون، بحركة الوجود، باتجاهها صوب الفناء، بتسبيحها، كل بطريقته، بوسيلته، لكم أمضيت الساعات الطوال خلال تحولات النهار محاولاً تلقى قصائد النور وهسهسات الزخارف وابتهالات الحجر والخشب والصدف وكل ما تيسر هنا! فى طريقى إلى الخارج عبر الباب الرئيسى أتأمل عنصراً فريداً سابقاً لأوانه، باباً رقيقاً، مزخرفاً، له مجرى، بحيث يفتح بإزاحة مصراعيه إلى داخل الجدارين المتوازيين (أوكورديون)، عنصر فريد لا أعرف له مثيلاً فى العمارة الدينية بمصر.
أخرج إلى المدخل الذى كان مفروضاً أن أدخل منه، فى كل مرة أوقن أن روحى رقت وشفت، أجلس على السلم، مصغياً إلى ضجيج الطريق، متأهباً للخطو باتجاه حالة أخرى، وجود آخر فى مسجد أصلم السلحدار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.