الطب بالفرنساوى بجامعة القاهرة    كامل الوزير يتفقد الخط الثاني للقطار الكهربائي السريع    إسلام عفيفى يكتب: فاسدون حيثما حلّوا    غزة تحاصر إسرائيل    الأهلي بطلا لكأس الكؤوس الإفريقية للمرة الخامسة في تاريخه    استقبال حافل لفيلم "الحياة بعد سهام" في عرضه الأول بمسابقة ACID بمهرجان كان السينمائي    بسبب توتنهام.. مدرب كريستال بالاس يكشف حقيقة رحيله نهاية الموسم    أسعار مواد البناء مساء اليوم الجمعة 23 مايو 2025    اليونيسيف: الأزمة الإنسانية فى غزة تعصف بالطفولة وتتطلب تدخلاً عاجلاً    موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد.. تعرف على حالة الطقس المتوقعة غدا    تسيير قافلة دعوية مشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء بشمال سيناء    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    الترجي التونسي يحصد برونزية بطولة أبطال الكؤوس الأفريقية لكرة اليد    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    تراجع أسهم وول ستريت والأسواق الأوروبية وأبل عقب أحدث تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية    كم تبلغ قيمة جوائز كأس العرب 2025؟    محافظ البحيرة: إزالة 16 حالة تعدي على أملاك الدولة بالموجة ال 26    ضبط كيان صناعي مخالف بالباجور وتحريز 11 طن أسمدة ومخصبات زراعية مغشوشة    عاجل|بوتين: مستقبل صناعة السلاح الروسية واعد.. واهتمام عالمي متزايد بتجربتنا العسكرية    يختتم دورته ال 78 غدا.. 15فيلمًا تشكل موجة جديدة للسينما على شاشة مهرجان كان    من مصر إلى إفريقيا.. بعثات تجارية تفتح آفاق التعاون الاقتصادي    مستشفى الحوض المرصود يطلق يوما علميآ بمشاركة 200 طبيب.. و5 عيادات تجميلية جديدة    بين الفرص والمخاطر| هل الدعم النفسي بالذكاء الاصطناعي آمن؟    القاهرة 36 درجة.. الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد غدًا    أمين اتحاد دول حوض النيل يدعو للاستثمار في أفريقيا |خاص    بث مباشر نهائي كأس مصر سيدات - الأهلي (1)-(0) دجلة.. جووول أشرقت تسجل الأول    حزب الإصلاح والنهضة: نؤيد استقرار النظام النيابي وندعو لتعزيز العدالة في الانتخابات المقبلة    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    تقديم الخدمة الطبية ل 1460 مواطنًا وتحويل 3 حالات للمستشفيات بدمياط    الزمالك يعلن جاهزيته للرد على المحكمة الرياضية بعدم تطبيق اللوائح فى أزمة مباراة القمة    ندوة توعوية موسعة لهيئة التأمين الصحي الشامل مع القطاع الطبي الخاص بأسوان    المشاط: الاستقرار الاقتصادي ضرورة لدفع النمو لكنه لا يكفي بدون إصلاحات لتمكين القطاع الخاص    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    أحمد غزي يروج لشخصيته في مسلسل مملكة الحرير    قصور الثقافة تعرض مسرحية تك تك بوم على مسرح الأنفوشي    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    "نجوم الساحل" يتذيل شباك التذاكر    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    وزير الزراعة يعلن توريد 3.2 مليون طن من القمح المحلي    زلزال بقوة 5.7 درجة يدمر 140 منزلا فى جزيرة سومطرة الإندونيسية    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الهلال يفاوض أوسيمين    ترامب وهارفارد.. كواليس مواجهة محتدمة تهدد مستقبل الطلاب الدوليين    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    مصادر عسكرية يمينة: مقتل وإصابة العشرات فى انفجارات في صنعاء وسط تكتّم الحوثيين    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سباحة رجل وامرأة في نهر الجنون
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 11 - 2014

لم يعد الصباح دافئا كعادته; فقد جاء الخريف بلسعات برد متمهلة, وتناثرت في السماء قطع سحب رمادية لا تحمل رعدا أو مطرا.
أتدثر مثل غيري بثيابي, وأعيد النظر في أعماقي بعيون القاضي القادر علي إدانة الجميع, لكن أعماقي تفاجئني بشخصية أخري لي. أري نفسي في أعماقي طفلا صغيرا, يبدو متجعد الوجود, كأن أحدا قد كرمش وجود هذا الطفل قبل أن يحبسه في ركن أعماقي.
هذا الطفل هو أنا.. وذلك القاضي هو أنا.
وهذا الزحام في الأعماق من صناعتي أنا.
ويظن البعض خطأ أن الإنسان له شخصية واحدة والحقيقة أن الإنسان منذ أن يولد وهو سائل هلامي يتم صبه في قوالب متعددة.
فأنت ذات مرة طفل محبوب, وأنت ذات مرة طفل شرير, وأنت ذات مرة ثالثة شاب ناجح وتنقلب مرة رابعة إلي شاب مطرود من عيون امرأة تتمناها. ثم تتغلب مرة خامسة لتجد نفسك أميرا علي عرش امرأة طازجة العطاء. ثم هاأنت ذا بعد سنوات تتدحرج علي الأرض من سكاكين الانكسار, فتكف الرئة عن الامتصاص الجيد للأوكسجين أو تعجز العين عن الرؤية بصفاء. ولامفر من ألا تعترف بأنك كائن يتم طبخ أدوارك المختلفة علي نيران لا يراها أحد غيرك.
وكنت وحدي في صباح أحد أيام الأسبوع الماضي الذي توهج بإشتعال القدس رفضا لموجة همجية جديدة من ادعاء الإسرائيليين أن هيكل سليمان موجود تحت أرض المسجد الأقصي, وأسبابي في البحث عن أخبار القدس هي ذلك السبب الشخصي تماما, وهو قصة حب لم تكتمل مع رحاب المولودة بقرية كفر حنة القريبة من الناصرة, حيث ولد السيد المسيح, ورفضت أن تقيم معي في قاهرتي التي لا أطيق فراقها, كما لاتطيق هي فراق نابلس وبيت لحم وكفر حنة. ولذلك راح بصري يمتد بحثا في المظاهرات أو في أفواج الزائرات للمسجد الأقصي عنها. أثق دون سبب ظاهر في أنها لابد وأن تكون في تمام حيويتها مهما كبرت, فهي لوحة عمري المسروقة مني, إنها امرأة يمتد الحنان من عيونها كأنهار الضوء وتطل من بشرتها كل أزهار الربيع الذي لا يمل أبدا من إضفاء العطر ومنح الرحيق. أضحك لملامحها في خيالي, هامسا من عشقي لك إقترض ياسر عرفات جملة كتبتها في هواك فقلبها هو, فأنا من كتبت أنا فلسطيني الهوي ليتحدث بعد ذلك بأسبوع قائلا أنا مصري الهوي وصفحات مجلة صباح الخير هي شاهدتي علي ذلك. تري هل كان يقرأ ملامح حبنا في قلبك ؟
أبتسم لقصة الهوي المكسور, فهي من كانت تتوهم أني قادر علي أن أغزل لها من دمي بيتا من خيوط الذهب وجدرانه فضة وضوؤه من لؤلؤ ومرجان. وقد بدأ غرامنا قبل يونيو1967 حيث كانت تدرس علم النفس بالقاهرة وتقيم في بيت الشابات المغتربات بمنطقة معروف, قادمة من قرية كفر حنه; حيث قام المسيح بمعجزته الأولي وهي تحويل الماء إلي خمر.
وفجأة هبطت هزيمة1967 لتجعلني ذلك الكاذب الكبير في واقع حياة رحاب, فأنا لم أصحب الجنود لتحرير القدس. بل ولم أعد مع الجنود عندما ساروا أياما تحت نير الطائرات. وهي أيضا تحولت إلي ضباب ذكريات. ثم جاءت حربنا المنتصرة أكتوبر1973 بكل مافيها من شجن تحسدنا عليه الأجيال التي جاءت بعدنا, فقد عبرنا القناة, لكن الأجيال الشابة تعايرنا باننا لم نعبر ما هو أعلي من خط بارليف, أعني به إدمان الخلافات العربية العربية, فمن بين الخلافات تسللت الضغينة لتسرق الحلم. ومهما حكينا لمن جاءوا بعدنا أننا أدمنا لشهور كثيرة متابعة الطوبة الفلسطينية التي ترجم الإسرائيليين, فهم لم يغفروا. وظلت رحاب في حياتي كائنا له معني مختلف, وتظل فلسطين عندي ذات شجن لا تجيد قراءته كلمات الصحف والإذاعات, وما أن يأتي خبر من فلسطين حتي تتجسد رحاب في لقاء انفصالنا قائلة لا يمكن أن أكون لاجئة حتي وإن كانت عيناك وطني.. أنا ابنة كفر حنة ولابد أن أقيم هناك.
ودائما أرقب صور الرصاص المطاط الذي يطلق من بنادق الإسرائيليين, الذين نجحوا في ركوب موجة تزوير المتأسلمين لمعني الجهاد, فصار لهم في حماس السند الذي يلجأون إليه لنشرب نحن عشاق عروبتنا علقم المرارة من آسي الخلاف, ولنحمل فوق رؤوسنا أطنانا من أوراق الاتفاقات والبرقيات والمظاهرات. كنت أعلم أن رحاب تخصصت في علم نفس الأسرة وتري علاقة السياسة بكل سلوك إنساني, وأتابع أبحاثها علي البعد, ولتدور الأيام شروقا وغروبا, ونحاول أن نلتقي دون قدرة علي اللقاء, فلا أنا قادر علي الذهاب إليها ولا هي قادرة علي أن تعبر كل تلك الحواجز لتأتي إلي حياتي. فأنا وهي لسنا من ذلك الصنف الأوروبي; حيث يدعي الفرد لنفسه أنه دولة مصونة ذات سيادة فيرحل إلي من يحب مهما بعدت المسافات. ولكن هي وأنا مجرد بشر من جنس العرب, حيث الإنسان هو كائن إلا قليلا, لا تكتمل رجولة الواحد منا إلا بعلاقات متميزة التواصل بين الأم والابن أو الابن والأب, والأخ والأخت. ولا تكتمل أنوثة المرأة في بلادنا إلا بعلاقات متميزة الوشائج بين الجد والجدة. فهناك سلاسل غير مرئية تشدنا جميعا بعضنا البعض لا يفر الواحد منا من قبضتها أبدا مهما ادعي لنفسه عكس ذلك.
وهكذا تعيش رحاب مشدودة إلي الناصرة وكفر حنه ونابلس حيث الإخوة والصحاب ورفض لحالة العيش كلاجئة حتي ولو في بلد عربي. وأعيش مزروعا بالقاهرة, اللهم إلا رحلات عابرة كل فترة من الزمن.
ولذلك استطاع التاريخ المعاصر أن يجعل كلا منا كاذبا رغم أنف حرارة الصدق العاطفي الذي ملأ وجداننا ذات صيف في برشلونة عام.1965 فقد استطعنا في ذلك الزمان أن نأتي بصديقين ليشهدا علي زواج شرعي وسافرنا إلي هناك بعشرات المئات من الألاعيب الصغيرة ليحتضننا فندق صغير في شاطئ اسمه كوستابرافا أي شاطئ الشجاع وفي قرية اسمها توسالامار أي زهرة البحر, لنعيش الذوبان والاختناق; حيث صار وجودها هو أرضي وصار وجودي هو نهرها, فتلاشينا في كلمات لا نعرف قدرة كل منا علي تحقيقها, وقامت بيننا معارك تافهة حول أسماء أطفالنا الذين لم ننجبهم وتعرينا لأشواك الذل القادم الذي لم نكن نتوقعه, ولم نصدق أبدا أننا لن نستطيع مقاومته.
ادعيت لها أني أعرف كيف أقود سفينة العشق في بحرها.
وادعت لي أنها قادرة علي أن تصنع بيت الكاتب القادر علي إنجاز كل ما يحلم من أعمال أدبية. وعندما تحسس كلانا وعود الآخر في أذنيه اكتشفنا أن كلا منا عاجز عن مغادرة بيت ميلاده, هي من كفر حنة وأنا من الإسكندرية العاشق للقاهرة.
ولذلك تشاجرنا كثيرا ولأسباب تافهة المظهر, عميقة الجوهر. تشاجرت معها علي سبيل المثال لأنها تشتري ملابسها من محلات باريس الشهيرة; وفي ذلك هدم للمستقبل. وتشاجرت معي لأني مجنون بتدخين السجائر المصرية التي لا يوجد مثيل لها وأنني يجب أن أكف عن التدخين حماية لنفسي من دهم السرطان. وذهب كل منا إلي زيجة أساسها التوافق النفسي وقبول الاخر دون رغبة في وضعه علي مائدة إعادة تفصيله علي مزاج ورغبات الطرف الآخر وصار ما بيننا هو تواصل لا يكف عن الفيضان النفسي علي الرغم من الجفاف الذي وضعته أماكن كل منا علي خريطة بعيدة عن خريطة الاخر.
وحين كان يقع التواصل, شاهدنا مجئ السرطان الصعب لفكرة العروبة,فعندما تدفق البترول غزيرا من بعد انتصار1973, لم تلتفت بلادنا لصناعة تنمية عربية شاملة ولكن لنعيش رخاء محدود الأفق في بعض البلاد العربية ويصنع جوعا مزورا في بعض بلاد عربية. وإن معظم الذين عاشوا هذه السنوات العربية وجدوا أنفسهم كالبالونات المنفوخة علي آخرها بهواء الأمنيات وصارت كل بالونة تخشي الاقتراب من أختها, حتي لا تنفجر. ورأينا سهولة التلاقي علي أرض أوروبا وأمريكا, وصعوبة الوجود علي أرض عربية واحدة. وانفجرت بالونة لبنان أولا باقتتال طائفي, ثم ليشتعل العراق بحرب إيران أملا في أن يكون بديلا عن شاه إيران, ثم لينفجر العراق بضغوط كراهية صدام حسين ليأتيه سكين تجزئته علي أيدي الاحتلال الأمريكي, ثم ينفجر الحلم بثورات في تونس والقاهرة وليبيا, ولينفجر الوجود السوري بالتنافر,فيصير أشلاء. وهكذا تلونت الأيام بهواء ملوث بالعجز وصار الإنسان يقرأ الجريدة التي تضم أخبار بشر يأكل بعضهم من لحم بعض,و كل منهم يري الآخر عفريتا فاسد الأخلاق. كل منا احتفظ لنفسه بلقب إنسان ونظر إلي الآخرين علي أنهم دمي. وكانت النتيجة النهائية أن كلا منا صار دمية في عيني أخيه. وتسوقنا علي مسرح الأيام كرابيج أرباح التجارة بكل شئ. وآخرها كان كرباج استغلال أرقي مناهج السماء وهو الدين في صراعات لم يأمر بها أي دين. وعندما كنا نطلب لأنفسنا تنظيم كل حياتنا; نجد أبواق الاتهامات تتوالي ألا تؤيد فلانا وعلانا. وصرنا كقبائل بدائية لا تناقش; ولكن تزعق وتندفع. وتم تعبئة عشرات المئات من إمكانات الحياة في صناديق صناعة تنمية الغرب علي عمومه وصناعة مزيد من التخلف في يومنا العادي.
...................
أقلب صفحات التذكار لأقرأ بعضا من لقاء تم بالمصادفة مع رحاب في نيويورك, ففي إحدي حلقات النقاش النفسية التي أداوم علي حضورها كلما سمحت لي الظروف, وجدتها أمامي تحضر نقاشا عن دور الدين في حماية الأسرة, حيث أضافت إيطاليا عبر الفاتيكان علما جديدا, ألا وهو علم إصلاح العلاقات الزوجية التي اختنقت بالحياة المعاصرة. وشاءت رحاب أن تجد في انعكاسات السياسة علي الرجل والمرأة ما يفتت الطاقة العاطفية التي تجمعهما في علاقة زوجية. ثم فجرت في أحاديثها أسرار محاولة إسرائيلية في أواخر الثمانينيات بالادعاء أن قبر المسيح ليس موجودا بكنيسة المهد, كما يدعون أن هيكل سليمان موجود تحت المسجد الأقصي. كانوا بمحاولة إنكار قبر المسيح زراعة عبث تتولد منه معارك عقائدية بين المسلمين والمسيحيين, و لولا حسابات مكاسبهم من السياحة العالمية لبقيت اللعبة دائرة, ولصارت فرصة للشجار بين كل الطوائف العربية. تماما كما تمت زراعة الخلاف بين السنة والشيعة. فعندما تتم زراعة قضية للخلاف العقائدي سهل احتلال الأرض ويسهل رؤية الاقتتال العنيف الذي يسهل بدوره تجارة السلاح الذي يوسع من دائرة الحروب الطائفية كل أرجاء الوطن. وتضيع ملامح القضية الفلسطينية التي هي حق مقدس للعرب من سنة وشيعة ودروز وموارنة وكاثوليك وأرثوذكس.
قلت لرحاب يومها: جئت أنت لتحاضري عن الأسرة فما الذي جعلك تقدمين رؤيتك لدور زراعة الخلافات العقائدية؟. أجابت: هم لا يكفون عن زراعة الفرقة بين العرب بتقسيمهم إلي طوائف, لا ينسون أن عبد الناصر إستنبط الحقيقة الأولي التي يعرفها كل من يعيش علي الأرض من المحيط إلي الخليج. لماذا تنسي أن إنجلترا وفرنسا إتفقتا مع إسرائيل في عدوان1956 لأن عبد الناصر جعل الأرض العربية في المغرب العربي تتحدث برصاص يصنع الإستقلال, وجعل الأرض العربية في المشرق تملك نفس اللغة, كما حدث في العراق, ثم اليمن, ومن هنا بدأت دراسة كيفية تجزئة العروبة إلي طوائف, وكل طائفة تفسر بعضا من أحكام الدين علي هوي من يدعي الفهم لأحكام السماء, ينعكس هذا علي الأسرة بطبيعة الحال. فقد يكفر الإبن والده, و تغرق المرأة في حساب أيام الحيض, هل هي ثلاثة أم ستة أيام, ويتم إستخدام النصف الأسفل من الإنسان لإلغاء قدرات النصف الأعلي, يكفي أن تعلم أن التيارات التي تدعي الإسلام لا تعلم الشباب قيمة التاريخ, ولكنها تجبرهم علي حفظ عشرات المئات من الآراء حول المسح علي الخف أثناء الوضوء, وكأن الوضوء أمر صعب رغم أنه بسيط وسهل, ولكنها دوامة الخلافات التي تبدو صغيرة تتم إثارتها لتكبر, وتتحول إلي أدوات تكفير فتخريب للبيت.
...................
حين تم إكتشاف التواصل عبر السكايب, أيقنت أنها لابد أن تبحث عني ولابد لي من البحث عنها.
وأخيرا تم التواصل, لأجدها تقول لي: لم أشأ دعوتك لحفل زواجي منذ خمسة وعشرين عاما, وأن ابنتي صارت في الرابعة والعشرين, فهل تزوجها لإبنك ؟ ضحكت: ألا تعلمين أن إبني تزوج وله من الأبناء ثلاثة ؟ ألم تكتشفي وجوده بالقدس في أوائل أعوام هذا القرن وهو يقدم أعماله كأفلام تسجيلية من عندكم ؟ ألم تشاهدي فيلمه الأثير الذي راح يعلم فيه الأطفال كيفية القفز علي حائط تقسيم القدس؟ قالت: تابعته حتي ويلتقي بأبي عمار, لكن لم أكن أعلم أنه إبنك. ابتسمت لها قائلا: سبق أن اتفقت معك علي أن أبناءنا سينربيهم علي أنهم أخوة لنا وليسوا قطيعا يتم صبه في قوالبنا, كما أن زوجتي أعادت تأليفي لأكون أبا شديد التعلق بأبنائه, وفوق كل ذلك ألا تتذكري إتفاقنا أنا وأنت علي ألا يتدخل أي منا في إختيارات أبنائه وبناته ؟
قالت: أجمل في عمر النضج أن كلا منا قد كف عن السفر تحت جلد الآخر ليفتش عن أخطائه. ولكني أراك تعاني من شيخوخة مبكرة, لماذا؟
قلت: لأني أقرأ كثيرا ولا أجد حلا لرؤية كيف نتوقف نحن الذين نعيش علي الأرض العربية عن تحويل الهواء إلي زجاج مكسور ولا نطلب من بضعنا البعض تنفس هذا الهواء المزدحم بشظايا الزجاج. وأبحث عما يوقف خوف كل منا ممن حوله, بعد أن صار كل فرد فينا عودا من القصب الواقف في الهواء بلا جذور في الأرض لأن سكين القوي العالمية قطعت وتقطع علاقتنا بالأرض ولابد لنا من أن نقاوم ذلك.
قالت: مازال إحساسك يلعب معي لعبة شد الحبل. فتتصور الواقع ضخم العيوب والمميزات.
قلت: مازلت أضحك للحلم القديم الذي تمنيت فيه أن تكون حبيبة القلب في أنوثة صوفيا لورين ورضوخ أمي لأبي وفي قدرة المكنسة الكهربائية علي تنظيف البيت وفي براعة طباخ مطعم المكسيم الباريسي.
قالت: وأنا مثلك أضحك لحلمي بالعاشق الذي له قوة محمد علي كلاي في احتضان زوجته وفي رقة عبد الحليم حافظ في فيلم الخطايا. وأن يكون في الثراء النفسي للأمير تشارلز فيدفع رموش عيونه ثمنا لتدليل زوجته العجوز باميلا, حتي ولو كان ثمن سعادة العجوز كاميلا هو دم الأميرة ديانا المراق
قلت: أصافح علي البعد صورتك, ولم أعد أغضب من نفسي لأني لم أستطع إقناعك بالبقاء معي في القاهرة.
تنهدت وهي تقول: خسر كل منا الآخر, لأن أحلام أي منا كانت كقالب من الزبد يغلي علي نار الوهم. وكان كل منا يسير إلي الآخر فيراه علي هيئة تمثال لا وجود له. ولكن هذا لن يمنع لقاءنا في نيويورك بعد أسابيع أثناء مؤتمر الحب والكراهية نقيضان متلاصقان.
...................
نيويورك تشبه غلاية ضخمة وتضع فيها البشر مع أحلامهم وأوراق النقود وتصهر الجميع في نهار شرس وتدلق الجميع آخر النهار إلي الحانات والمنازل.
ولكل ساكن في نيويورك بطاقة شخصية خاصة هي التجاعيد الكثيفة والأحزان المتراصة علي موائد الأعماق التي تتساوي تماما مع عدد الأكواب الصغيرة التي يضعها ساقي الخمر في كل حانة. والضوء الخافت في تلك الحانات لسبب بسيط جدا وهو عدم السماح لأحد بأن يري تجاعيد وأحزان غيره. فهو ضوء يسمح فقط للجرسون أن يري وجوه الآخرين ونقودهم. و
تكاد تكون تلك الحانات النيويوركية هي الرحم الذي يعود إليه الإنسان من رحلة الباطل والانصهار في باطل جديد. نيويورك ساقية سكرانة تغرف من نهر البشر لتصعد بهم في رحلة غير معلومة, ويتناثر منها البشر كشظايا.
وحلقات النقاش النفسي في تلك المدينة تبرز لك حدود معرفتك لما تجهله وما تعلمه, فإذا كنت تقف علي حد سكين فاصل بين المجهول والمعلوم فأنت عالم, وإن كنت حائرا فأنت جاهل, وإن كنت مستسلما لاهيا فأنت واحد من القطيع..
هذا ماكنت أحدث به رحاب ونحن نجلس في مقهي لا يقبل دفع ثمن المشروبات والمأكولات ببطاقات الائتمان, لان الحي الموجود به هو إيطاليا الصغيرة ومعظم مطاعم الحي ومقاهيه مملوكة للمافيا. والمافيا لا تتعامل مع البنوك بل مع أوراق النقد مباشرة.
سألتني: كيف تقبلت إسدال ستار النهاية علي قصتنا.
ضحكت قائلا: عشت أياما وأنا أشعر بأن عظامي مصنوعة من حديد صدئ وأن شراييني مجرد خراطيم من النايلون المثقوب. ووقفت كثيرا علي شاطئ النيل لأهمس له منك كانت بدايتي, وعندك إنتهت قصة لتبدأ قصة أخري.
ولن أقول لك أن النهر لو تكلم لكان صوتك هو همسه, ولو تنفس لكانت أنفاسك هي لوحات كعذاري يوسف فرنسيس.
وبمرور الوقت علمت أن كلا منا اصطدم بصخور الأيام, وعليه أن ينظر إلي النيل ويقول:
- علي مياهك أيها النهر أن تبطئ قليلا, وعلي العشاق ألا يضيعوا وقتهم في رؤية شروق الشمس عندك أو غروبها, وعلي الكبار أمثالنا أن يفسحوا الطريق لعشاق جدد قد لا تتكسر منهم قوارب الأحلام
قالت: لم أنس يوما قولك حين رفضت الهجرة إلي هنا لنحيا معا, أنك ترفض أن نتحول الي مجرد أعواد قصب نقدم عصير عقولنا إلي آلات أمريكية أو روسية أو أيا كانت جنسيتها فنحن بشر غير قابلين لسوء الاستخدام, ولن نسمح بأن يتم إلغاؤنا ومعنا بضع أوراق من الدولارات تهبط قيمتها أو ترتفع حسب مزاج عدد من محترفي سرقة أحلام الإنسان.
وأوصتني رحاب أن أتواصل معها عبر التليفون المحمول المتصل بالإنترنت; بحيث تراني واقفا علي شاطئ النيل في نفس المكان الذي وقفنا فيه كثيرا, وأن أتحدث مع خيالات أشرعة القوارب اللامعة تحت مياه النيل. وأجعلها تشاهد خيال كل شراع يتقارب مع خيال الشراع الآخر, لتصنع خيالات الأشرعة بيتا بجوار خيال مئذنة الجامع الصغير المطل علي النهر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.