قصة من جوف الكتاب المدرسي أطل الطفل برأسه ليصوب نظراته نحو أبيه الذي تعمد تجاهله حتى لا يبدأ في الثرثرة أو يطلب شيئاً ينشغل به عن درسه، ولكن الإبن رفع صوته منادياً: - بابا.. هو يعني إيه القرين؟ اندهش الأب و سكت قليلاً قبل أن يجيبه متسائلاً: - إنتَ سمعت الكلمة دي فين ؟! أحس (علي) وكأنه يملك شيئاً هاماً فاعتدل في جلسته و قال بزهو: - سمعت عمتو ريهام امبارح بتقولها لماما و انهارده واحد صاحبي في الفصل إسمه محمد عباس كان بيقول إن كل واحد فينا عنده قرين شبهه و القرين ده شيطان و مستخبي في جسمنا و قاعد جوة الرِجل الشِمال زاد اندهاش الأب وتحجر لسانه أمام شغف ابنه لمعرفة معلومة جديدة يتباهى بها بين زملائه في المدرسه، فأخذ نفساً عميقاً وقال بصوت عميق: - بص ياعلي.. القرين ده عبارة عن شيطان مستخبي جوة دماغ العيال الخايبة وبيوسوسلهم انهم يرغوا كتير في كلام فاضي عشان ما يذاكروش و ما يعملوش الواجب وفي الآخر يسقطوا في الامتحانات و يعيدوا السنة.. في هذه اللحظة أتى صوت الأم عالياً و محتدا من داخل غرفة نومها: - ذاكر يا علي وخلص الواجب بدل ما آجي أطلع عليك الشياطين كلها تبددت ابتسامة (علي) والتف عائداً إلى كتابه، فيما انتقلت الإبتسامة إلى شفتيّ أبيه (خالد) والذي عاد لمشاهدة قناة الأفلام المفضلة... في تلك الأثناء توقفت سيارة (رامي) الحديثة على جانب أحد الشوارع بحي المهندسين، وخرج منها (رامي) برفقة صديقه (محمود) الشاب الأنيق ذي الياقة المنتصبة ليعبرا الطريق نحو الطرف الآخر فيتوقفان أمام أحد الأكشاك الصغيرة ليشتري (محمود) علبة سجائر، وما أن أخرج (محمود) النقود من جيب بنطاله حتى باغته البائع المتقوقع داخل صدفته بسؤال: - إنتَ أخو تامر هوندا ؟ اندهش (محمود) و أجابه بإبتسامته المعتادة: - هوندا ! لأ مش أخوه فأعاد البائع النظر إليه مرة أخرى متفحصاً قسمات وجهه بدقة بالغة قبل أن يقول له: - سبحان الخالق.. معلش يابني.. أصلك تشبه واحد أعرفه و كأنك أخوه - يخلق من الشبه أربعين يا حاج و في أثناء عودة الصديقين إلى السيارة استرق (رامي) النظر خلسه إلى وجه صديقه، و سأله: - هو ليه كل ما نروح مكان لازم يطلع شخص و يقولك إنك شبه حد يعرفه؟! يكُنش لك أخ توءم ومانعرفش ؟! ابتسم (محمود) ابتسامة خبيثة قبل أن يجيب : - هم النجوم كده تحس وشوشهم مألوفة ضحك (رامي) بسخرية وقال مستهزءاً: - بص يا نجم.. ده أكيد القرين بتاعك.. أنا سمعت إن كل واحد فينا له قرين يشبهله و عايش في سابع أرض و بيطلع لما تبص كتير في المرايا.. نظر إليه (محمود) بإستنكار فأردف (رامي) مؤكداً: - صدقني الكلام ده حقيقي وبجد.. وعشان تبقه عارف القرين ده ممكن يكون عايش على الأرض بس في بلد تانية بعيدة زي الأرجنتين مثلاً. رسم (محمود) على وجهه علامات الإقتناع وقال له: تصدق كلامك صح.. فعلاً من يومين كنت بتفرج على برنامج عالم الكائنات الغريبة على قناة ناشيونال جيوغرافيك و شفت سحليه شبهك بظبط عايشة في غابات تايلاند... على كنبته المفضلة في غرفة المعيشة أخذ يتأمل الأب إبنه (علي) المنهمك في كتابة واجباته المدرسية فشرد بذهنه بعيداً ليسبح في بحور من الأشواق تلاطمه أمواج الحنين حتى أبصر طيف حبيبته (يسرا) يلوح في الأفق بألوانه الزاهية، فمد ذراعيه يرفعهما ببطء ليعانقها مثلما عانقها منذ عقدين قبل أن يأبى الدهر معانقتهما مجدداً، فقد رحلت (يسرا) مهندسة الديكور رفيعة الذوق فاتنة المظهر، وظلت كلماتها تدق طبلتي أذنيه، فكانت مهندسة وفنانة وشاعرة دائمة الانكفاء على لوحاتها و كراستها تخطط و ترسم وتدوِّن، ولا ترفع رأسها إلاّ و هي تبتسم إليه قائلة «إيه يا خالد؟!» ، فيداعبها و يغازلها من وقت لآخر و يصارحها برغبته في أن ينال قسطاً وفيراً من اهتمامها شبيهاً بما يناله (البلوك نوت) المحظوظ، فقد أحس (خالد) و كأنها قالب آدمي لشخصه مضاف إليه بعض التحسينات، حتى أنه كان دائماً يعرف ماستقوله قبل أن تنطقه، وتعرف هي ما يكِّن في صدره من دون أن يفصح عنه، وفي كثير من الأحيان كانا يتلفظان بنفس الكلمة في نفس اللحظة، فقد كان التشابه بين ملامحهما و خصالهما و تحليلهما للأمور ملفتاً للنظر، فإن غابت (يسرا) عنه يوماً سأله زملاؤه ممازحين «قرينك فين يا زواوي؟» ، ولكن للأسف قد أدركها القدر ووافتها المنية قبيل خطبتهما بسبب المرض اللعين الذي أصاب البنكرياس فجأة... - خالد.. يا خاااالد أتى صوت (عبير) زوجته من الغرفة كطوق مربوط في حبل خشن يسحبه من جيده إلى بر من الواقع الكئيب، فلم يستسلم (خالد) وأغمض عينيه وأذنيه و لم يأبه لها، فرفع (علي) حاجبه الأيسر قائلاً: - بابا.. ماما بتنادي عليك نظر إليه الأب بإستنكار ورد منادياً: - أيوه يا عبير.. سامعك.. ثواني وهجيلك... مد (رامي) يده داخل (تابلوه) السيارة يفتش عن شيئ وسرعان ما أخرج زجاجة عطر حريمي رخيص الثمن، نزع غطاءها وضغط البخاخ بسبابته يرش عدة مرات، فاستشاط (محمود) غيظاً وصاح في وجهه: - كفاية.. ارحمني من البرفان الحقير ده.. بيجبلي حساسية لما بشمه.. مش فاهم إنت بتلاقيه فين؟!!. توقف (رامي) و أعاد الزجاجة قائلاً: - مش أحسن من ريحة السجاير لم يكن احتفاظ (رامي) بزجاجة عطر حريمي صغيرة داخل (تابلوه) سيارته بسبب رغبته أن يمتلئ صالونها برائحته الزكية فحسب، وإنما كان لشغفه بهذا النوع تحديداً والذي تنسم عبيره على صدر معشوقته الأولى (صابرين) والتي عرفها من محطة المترو وقضى معها أحلى مغامرات الصبا، وظلت زجاجات العطر تتوالى من بعدها ولكن هذا النوع بقى ملاصقا لوسادته وغطاء مضجعه، فكلما غفا أو داعب جفنه الوسن اشتم العطر و كأنه بحر عاتي الموج يغمر سفينته فيغرق ويسقط إلى القاع قبل أن يطفو من جديد و يبحث عن عطر (صابرين) فيشتريه وتدق سبابته رأس البخاخ كلما ضاق صدره ليستنشق عبيره، فيتسع صدره من جديد وينتشي و تسري دماء الذكورة في عروقه بقوة. سكت (رامي) قليلاً قبل أن يترك مِقوَد السيارة ويلتفت إلى (محمود) قائلاً: - أنا مش قادر أنسى صابرين ولا أخلص منها - إيه إللي فكرك بِها دلوقتِ.. دي كانت بِت لامؤاخذة و مدمنة وماتت «أوفر دوز» - عارف.. بس كل فترة بحلم بِها وساعات كمان بحسها بتتنفس جنب مني على السرير.. ومرات بشوف خيالها بيعدي جنبي اقترب (محمود) يسأله: - رامي.. انتَ بتتكلم بجد؟! - صدقني الموضوع عاملّي أرق.. أنا بدأت أحس إن روحها موجودة معايا.. أصلها كانت بتحبني قوي و أنا كنت بالنسبالها... قاطعه (محمود) بحدة: بقلك إيه يا رامي.. سيبك من الهبل ده - هبل ! إنت مش لك في الروحانيات وبتقعد ساعات في اليوجا وبتقول إنك تقدر تبعت رسايل للبنت اللي بتحبها من غير ما تكون معاها! - بص يا رامي البنت دي أنا رايح أتقدملها بكرة.. و دماغي مشغولة هقول إيه لأهلها.. ومش قادر أركز معاك دلوقتي.. أشوفك بعد بكرة وخرج (محمود) من السيارة تاركاً (رامي) الذي لم ينطق و ظل ينظر أمامه في شرود طويل... نحو غرفة نومه تقدم (خالد) بخطَى بطيئة فإذا به يلمح (ريهام) أخته تجلس بجوار زوجته عبير على طرف السرير في مشهد نادر الحدوث، فدلف يسأل بإندهاش و ريبة: ايه الاجتماع المصغر ده؟! كان وجه عبير يكتسي بألوان القلق، فأشارت له أن يجلس أمامهما قائلة: فيه موضوع ريهام عايزة تكلمك فيه بس مكسوفة مال (خالد) برأسه في محاولة لإستبيان ملامح وجه (ريهام) التي أحنت ناصيتها في حياء، فقال لها: إحكي يا ريهام.. مش محتاجة واسطه فبدأت (ريهام) في سرد قصتها بصوت رقيق من دون النظر إلى عينيّ (خالد) فأعترفت له عن ذهابها منذ ثلاثة أشهر إلى أحد مراكز تعليم (اليوجا) بعد الإنتهاء من عملها الروتيني، وهو الذي دفعها لأن تتدرب بقوة حتى ترتقي لمستويات أعلى تكسر حاجز الملل اليومي و تدفعها للسكينة و حب الحياة و معرفة أسرارها، ولم يكن هذا هو مبلغ العجب في قصتها و إنما سيطرت على (خالد) حالة من الإرتباك حينما قالت له بصوت مرتعش: - في جلسة من الجلسات حسيت بشئ غريب و لما سألت عرفت إن حصل إقتران بيني و بين روح أحد الأشخاص انعقد حاجبا (خالد) و اندفع الدم إلى رأسه فسألها بحدة: - يعني إيه اقتران؟!! مش فاهم!! يعني إيه حصل بينكم؟! ومين الشخص ده؟ أجابت (ريهام) بهدوء و ثبات: اقتران يعني اتصال رَوحي في هذه اللحظة تدخلت (عبير) لتهدأ من روعه فقالت له : - ماتخفش .. ده تواصل روحاني بيحصل وكل واحد قاعد بعيد بلغت دهشة (خالد) ذروتها و زاد من حدة صوته: - و المطلوب مني إيه ؟ أجابته (ريهام) بهدوء: أنا بطلب منك تسامحني إني خبيت عليك و عايزاك تساعدني لأن الموضوع بيتكرر وبقيت بشوف خياله أحياناً وبحس بِه وبيلازمني وبيراقبني كأنه بيحرسني.. وأوقات كتير بستقبل منه رسائل وبتطلع حقيقية.. - رسائل إيه؟ و حقيقية إزاي؟! أخذت (ريهام) نفساً عميقاً ثم أجابت: - مثلاً.. يوم السبت اللي فات بعتلي رسالة إنك طالع على السلم و إنك اتكعبلت و وقعت على ركبتك و في أقل من دقيقة هتفتح باب الشقة بالمفتاح.. و ده حصل فعلاً.. - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. قالتها (عبير) بإنزعاج، بينما وجم (خالد) الذي تذكر تعثره في درج السلم فبرقت عيناه ولم يجد ما يقوله، فانسدلت العبرات من عيني (ريهام) وخرج صوتها متحشرجاً: وانهاردة بعتلي رسالة إنك ماتخرجش بكرة ولازم تكون موجود في البيت... لم يقتنع (خالد) بقصة أخته و رآها وهما ساذجا، و لم يخضع أيضاً لطلبها، بل وأصر أن تمتنع عن الذهاب إلى مركز (اليوجا) وطلب منها التوقف عن أداء مثل هذه الجلسات الشيطانية، ولكن رغبة ما دفعته لأن يجلس وحيداً بشرفة المنزل ويبحث في شبكة الإنترنت عن مقاطع لخُطَب دينية تتحدث عن القرين، فظل يشاهد ويسمع حتى غلبه النعاس... استيقظ (خالد) قُبيل أذان الفجر، فتوضأ ثم توجه إلى المسجد، فصلى ودعا الله في خشوع أن يصلح شأن أخته وأن يرزقها بإبن الحلال الذي يسترها و يخفف من أوزاره، وبعد أن فرغ الجميع من الصلاه توجه (خالد) إلى الإمام يصافحه و جلس بجواره يسأله عن القرين و عن إمكانية حدوث ما سمعه من أخته، وهل يعيش قرين الإنسان بعد مماته، فأجابه إمام المسجد بكلمات واثقة: - لا يعلم الغيب إلا الله.. وحقاً قد ذُكر القرين في القرآن في أكثر من آية.. وأتى القرين على لسان الرسول الكريم فقال صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا لَهُ قَرِينٌ مِنَ الشَّيَاطِينَ « ويمكن للمؤمن القوي أن يتغلب على هذا القرين لأن بقية الحديث تقول: «قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: وَلا أَنَا, إِلا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ «.. و في رأيي لا ينبغي للقرين أن يعيش بعد الممات لأنه «إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث». كانت كلمات إمام المسجد غير كافية لتنفي شك (خالد)، فعاد إلى البيت وتبختر في مشيته أمام (عبير) وكأنه انتصر بخروجه إلى المسجد، ولكنه عقد النية على ألا يذهب إلى عمله فإدعى إحساسه بآلام في بطنه وقرر عدم مغادرة البيت و إلتزم البقاء. وفي السادسة مساءً رن جرس باب المنزل ففتح (خالد) ليجد (محمود) الشاب الأنيق في أبهى حُله يقف أمامه حاملاً علبه مزركشة ويعتذر عن المجئ بغير موعد سابق ويطلب منه الدخول للتحدث معه، فسمح له (خالد) وجلسا في حجرة الصالون و كان من الطبيعي أن يبدأ (محمود) الحوار قائلاً: أنا محمود سيد.. جارك و ساكن في العمارة اللي جنب حضرتك.. وبشتغل في شركة اتصالات ومدرب معتمد لفن ورياضة اليوجا - أهلا و سهلا - بصراحة من فترة لمحت الآنسة ريهام و هي راجعة من الشغل و أعجبت بأدبها و أخلاقها و سيرتها الطيبة و لما سألت عرفت إنها أخت حضرتك فجيت عشان أتشرف و أطلبها منك.. و ياريت برضه نعرف رأيها.. في هذه اللحظة ومن خلف باب الصالون أطلقت (عبير) ضحكة كتمتها براحة كفها، فرفعت صوان أذنها عن الباب وهرعت إلى (ريهام) تزف إليها خبر قدوم أحد الأشخاص لخطبتها فلمعت عينا (ريهام) التي سألتها بلهفة: شكله إيه الشاب ده؟ - مالحقتش أشوفه كويس بس شكله شيك وفيه شبه منك.. قالتها (عبير) ضاحكة، ثم طلبت من (علي) أن يذهب إلى أبيه ويقول له أنها تريده، ويترك باب الصالون مفتوحاً حتى يسمح لعيني (ريهام) أن تلتقط صورة الشاب، وبالفعل طرق (علي) الباب وفتحه على مصراعيه، فإنكشف لهما المشهد بكل تفاصيله من خلف الستار، فإرتعدت (ريهام) وشهقت واضعةً كفها على صدرها، فرمقتها (عبير) بنظرة مرتابة وسألتها: - هو؟ أومأت (ريهام) برأسها إيجاباً، فسكتت (عبير)، ثم أشاحت بوجهها عنها تخفي تبسمها و قالت: - أنا رايحة لخالد عشان أعرف السيد قرينك ناوي على إيه