شهدت العلاقات المصرية الروسية تقارباً واضحاً في الآونة الأخيرة، خاصة مع اضطراب العلاقات المصرية الأمريكية في أعقاب 30 يونيو، وتدهور العلاقات الروسية الغربية بصورة عامة إثر أزمة القرم، وانعكس ذلك التقارب في الزيارات المتبادلة المتكررة لمسئولي البلدين مؤخراً. تأتى آخرها زيارة فلاديمير بوتين إلى مصر، والتى قد تشكل محطة لإطلاق بعض أشكال التعاون الاقتصادي المشترك، وهو ما يأتي في إطار تعزيز العلاقات الثنائية في أكثر من مجال، وذلك في جزء هام منه لإطلاق عدد من الرسائل السياسية سواء من قِبل مصر أو روسيا في ظل اضطرابات العلاقات الخارجية التي يمر بها البلدان، وهو ما يُحمّل علاقاتهما الاقتصادية أبعاداً استراتيجية تتخطى إلى حد ما اعتبارات المنفعة المباشرة. الأزمة الاقتصادية تأتى زيارة بوتين إلى مصر فى ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التى تضرب روسيا مؤخراً، والتى بدأت أولاً بالعقوبات الاقتصادية الغربية التى تلت أزمة القرم فى العام الماضي، ثم تبعات انهيار أسعار النفط على الاقتصاد الروسى نظراً لثقل المنتجات النفطية فى هيكل الصادرات الإجمالية الروسية، ودور البترودولار فى الاقتصاد الروسي، خاصة منذ مطلع القرن الحالى مع ارتفاع أسعار النفط وتأثير ذلك على تعافى روسيا من أزمة نهاية التسعينيات. ففيما يتعلق بالعقوبات الغربية على روسيا، وخاصة عقوبات الاتحاد الأوروبي، فجدير بالذكر أن قبيل أزمة القرم، كانت روسيا هى ثالث أكبر شريك تجارى مع الاتحاد، فى حين كان الأخير الشريك التجارى الأول لها. وتمثل صادرات النفط والغاز أغلب صادرات روسيا إلى الاتحاد، فى حين تمثل الآلات، ووسائل النقل، والمنتجات الكيماوية، والمنتجات الزراعية الواردات الأبرز منه. وإلى جوار ذلك، تشير تقديرات مفوضية الاتحاد الأوروبى إلى كون ما يقرب من 75% من المخزون الإجمالى للاستثمارات الأجنبية فى روسيا مصدره الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة لتأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسى فى ضوء حجم العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وهو التأثير الذى لم تتضح إلى الآن أبعاده بالكامل نظراً للفترة الزمنية القصيرة نسبياً منذ تطبيق العقوبات، جاء الانهيار الحاد والمفاجىء لأسعار النفط العالمية – والذى أشار بوتين إلى دور تآمرى للغرب فيه – ليشكل صدمة خارجية قاسية للاقتصاد الروسي. فقد شكلت صادرات روسيا من النفط والغاز أكثر من 60% من إجمالى صادرات البلاد السلعية فى عام 2013، والتى بلغت ما يقرب من 515 مليار دولار، لذا مثل تراجع أسعار برميل النفط عالمياً (سعر سلة أوبك) من 107.9 دولارً فى يونيو 2014 إلى 44.4 دولاراً فى يناير 2015 ضربة للاقتصاد الروسى واختبارا جديدا لبوتين نفسه الذى تسلم السلطة فى توقيت مميز (منتصف عام 2000) مع بدء الصعود المطرد لأسعار النفط العالمية فى مطلع القرن الحالى وخاصة منذ عام 2001 حين كانت أسعار النفط 23.1 دولار للبرميل، وأنهى فترته الثانية فى منتصف 2008 قبيل التراجع الكبير فى أسعاره فى عام 2009 فى أعقاب الأزمة المالية العالمية، واستفاد بذلك طوال تلك الفترة من الزيادات المتواصلة فى الأسعار وآثارها الايجابية على الاقتصاد الروسى ونصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الذى ارتفع من 1775 دولاراً للفرد فى عام 2000 إلى 14600 دولاراً للفرد فى عام 2013، وهو ما لعب الدور الأكبر فى تعزيز شعبيته. العلاقات الخارجية البديلة يشكل التقارب الروسي - المصرى أحد جوانب المنحى الاقتصادي/السياسى لبوتين فى أعقاب تدهور العلاقات مع الغرب إثر الأزمة الأوكرانية، وهو القائم بالأساس على تعزيز التعاون والعلاقات مع أكبر عدد من البلدان النامية لتخفيف حدة آثار العقوبات الاقتصادية من جهة، وإفشال محاولات عزل روسيا سياسياً من أخرى. وهو التقارب الذى تجسد بوضوح عبر الاستغلال الروسى لإطار مجموعة «BRICS» النامية فى أعقاب أزمة القرم فى محاولات خلق مسارات بديلة لعلاقتها المتدهورة مع الغرب، حيث شهدت القمة الأخيرة للمجموعة فى يوليو من العام الماضى الإعلان عن تأسيس بنك التنمية الجديد ومنظومة الاحتياط المشروط، كبدائل محتملة لتمويل البلدان النامية بعيداً عن مؤسسات بريتون وودز، وهى القمة التى اختتمت فى يومها الأخير بجلسة عمل جمعت قادة البلدان الأعضاء بنظرائهم فى بلدان أمريكا الجنوبية، وجاءت بعد شهر تقريباً من انعقاد قمة مجموعة الدول الثمان الكبرى «G8» لأول مرة منذ 17 عاماً بسبعة بلدان فقط بعد استبعاد روسيا، البلد النامى الوحيد بالمجموعة، فى أعقاب أزمة القرم. وكانت أبرز المكاسب الروسية من التقارب مع مصر فى الفترة الأخيرة، صفقة السلاح التى وُقعت فى نهاية العام الماضى بقيمة 3.5 مليار دولار والتى تمولها السعودية والإمارات وفقاً لما تم الإعلان عنه، وهى صفقة كبرى بالنسبة إلى الطرفين وتمثل دفعة لصناعة السلاح الروسية، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار كون اجمالى صادرات روسيا من السلاح قد بلغ فى عام 2012 وفقاً للتقديرات 15.2 مليار دولار، كثانى أكبر مصدر للسلاح فى العالم بعد الولاياتالمتحدة، أى أن الصفقة تساوى ربع اجمالى صادرات السلاح الروسى تقريباً فى عام 2012. ووفقاً للتصريحات المتداولة، فإن صفقة السلاح هذه قد لا تكون الأخيرة بين الطرفين فى الفترة الراهنة وهو ما قد يتم مناقشته فى زيارة بوتين إلى مصر. وبجوار ذلك، فربما يأمل الجانب الروسى أيضاً فى أن يكون طرفاً فى عقود إنشاء محطات الطاقة النووية التى ترغب مصر فى اللجوء إليها فى الأعوام المقبلة. وعلى صعيد التبادل التجاري، يحمل التقارب آفاقاً جيدة للجانب الروسي، فالواردات المصرية يتقدمها النفط ومشتقاته، وبالتالى فزيادة صادراته الروسية إلى مصر قد تكون احد أهداف المحادثات الاقتصادية الثنائية بهدف اختراق روسيا لأسواق جديدة فى ظل العقوبات الأوروبية عليها. ويمثل القمح أيضاً جانباً هاماً فى التبادل التجارى بين الطرفين، فروسيا هى رابع مصدر للقمح فى العالم بعد الولاياتالمتحدة، ثم الاتحاد الأوروبى فكندا بصادرات بلغت فى عام 2013/2014 ما يقرب من 18.5 مليون طن، فى حين تحتل مصر صدارة بلدان العالم المستوردة للقمح بواردات وصلت فى العام نفسه إلى 10.2 مليون طن، وبالتالى فربما كانت تأمل روسيا كذلك فى النصف الثانى من العام الماضى فى زيادة صادراتها من القمح إلى مصر، لكن تراجع قيمة العملة الروسية فى أعقاب انهيار أسعار النفط أدى إلى تسارع شديد فى صادرات القمح الروسى لانخفاض تكلفته، وهو ما أدى لارتفاع أسعاره محلياً بما دفع الحكومة فى نهاية المطاف لوضع عدد من القيود على الصادرات تضمنت بعض الإجراءات والشروط ووصلت فى نهاية الأمر لتعريفة جمركية على التصدير. وبصورة إجمالية فإن التجارة بين مصر وروسيا قد بلغت فى عام 2014 وفقاً لجهات تجارية روسية 4.6 مليار دولار، تمثل الصادرات الروسية إلى مصر 4.1 مليار دولار منها، بينما تمثل وارداتها نصف المليار المتبقي، مع مساعى بإيصال التجارة الإجمالية إلى 10 مليارات بحلول العام 2020، خاصة فى ضوء منطقة التجارة الحرة التى وُقِعت اتفاقات إنشائها العام الماضى بين مصر والاتحاد الجمركى الأوراسى الذى يضم كازاخستان، بيلاروسيا، قرغيستان، ارمينيا، بالإضافة إلى روسيا. مكاسب مصر بينما على الجانب المصري، تتداخل آفاق المنفعة الاقتصادية المباشرة بصورة أكبر مع المكاسب الاستراتيجية من التقارب الثنائي، فزيادة التجارة بين البلدين ستعنى بالأساس زيادة الصادرات الروسية إلى مصر مع تنامى محدود لوارداتها منها، فمصر لن تستفيد من تدهور العلاقات الروسية الأوروبية فى التجارة لدخول السوق الروسى من بوابة صادرات الآلات ووسائل النقل والأدوية التى لا تصدرها مصر، وأقصى استغلال لهذا التدهور سيكون فى الغالب بعض النمو فى صادرات السلع الغذائية المصرية إلى روسيا والذى ستحده بطبيعة الحال طاقات إنتاج الغذاء المحلية التى ستعيق اغتنام حاجة السوق الروسى لواردات بديلة عن تلك الأوروبية. لكن على الجانب الاستراتيجي، ستستفيد مصر من زيادة صادراتها من القمح والسلاح الروسى بتحقيق قدر أكبر من التنوع والحرية فى مصادر أبرز وارداتها الاستراتيجية المرتبطة بصورة مباشرة بالأمن القومى للبلاد. تأثيرات سلبية يُضاف إلى ذلك أن الانهيار فى أسعار النفط سيؤثر بصورة سلبية على المكاسب الاقتصادية المحتملة للجانب المصرى من الطفرة فى العلاقات مع روسيا، فتدفقات الاستثمار الروسى إلى مصر لا تذكر تقريباً، ولم ترد حتى فى البيانات المصرية لعام 2013/2014، وذلك بالرغم من وصول تدفقات الاستثمارات الروسية إلى الخارج فى عام 2013 لمعدلات قياسية وتحقيقها 94.9 مليار دولار ارتفاعاً من 48.8 مليار دولار فى عام 2012. وبالرغم من إبداء الجانب الروسى رغبته فى العام الماضى فى ضخ استثمارات فى الاقتصاد المصري، إلا أن تراجع أسعار النفط قد يحبط هذه المساعى إلى حد ما، فقطاع النفط ذاته كان على رأس القطاعات التى حازت على اهتمام الجانب الروسي، لكن مع انخفاض العائد على الاستثمار فى النفط لخسارته ما يقرب من 60% من سعره، فسيتراجع على الأرجح حافز الاستثمار فى القطاع، أو تتقلص حجم الاستثمارات المزمع تنفيذها فى ضوء الأسعار الجديدة. الجانب الآخر من آثار الأزمة الاقتصادية الروسية على المكاسب المصرية المحتملة هو فى تأثيرها على السياحة الواردة إلى مصر، فروسيا تعتبر المصدر الأول للسياحة إلى مصر، فى حين تعد مصر ثانى أكبر مقصد للسياحة الروسية فى العالم، وتشير التقديرات إلى زيارة 2.4 مليون سائح روسى إلى مصر فى عام 2013، وذلك من إجمالى 9.5 مليون سائح إلى البلاد فى ذلك العام، وهو ما يعنى أن الروس قد شكلوا أكثر من ربع عدد السائحين إلى مصر فى 2013. لكن مع التراجع الحاد فى قيمة العملة الروسية فى الأزمة الحالية، فإن واردات السلع والخدمات، وعلى رأسها السياحة، سترتفع أسعارها أمام المواطن الروسى وبالتالى سيتقلص طلبه عليها، وهو ما سيشكل ضربة أخرى لقطاع السياحة المصرى تضاف إلى تأثره بعدم الاستقرار السياسي، والوضع الأمنى المتدهور فى ظل تصاعد العمليات الإرهابية خاصة فى شبه جزيرة سيناء، أحد أبرز المقاصد السياحية فى البلاد. توسيع الفرص إذن بالرغم من الأزمة الاقتصادية التى تضرب روسيا ومصر، والاضطرابات فى علاقاتهما الدولية خاصة مع الغرب - أو ربما بسبب ذلك من الأساس- فإن تقارب الطرفين قد يحمل إطاراً واسعاً من الفرص لهما. فروسيا تخطو نحو شراكات لا مركزية فى علاقاتها التجارية والاقتصادية فى العالم، وتدرك أن أزمتها مع الغرب قد تطول وهو ما سيستدعى إيجاد أسواق ومصادر بديلة له فى العالم النامى سواء فى دول جوارها، أمريكا الجنوبية، أو فى الشرق الأوسط وأفريقيا. وعلى الجانب الآخر فنمو العلاقات الثنائية يحمل أبعادا استراتيجية بارزة للجانب المصرى ربما تفوق المنفعة الاقتصادية المباشرة التى تمثل مكسباً رئيسياً للجانب الروسي، فاضطراب العلاقات المصرية الغربية، خاصة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية فى الفترة الأخيرة وبوادر استخدامها لورقة التسليح للضغط على مصر قد شكلت منعطفاً خطراً، وبالتالى فحتى إن لم تكن آفاق المكاسب المصرية الاقتصادية المباشرة واعدة، إلا أن التقارب المتزايد مع روسيا، خاصة فى صفقة التسليح والإشارات بخصوص التعاون فى الطاقة النووية سوف يخلق – بالإضافة إلى بديل عن السلاح الأمريكى – مرونة أكبر فى العلاقات المصرية/الأمريكية على عدد من الملفات التفاوضية، وهو ما يبدو كمحاولة لاستحضار مساحات الحرية والمراوغة التى تمتعت بها البلدان النامية فى حقبة الحرب الباردة والعالم ثنائى الأقطاب.