من شباك عربة أحمد البنا المتهالكة يلقي بنظرة علي صفحة النهر, عند كوبري الرباط. كان يعشق رؤية المراكب والكباري أثناء سفره إلي قريتهم في الصغر كان يصنع مراكب من ورق ويتابعها في طشت الماءويتجه الماء بقوة ناحية البحر فيجرف معه القلب وأم جار النبي ماتت بالأمس فأحس باليتم, للماء لون حزين ولسحب التراب الجاثمة علي صدره شكل ولون خاص غير محدد, أطلق زفرة. آه ه.......... خرجت ممطوطة بطول فمه الواسع, منذ الصباح يشعر باختناق رغم أنفه الكبير الذي يتسع لاستيعاب هواء الشقة الرطب, قالت له زميلته مرة ان أنفه يشابه أنف والده, أحس أنه ابن حلال مصفي كما كانت تقول جدته, اعتدل علي مقعد السيارة الأمامي, تمدد, لم يشعر بالراحة صعد سائق السيارة يدير مفتاح القيادة, تقافزت العربة كأنها تنتفض, سارت في تثاقل, للأمس طقوس خاصة, فقد انتظرنا طويلا قبل الدخول له, يقول عنه صديقي: إنه صاحب الرسالات العلمية في هذا المرض, كان الوقت يمر بطيئا علي وجه الجميع والتمرجي يدخل بلا نظام. كانت حالتي أسوأ الموجودين, لكنه لم يدخلني رغم أنه وعدني عند الحجز, فجأة نظر إلي, تواري خجلا,, إلي أين لا أدري, مرت ثوان أخري ثقيلة, نطق اسم أمي سريعا. ثريا... انتفضت وصديقي واقفين, هي راقدة علي ظهرها منذ أسبوع, تصر علي عدم تناول الطعام كي لا تجد مشكلة في قضاء حاجتها, أزداد توترا, تأخذ لها أختي مبولة الصغار, لكنها تحتجز بداخلها اشمئزاز الغير, نفس المبولة التي كنا نضع فيها أوساخنا وتحملها فرحة, لابد أن تنهض حتي ترمي بهذا بعيدا. قلت لها لا داعي للسفر, لا حاجة لنا به, نأكل مثل كل الناس طوب الأرض, كانت ترفض وتصر علي أكل خبز القمح, كان طعمه سيئا لأنها لا تأكله معنا, كنت أكره يوم الأحد يوم ذهابها للبراري كي تحضر الزبد للذين لا يستطيعون رؤيته فيأخذونه بالتقسيط, كانت تقول إنهم غلابة وهم في حاجة لأن يبروا أنفسهم من الشحم النباتي فأصرخ: ونحن... أخذني التمرجي من يدي إلي غرفة الكشف قام صديقي يسندني, أشعر بأنني متهالك, فتح التمرجي باب الحجرة, كانت محكمة الغلق والضوء الأبيض ينتشر واللون الأبيض يغرق كل شيء حتي الطبيب خلف كرسيه تزحف الشعيرات البيضاء في رأسه ببطء, اعتدل قليلا علي أحد الجوانب, اندفعت مباشرة... هي راقدة منذ أسبوع... كان يطرق المكتب الخشبي بقلمه المزخرف وصديقي يتابع كلامي ويساندني بإيماءات أحيانا. لا أستطيع أن أذهب معكما, أنا لا أذهب للبيوت. لن تذهب للبيت سدي, تستطيع أن تري الأشعة. أمسك الأشعة, حدق فيها, قال بعادية: كسر في الفقرة رقم13, لكني لن أستطيع, تأتي هنا. نحن لا نملك ثمن الترفيه لكننا مضطرون لذلك. أسند ظهره بارتياح لكرسيه الوثير وقال, ادفع مائة جنيه, تنفست وكانت هي كل ما معي وما ادخرته, حمدت الله, خرجت مسرعا للتمرجي, أعد له جنيهات كثيرة وأربع خمسات. فرح الرجل كثيرا, جلست علي كرسي, اشتد عودي, تنهدت, كانت الوجوه مكفهرة, بجواري بنت صغيرة تتدلي ضفيرتها في انسياب أدهشني, كانت مجلة أطفال بيدي أضع فيها الأشعة, أعطيتها المجلة, قالت في سعادة.. أشياء جميلة جدا, لم تحك لي أمي حكايات أبدا. أخذتها بيدها السليمة, فتحتها, كانت شهادة تقدير معلقة علي الحائط, شكر وتقدير من أحد أثرياء البلدة, تراءت صورة الصيدلاني أمامي, حاولت طرد الفكرة, المهم أن يأتي ويراها, لابد أن يراها أحسن دكتور في الدنيا. لا يهم العلاج, عندما تراه سوف تنهض سوف تقوم كالحصان, تجري بين أرجاء الشقة الرطبة, تعود ثانية تحمل طشت الجبن وتبيع للصغير والكبير, سوف تعرف أنني أخاف عليها, نعم, ستجري, ستجري. كان الطبيب قد أنهي الكشف في العيادة, بدأ يطفيء أنوار حجرته البيضاء, تحركت يد الباب ببطء, وجدته أمامي, وقفت بسرعة, كان طويلا وشعره مشتعلا باللون الأبيض. مازال يمسك قلمه المزخرف, رأيت شهادة التقدير أمامي, قلت له أنها تحرك بعض أطرافها, ابتسم, بدأ التمرجي يلملم اضطراب الشقة ويطمئن علي مفرداتها, يطفيء الأنوار, خرج من الباب, خرجت مسرعا وراءه, ذكرني بمدرس الجامعة المتعالي, كان صرصور يمر أمام باب الشقة, دهسه بقدمه,, أحسست بالشفقة عليه, سألني. هل البيت بعيد عن هنا؟ لا, بعد مائتي متر. إذن العربية لا داعي لها. نعم نستطيع أن نختصر الطريق من بعض الحواري إن أردت. لا, يوجد الكثير من الحفر والمجاري الطافحة. شارعنا ثمانية أمتار, ويأخذ عربة سبعة أمتار ان أردت. لا داعي الوقت متأخر. كانت أنوار الشوارع خافتة, دبيب كل شيء يسمع واضحا كلب ضال ينبح في حارة سد, أخشي هذا النباح, تقول جدتي: إنه يري عزرائيل ومعني هذا أن عزرائيل قريب من شارعنا وأمي الوحيدة المريضة في الشارع, كانت كلماته قليلة يسأل عن بعد وقرب البيت وعمليات وأطراف عاجزة استطاع أن يحركها, أشعر بالاطمئنان, رغم أن الطبيب السابق وتمرجيه أكدا نفس الموضوع, اقتربنا من شارعنا, كان مضيئا لكثرة محلات البقالة به, يبدو أنهم قد نسوا أنوارها مضاءة كأنهم يرحبون بنا, شعرت أنه يهرول ناحية البيت, بدأنا نهرول وراءه,قلت له ها هو البيت, رقم اثنين وأنا خلفه, فوقف قليلا كي أفسح له الطريق. لا داعي, فأمي سيدة عجوز وأختي لها من الذكور أربعة كانوا يملأون الحجرة المواجهة للباب الخارجي, رآهم. تفضل, تفضل.. يا ستار.. يا ستار. أخذتني الكلمة, نفس الذي توقعته, العيال الصغار مرصوصون علي الأرض كأنهم عرائس, للعرائس شيء بصدر أختي حتي بعد انجاب الذكور, كان الولد أحمد الذي لم يتعد الرابعة متيقظا, هلل كعادته, دخل وراءنا الحجرة, كرر الطبيب نفس الكلام. يا ستار... يا ستار. حاولت أمي أن تعتدل لكنها لم تستطع, صرخت, نزعت روحي مني, هرعت أختي إليها, تغيرت ملامح أحمد, دخل التمرجي وراءه حاملا الحقيبة كأنه يعرف الحجرة جيدا, يعرف كل شيء فيها, الكتب الكراسي, الحصير البلاستيك, حتي الدهان المتساقط والذي يشكل رسوما سريالية وأشباحا ورؤوسا, عدل مساند الكنبة وساوي الفرش وجلس يسألها.. قالت: هاموت يا ابني, لا أريد أن أتعب أحدا معي. بدأ يتحسسها بتوجس, قدميها, تتحرك أصابعها, الأطراف تتحرك ببطء, بدأت صورة مغايرة ترسم علي وجهه, أحسست لأول مرة أنه ابتسم قبل ذلك, ضغط علي مكان الكسر الذي بالأشعة, لم تتأوه بشدة, ضغط أكثر, صرخت, اضطربت أوصالي, ربت علي كتفي, اقترب أحمد الصغير من رأسها, مسح لها العرق المتساقط منها لؤلؤا. لا تخف, انس الكسر, الحالة جيدة. ولماذا ترقد علي الخشب منذ أسبوع. غلط, تنام علي مرتبتها القطن, ويحضر لها حزام الوسط للعمود الفقري. حاضر.. تذكرت الصيدلاني, جلس يتأمل تفاصيل الحجرة, استراح علي الكنبة التي أعدها منذ قليل, أسند رأسه للمسند وراح بعيدا, جلست في مواجهته أنا الآخر, لكني كنت الاحظ عينيه الشاردتين, كانت شهادة تقدير لأبي الذي قضي أربعين عاما يكد في نسيج خمسة قد بناها علي كتفه كما يقول عمي الصاوي رحمه الله, يعشق صوت المكن لكنه الآن حزين, مصنع خمسة لم يعد ملكه, منذ قلت له: إنهم سوف يبيعون الشركة, خاف أن يكون الكموني هو الذي سيشتريها, لم يعد يذكر زملاءه بالعنبر ولا الشاي الساخن وليالي رمضان وصوت القرآن مع صوت المكن, بدأ ينام مبكرا حتي وأمي مريضة رغم أنه كان يعشق وردية الليل, توقفت عينا الطبيب عند صورتي وأنا طفل سألني: هذا أنت؟ نعم وعمري خمس سنوات. نط أحمد, جلس بجواره, مسح شعره وأردف... يبدو عليك الكبر, رغم العروسة البلاستيك والصندل البلاستيك الذي تنتعله. كانت ثمة نظرات تعجب تبدو من التمرجي الجالس منتظرا أن يذهبا, أحسست أنه استراح هنا, استراحت الدنيا, هدا كل شيء حولنا, أحسست بأنني أود أن أغلق الباب ويبقي معنا, استكان الوجود, دخلت أختي ومعها زجاجة التيم التي يحبها أبي والتي اشترتها بعد العشاء مباشرة, لم يشربها, وقفت أمامه لثوان, تفضل, لم يشعر بها, فزع, وقف, قفز أحمد علي الأرض, وقع, رفع يده الصغيرة, ابتسم.. شكرا كنت أتمني أن أجلس أكثر. كان لي صورة مشابهة لصورتك لكني لا أدري أين هي الآن؟! نفس الصندل ونفس العروسة البلاستيك, آسف للإزعاج. أنا اسف, هذه أول مرة تخرج من عيادتك. لا تخف, هي بخير, اقترب أحمد ثانية منا, مسح له رأسه مرة أخري, ابتسم أحمد, ابتسم له, نظر ناحية الغرفة الأخري وهو خارج, كان الأولاد في نفس الصورة مرصوصين وأبي نائما علي سرسر جدتي. خرج, كان الشارع قد أطفأ أنواره, ونسمات صيفية بسيطة بدأت تتحرك. بدأ يسير في تثاقل, لم يرض أن أذهب معه, لم أستطع أن أبعد الصيدلاني من مخيلتي والمائة جنيه وحزام الوسط, دخلت مسرعا إليها, بدأت أحملها ببطء أنا وأختي, وضعناها علي المرتبة القطن, كانت تغوص بجسدها النحيل, لم تنم منذ عشرة أيام لحظات بسيطة مرت سريعا, وكانت أمي في عالم آخر وأختي هي الأخري نامت, لم يبق غير أحمد يشرب زجاجة التيم باستمتاع غريب وأنا جالس مكانه أعيد تفرس رؤية صورتي مرة أخري.والصبح يفرك عينيه من ظلمة الليل, ذهبنا إلي سيدي الششتاوي كي نعرف مصير الشيخ شحاته إلي جنة أم إلي نار, كان مولانا الولد الطويل النحيف صاحب الأنف الطويل يتمني أن يذهب الشيخ شحاته إلي النار, فطالما مده الشيخ بالفلكة علي قدميه المفلطحة لأنه لم يستطع حفظ سورة القارعة, كان يخشي يوم القيامة بعد أن فسر لنا الشيخ السورة, كان ماهر يحبه كثيرا فقد كان يربت ظهره ويمسح شعره ويعطيه عسلية رغم أن لسانه كان ثقيلا, يأكل نصف الحروف فيضحك الجميع عليه, يأخذ مولانا عصا جافة ويضعها علي قبر المتوفي فإن اخضرت كان من أهل الجنة وإذا ظلت كما هي كان من أهل النار, يقول علي الدجوي إن مولانا الخبيث هو الذي يدعي ذلك فقد رأه من قبل وهو يمسك العصا الخضراء في يده والعصا الجافة في اليد الأخري. كان مولانا يدعي أنه سيصبح من أولياء الله الصالحين وأن سره سوف يصبح باتعا مثل الدكتور شيحه الذي عاش تحت الأرض وسوف يحول علي إلي كلب أو حمار لأنه يسخر منه, كنا نشبك أيدينا الصغيرة أنا وماهر ونسير معا متلاصقين خلف مولانا, كانت المقابر متطرفة عن البلدة, كنا نذهب في عز نقرة القيلولة فلا نخاف عفاريت أخت علي التي ظهرت لها علي شكل أرانب ولا نخشي حارس المقابر الذي يمسك بمطرقة من حديد يضرب من يزعج الموتي وخاصة الطيبين وأمل كانت من الطيبين. كنا نلهث من شدة الحر, ومولانا يمرق من بين العربات ونحن نجاهد وراءه وأنا لا أحب مولانا لأنه لم يقل لي الصدق عن أحوال أمل داخل مقبرتها رغم أنني أعطيته ما طلب مني, أخذ القرش صاغ وسندوتش الكفتة واللب السوري. قال لي: إنهم لم يحاسبوها بعد, هم في راحة اليوم, غدا سوف نري, سوف أضع لك العصا, وجاء الغد وبعد الغد والأيام تمر, ولم يقل شيئا, فذهبت للمقابر فلم أجد شيئا, قال ماهر: إن مولانا قد أخذ العصا قبل أن يمر عليها اليوم الذي دفنت فيه. قال لي علي مرة: إن مولانا الأهبل يحبها, وإنه نظر لشعرها الجميل الأسود خلسة وأنا جالس معها تحت شجرة التوت وحفيف الأشجار يغني لنا أغنيات أعرفها, أحفظها ونرددها معا. الحلوة دي قامت تعجن في البدرية. والديك بيدن كوكو.. كوكو. كنت أحب عينيها السوداوين وفيونكتها الحمراء, كنت أعطي لها ما معي من حلوي وماهر يعطي لها لبا ويضع لها الدقة ثم يبتعد عنا قليلا لما نقترب من بعضنا البعض, يسرح في شجرة التوت ويحاول أن يتسلقها فلا يستطيع, كنا نأخذها الحقول الخضراء الممتدة خلف سور المستعمرة وتجري وراء السور ونسند خدودنا لبعض وتسقط فيونكتها فأحملها إليها فتأخذها مني وتجري ثانية وأجري وراءها, يبتسم ماهر وينتظرنا حتي ننتهي ونعود إليه إلي الشارع ويدخلنا الشارع للبيت والبيت لحضن الأم ودفء الأب. لكن ماهر فقد والده الطبيب في67, كان يرقص في حفل سبوع أختي ايمان ويحملها ويوزع علينا السبوع, تضيء الشمع ليلا ونسير جميعا في الشارع وتزعمنا علي الدجوي, لا نخشي غارات اليهود والولد مولانا بيننا يدعي أن الطائرات تخشي منه وتهرب لما يجده الطيار معنا. كانت أمل تسير بجواري دائما, تضيء شمعة من أخري ولا تنطفيء شمعتها أبدا, حتي جاء يوم حلمت أنني أسقط من عل وأتهاوي في مكان سحيق, أسقط وأسقط بلا أرض تحت قدمي, ساخت روحي, قمت منزعجا, ربتت أمي ظهري وأعطتني ماء بسكر كنت يومها منذ الصباح الباكر أجلس أمام عتبة دارنا في اتجاه الشمس سمعت الزقزوقة تزقزق زقزقات خطفت قلبي, كنت أخشي هذا الطائر, تؤكد جدتي أن أحدا ما سوف يفارقنا عندما تسمعها, كانت تزقزق يوم سفر أخي الأكبر إلي الجبهة علي الضفة الشرقية للقناة, فيأخد قلبي معه, وكانت تقبله أيضا أمل ويضع يدي في يدها ويمضي, حتي تبلعه الحوار الضيقة والشوارع الواسعة. جاء ماهر وجلس بجواري, كان يبدو كئيبا هذا اليوم, لم يكن كعادته يضع اصبعه في فمه لما يكون فرحانا, كان بصري مصوبا ناحية باب دارهم المواجه لنا مباشرة, كان شئ غريب يحدث, رائحة الشيح التي أكرهها تفح من دارهم, تقول جدتي: إن تلك الرائحة تبعد الثعابين ومهمة جدا للميت, بعد الرجال أحضروا مغسلة المسجد التي نستند عليها لما نتوضأ, كنا نستبعد فكرة أن نكون عليها أنا وماهر وأمل, جاءت الخشبة الصغيرة بدأ قلبي يضطرب بعنف لا أحد صغيرا إلا أمل وأمها طويلة وكذلك والدها, أصوات بكاء مكتوم ينز من بينهم. أحس ماهر بشيء ما, نطق أملراحت وضعوها في الخشبة ساروا ببطء, من سيلعب معي تحت شجرة التوت, ومن ستسقط منها الفيونكة الحمراء, شارعنا يبتلع كل الآهات المكتومة, ذهبت وراءهم كان مولانا يسبقنا ويشد ماهر, سقطت احدي عدسات نظارتي علي الأرض, لم أهتم اقتربت من الخشبة, قلت لها: انني سوف أنتظرها عند شجرة التوت كل صباح وأنها يجب أن تغافلهم وتأتي بعد أن يرحلوا, أحسست أنها قالت لي: نعم, نعم, لكن أحدا منهم لم يسمع لأنهم كانوا يصرخون عاليا, سرت أتلمس الخشبة أربت عليها, أكرر لها ما قلت سلفا فتجيب نعم.. نعم. حاول مولانا أن يبكي رغم حزنه فلم يستطع, تظاهر بالبكاء, كان يضع بعضا من ريقه علي عينيه فلمحه علي وضحك ضحكات مكتومة, حزنت جدا من علي ولكني عذرته لما علمت مافعله مولانا وصلنا إلي المقابر, دخلنا من الباب الرئيسي نحن الثلاثة كي نتابع عصا الشيخ شحاته, كان الطريق للمقبرة ملتويا, والجو يلفح الوجوه بصهده, وتراب المقابر ناعم, فملأ أحذيتنا ورائحته لا تبعد عن رائحة عم مسعود صاحب شجرة التوت التي يجلس تحتها ويقول لنا, ونضحك. لا شيء يستحق أن تحزنوا. فقط لوموا أنفسكم علي الخطأ. لم نكن نفهم كلامه, قادنا مولانا إلي المقبرة, كان يعرفها من شاهدها, كانت العصا كما هي جافة لا شيء فيها من اخضرار الروح, أعلن مولانا بفرح وخبث: سيدي الشيخ شحاتة في النار.. في النار.. يعاني القارعة. تغير وجه ماهر سقطت دمعة دافئة, مسحتها له وربت ظهره, اقترب ماهر منه في غيظ, جز أسنانه, شده من شعره فصرخ صرخة مدوية, خلعت قلوبنا من مكانها, جري وتركنا وحدنا. سوف يقتلكم حارس المقابر يا ولاد الكلب. أحسسنا بالخوف لكن سرعان ما التصقنا ببعضنا, بدأنا نسير ببطء, توقفنا أمام مقبرة ما يحيطها نبات أخضر من كل الجوانب, وصبار يحاول أن يطاول شاهد المقبرة, أحسست أنها مقبرة أمل, نعم أمل, لم نتفق أن نقف عندها, توقفنا رغما عنا, عتبت عليها لأنها لم تأت لم تغافلهم, مضينا مسرعين إلي الخارج خوفا من حارس المقابر, كانت تجري وراءنا, تطاردنا, شعرت أن شيئا سقط منها, التفت حولي, كانت فيونكتها الحمراء, حاولت أن أمسكها, تلاشت بعيدا بعيدا.. ارتكن الولد مولانا بجوار العربة الميكروباص بعد أن تخطت الساعة منتصف الليل, كان يحلم بساعة بها نهاية يومه ويعرف منها موعد فيلم السهرة الذي لا يراه أبدا, فهو يعرف البداية دائما مع أذان الفجر, كانت تخدعه أمه بأنه نام كثيرا حتي فاته الفجر, وأنه مبروك ومكشوف عنه الحجاب, فيقوم بسرعة ويتوضأ ويصلي ركعات بالفاتحة التي لا يعرف غيرها. فقد قال له علي إنه من الممكن أن يصلي بدون التحيات ويقرأ الفاتحة عند كل شيء وخزه سائق الفترة المسائية, فهب واقفا. نعم يا أسطي. إنت هتنام هنا ياروح أمك لا يا أسطي. قوم يله, نادي, نادي. الشعبية, أبو علي,, الشعبية أبو علي. هروح اشعل حجر وارجع بسرعة, طوق العربية وابعد ولاد الكلب. اقترب من السيارة عشرات العيال يريدون أن يمسحوها مقابل قروش, نظر للسائق طردهم شر طردة رغما عنه, انسحبوا في صمت, رموا فوطهم علي الطوار, جلسوا عليها, وضعوا أيديهم علي الخدود, أمسك قطعة قماش قاتمة وبدأ يمسح, أحس بالقرف, رمي الفوطة هو الآخر, استند إلي عجلة القيادة, جلس ثانية فقد سخرت منه ايمان بالأمس عندما نظر لها وتنهد. أشاح بيده اليمني, يحكي له جابر حكايات جميلة كان يعشق السندباد ويتمني أن يراه, يحب رحلاته إلي بلاد العجب, مل طريقه اليومي من الشعبية إلي محلة أبو علي, حفظ طوب الأرض في تلك المسافة حاول أن يعد أشجارها مرة, لمحه الأسطي فضربه علي قفاه ضربة أعادت له العقل, فلم يعد يهتم إلا بعد القروش التي بيده, أرخي قدميه المنهكتين في استكانة, فرد ذراعيه فسمع طرقعات, ابتسم ابتسامة حيادية للهواء البارد الذي يصافح وجهه, جرب ابتسامة اخري لايمان علي وجهه مسحها بسرعة, هرش رأسه. كان جابر يغسل شعره كل يوم وتنظفه أمه ويرتدي ببيونة حمراء, لم يشعر إلا بشيء بين يديه, قتله بسرعةبعد أن نظر حوله, ابتسم رغم شعوره بالتعب, بدأ يغفو, كان السندباد يطير علي بساطه السحري وجد نفسه معه للبساط دركسيون, شيء عجيب, وجد نفسه يقف علي طرف البساط ينادي بصوت عال, تقافز. الهند, السند, بلاد العجب. ركب معه العيال الذين يمسحون العربات, الولد علي ملابسه نظيفة, شيء عجيب, لم يعد يمسح مخاطه في كمه, يرتدي ببيونة حمراء وحذاء زقلط لامعا, أين اصبعه الكبير؟! الهند, السند, بلاد العجب. ركب عيال من كل الدنيا, بيض, سود, صفر, حمر فرحين, كان السندباد يضحك لهم وكانت ست الحسن تعطي لكل ولد وردة, كان يأخذها ويحتار بها نظر إليها كانت تقربها من أنفها, بدأ يضعها علي أنفه, يشمها, يقلدونها, كانت ذات عينين خضراوين زرقاوين فقط عيناها مثل البنت إيمان التي بجوارهم والتي تلعب مع جابر الصندوق, لماذا لم يركب جابر؟! كل الأولاد المنادين قد ركبوا, أين جابر؟! جابر لا ينادي, ركبت سندريلا كانت رائعة الصورة, مرسلة الشعر, نحيفة مثله, اقتربت منه دون غيره, ضحكت له, ابتسمت السحب التي هم فوقها فارتعش البساط رعشة خفيفة, قبلته, أحس بدفء سري في جسده النحيل, أصبح مشتعلا, طلب منه السندباد أن ينادي, نادي بصوت سمع صداه من بعيد, أعجب بصوته نادي ثانية: الهند, السند, بلاد العجب. تجمع المزيد من العيال, ركبوا, كانت العنبة أكبر من أكبر بطيخة, نادي بصوت عال اهتز البساط بشدة, قال لهم السندباد: تماسكوا يا أصدقاء, مطب, مطب, تماسكوا, كل منكم يمسك الآخر, سمعوا كلامه, كانت دائرة رائعة رغم ذلك شعر بالخوف, فجأة نادي بصوت واهن: الهند, السند, بلاد العجب. اقترب منه السائق, ضربه في جنبه, هب فزعا, نادي.. الهند, الشعبية, أبو علي, الهند, بغداد, بلاد العجب. مسح عينيه, لفحه الهواء البارد وسباب الأسطي,نادي بصوت خفيض. أبو علي, الشعبية. ارفع صوتك با ابن الكلب, هند إيه وزفت إيه. أبو علي الشعبية, أبو علي الشعبية, بلاد العجب. كان يقف علي باب السيارة المفتوح دائما, رأي ملامح السائق القاطبة من المرآة, تشجع, لم يعره اهتماما, كان السندباد يقودهم إلي قصور بغداد, ودجلة ينساب تحتهم في روعة نادي: الهند السند, الشعبية, أبو علي, بلاد العجب. أمسك السائق الفرامل فجأة, سقط علي الأرض تكور علي الطوار, كانت صورة السندريلا النحيفة وهي تضحك وتتراقص أمام عينيه ملتقصة بجفونه, ابتسم لها, أغمض عينيه, نادي بصوت متراجع: الهند, السند, أبو علي, بغداد, بلاد العجب. * للمؤلف مجموعات قصصية منها مقاعد خالية ومن حكايات البنت المسافرة. * وحاصل علي جائزة محمد تيمور في القصة( مركز أول)1998 ونال جائزة محمد تيمور في المسرح ثلاث مرات, اضافة إلي جائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلي للثقافة) ثلاث دورات(.