على خلفية تشابكات وتعقيدات المشهد الداخلي، حاز الخطاب الدينى حظوظاً وفيرة من النقد، دفعت به إلى مراتب عليا، علو الدين فى العقيدة الوطنية، ما جعل من الخطاب الدينى مسئولاً عن جملة الإخفاقات المصاحبة لحركة المجتمع فى سبيل إنجاز عملية التحول الديمقراطي. والواقع أن إفراطاً على هذا النحو، لا يدفع بنا إلى موقع صحيح يتيح رؤية موضوعية لرصد حقائق عدة، ربما فى غيابها يتخفف الكثيرون من مسئولياتهم الوطنية؛ ومن ثم فعن غير حق يحاولون العبور بمقتضى «خطاب»، لا يتجاوز حدوده الإعلامية والسياسية، إلى حدود مأمونة من الضمير الوطني، فى مرحلة يقصر فيها «الخطاب»، أياً كانت سمته ومرجعيته، عن إدراك فرص نجاح التجربة المصرية، ما لم يصاحبه جهد وطنى حقيقى وجاد. فليس من شك أن الخطاب الدينى فى حاجة مُلحة إلى تجديد، لا تبديد فيه، يلتقى بموجبه مع تبعات وتداعيات متغيرات شتى، نظنها بدافع ثورى أنها قد طالت المجتمع. غير أن خطاباً “إعلامياً”، وآخر «سياسياً»، لا ينبغى أن يتأخر عن اللحاق بالخطاب الدينى فى هذا الشأن، إذا ما صدقت الجهود لإنتاج «خطاب مجتمعي» جامع، به نعبر بصدق عن قدرة الوطن على صياغة إستراتيجية واضحة وحاكمة لمختلف محاور العمل الوطني. ففى سياق حركة المجتمع داخل الحيز الثورى المتاح، منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، مروراً بثورة الثلاثين من يونيو، صاغ المجتمع المصرى فعالياته عبر «خطاب مجتمعي»، لا يحمل الكثير من الطموحات الثورية، قدر ما يرتبط بالأسباب المُنشئة للثورة المصرية، بشقيها، فى يناير ويونيو على التوالي. غير أن إدراكاً لطبيعة «الخطاب الديني»، من حيث المنشأ والأهداف، ينبغى أن تشير علينا بما لا ننتظر معه أن يتحرك «الخطاب الديني» على نحو “ثوري” على غرار ما تحدثه الثورات الشعبية من تغيرات جذرية وسريعة، سواء فى الخطاب السياسي، أو فى الخطاب الإعلامي؛ فلطالما عانى «الخطاب الديني» من اتهامات بالتسييس على مدى تاريخ طويل من الصراع بين السلطة والمجتمع، بما يخرج بالأمر عن دائرة التجربة المصرية، إلى حدود تجارب إنسانية ممتدة فى أعماق التاريخ، واتساع الجغرافيا السياسية، الأمر الذى شكل جدلية عريقة حول التضمينات السياسية للخطاب الديني، وليس أدل على الطبيعة البطيئة لحركة الخطاب الدينى من مراجعة إسهامات الخطاب الدينى الرسمى فى فعاليات الثورة المصرية، مع ضرورة استثناء الخطاب الصادر عن جماعة الإخوان، بوصفه شأنا سياسيا بالأساس. من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى ضرورة إدراك أهمية، بل وحتمية، تحقيق التوازى فى «تطوير» مختلف محاور الخطاب المجتمعي، على الأصعدة السياسية والدينية والإعلامية، بوصفها الأكثر والأسرع أثراً فى تشكيل اتجاهات الرأى العام؛ فخطاب دينى جامد لا يمكن إخراجه من قوالبه التقليدية، فى غياب منظومة متكاملة من الوعى المجتمعي. تنطلق تلك الرؤية من كون الخطاب الدينى أعمق من مجموعة من الخطب والمواعظ الدينية والأخلاقية، تجد مناسباتها فى التجمعات الدينية، وربما يتسع أفقها وصولاً إلى شاشات الفضائيات؛ ذلك أن جوهر الخطاب الدينى يتعلق بالقطع برسالة تنويرية تفقد جوهرها ما لم تشملها بيئة مجتمعية، لا تجابه كل منطلق دينى بما رسخ فيها من قيم وممارسات سيئة الذكر، تراكمت عبر سلسلة من الأنظمة الحاكمة، لم يكن إلا الفساد داعماً لوجودها. والحال كذلك، لا يمكن التعويل على فرص نجاح محاولات تجديد الخطاب الديني، فى ظل خطاب إعلامى يقتات على نقائص المجتمع، ويضيف إليها رصيداً يومياً، قدر ابتعاده عن جملة المعايير الموضوعية والمهنية، الضامنة لنهوض الإعلام بدوره بالغ الأهمية فى مجتمع نام، تتصاعد فيه أهمية قادة الرأى والفكر، على مختلف منابعهم الفكرية. كذلك، أى خطاب دينى يمكن أن نحمله مسئولية إصلاح «خطايا» القوى السياسية، وقد انتهجت سُبلاً، وإن كانت مشروعة سياسياً، إلا أنها ليست على صلة، فى كثير من جوانبها، بمضمون المصالح الوطنية العليا، انتظاراً لنصيبها «الثوري»!، وفى ذلك أنتجت خطاباً سياسياً آثر إلا أن يرسخ «الاستقطاب» نهجاً وملمحاً مميزاً للتجربة المصرية على امتداد منعطفاتها الثورية، مُحتجزاً إدراكه لمفهوم «التعددية السياسية»، كمبدأ ديمقراطى أصيل، فى إطار ضيق من الخلاف والانقسام والتشتت، فيما لا يدعو إلى غير ما قاله ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطانى إبان الحرب العالمية الثانية...(رأيت وأنا أسير فى أحد المقابر ضريحاً كُتب على شاهده «هنا يرقد السياسى البارز والرجل الصادق»... فتعجبت كيف يُدفن الاثنان فى قبر واحد)!. لمزيد من مقالات عصام شيحة