غالبا مايطفو إلي الذهن حين يقترب ديسمبر من النهاية بعض من كتابات ديستويفسكي الروائي الروسي الأشهر, ولعل من أهمها رواية الشياطين التي تبدأ بسطور منقولة من إنجيل لوقا . حيث يذكر لنا تلميذ المسيح قصة رجل مجنون تسكنه الشياطين كما كانوا يعتقدون قديما. وما إن شاهدت الشياطين المسيح حتي توسلت اليه كي يخرجها من جسد المجنون, ولما كان هناك قطيع من الخنازير يرعي علي الجبل, فقام المسيح بالإذن للشياطين ان تخرج من جسد المجنون لتدخل في الخنازير. وما ان تلبست الشياطين أجساد ذلك القطيع من الخنازير حتي أسرعت بإلقاء نفسها من قمة الجبل إلي قاع البحر, وعاد المجنون إلي صوابه بعد ان طرد المسيح أفواج الشياطين التي كانت تتلبسه وتجعله مجنونا. كان ديستويفسكي واحدا من كبار المؤمنين بأن علي كل إنسان ان يبحث في اعماقه عن ايمان يهديه الي اطمئنان غير مزيف كي ينقذ نفسه من الكروب الشديدة. فعل الكاتب الرائع ذلك في منتصف القرن التاسع, ومازالت كتاباته طازجة تحمل في نهر كلماتها مايعبر عن حياة انسان القرن الحادي والعشرين الذي تلبسته شياطين منوعة, فعالمنا المتقدم صنع تقدما تكنولوجيا هائلا, وظن البعض ان البؤس قد غادر الكون, ولكن الحقيقة ان أعماق الإنسان في العالم المتقدم قد انسحقت عبر رحلة دوار لاتنتهي, ويقابلها علي الطرف الآخر من العالم شعوب تعيش بؤسا هائلا.ونظرة واحدة الي افريقيا تكشف لنا ما تحمله من حروب ومجاعات علي الرغم من الثروات الهائلة الموجودة في باطن الأرض, ولكن غالبية الشعوب الإفريقية لاتملك أسلوبا تدير به حياتها لتخرج به من قاع ذلك البؤس الشيطاني لتبني لنفسها حياة مقبولة. وهكذا صار الحلم في العالم المتقدم هو ان تخرج أرواحهم من ذلك الإنسحاق تحت أقدام شياطين التقدم الآلي والتكنولوجي ليمتلك الإنسان بعضا من أنفاس الاطمئنان, ولذلك تقام منتجعات بدائية يسافر إليها البشر المرهقون أفواجا, مثل تلك المنتجعات الموجودة في منطقة البحيرات الافريقية, أو في واحة سيوة بمصر, حيث يعيش ويدفع القادرون آلاف الدولارات من أجل الحياة البسيطة الخالية من التليفون المحمول, والسيارة الفارهة والشقق المكتملة بكل الكماليات وضجيج التزاحم بين أعمال متعددة وصراعات لاتنتهي. وفي جنوب الكون يوجد ذلك الحلم الذي يحرك الأجيال الشابة من اجل الحياة المقبولة بحدودها الدنيا, وهو الحلم الغامر بالسفر حيث توجد امكانات الحياة المرفهة التي يراها عبر شاشات التليفزيون, وعلي شبكة الانترنت او يسمع عنها من أفواه الذين سافروا الي العالم المتقدم ثم عادوا الي بلادهم يملكون الحكايات الخرافية, فتبدو أنماط الحياة في العالم المتقدم وكأنها شياطين تتلبس العديد من الأجيال التي ترنو الي فرصة عمل تكفي الطعام والمأوي, أو تتطلع إلي الرفاهية, ومنهم من يعبر بالجنون وحده عبر قوارب الموت التي تنقل الشباب خلال البحر المتوسط الي شواطئ أوروبا, أو تنقل الشباب الصومالي الي الشاطئ اليمني الذي تمثل الحياة فيه درجة من الرفاهية بالنسبة لأي صومالي لتزيح من علي أكتافه أثقال الموت المجاني الذي يتربص به من خلال أحراش الحرب الأهلية التي لاتنتهي.وهكذا صار لكل مجتمع متقدم أو متخلف شياطينه التي تتلبسه وتهبه حالة من الجنون, فيطلب من الإيمان خلاصا.ولكن أفكار الإيمان المطروحة علي البشر صارت هي الأخري عرضة للتجارة بها, تجارة بشعة فيها من الضلال أكثر مما فيها من زراعة الاطمئنان الذي يبني حياة مقبولة, والمثل الحي علي ذلك تلك الغواية التي ضللت عشرات الشباب العربي المسلم لينضم إلي حروب أفغانستان سواء في طبعتها القديمة لمواجهة الشيوعية, أو طبعتها الحديثة التي يديرها تنظيم القاعدة لمواجهة الولاياتالمتحدة والغرب. وهناك في العالم المتقدم أساليب غواية قد تختلف عن أسلوب غواية الشباب لتنظيم القاعدة, حيث تصحو في العواصم الأوروبية وفي الولاياتالأمريكية البعيدة عن الضوء حركات دينية تؤمن أن الإنصياع إلي أفكار التقدم الثقافي والعلمي تحت لواء قادة العالم هو نوع من التدهور الذي اصاب ضمير الإنسان الابيض, فنجد في الولاياتالمتحدة ازدهارا غير عادي لتجارة السلاح, ورأيت بنفسي يوم انتخاب أوباما في العام الماضي بعضا من شباب متعلم في فرجينيا وهو يتجه لشراء السلاح لمقاومة هذا الأسود الذي سوف يدخل البيت الأبيض. وهكذا صار الإيمان نفسه كواحة للنجاة عرضة للتزييف, فكأن الجنس البشري صار منقسما علي نفسه.وهذا ما يناقشه الطب النفسي المعاصر, ويحاول إعادة صياغة التفكير الإنساني بحيث يسمح لكل إنسان بأن يكتشف في وجدانه حقيقة مؤكدة تقول ان كلا منا من تأليف غيره, فأنت من تأليف أسرتك ولن تستطيع الحياة في سنوات عمرك الأولي دون أسرة, وأنت في مراهقتك تشعر بالحاجة إلي شلة من الأصدقاء تتيح لك التعرف علي قدراتك وتهديك قناعة تحتاجها وهي ان غيرك يقبلك ويمكنه ان يحبك. وفي شبابك أنت في حاجة الي علاقة من الجنس الآخر كي تعبر عن نفسك بتكوين أسرة. وهاهو صوت صديقتي الطبيبة النفسية د. كلوديا بلاك يصلني عبر الإنترنت في يوم الكريسماس أي عيد ميلاد المسيح علي التاريخ الغربي, يوم الخميس الماضي, فتقول أعدت طباعة كتابي عن إعادة ترتيب العمر كي يخرج الإنسان من قلبه طاقة إيمان غير مزيف لتعانق طاقة العلم, فبالإثنين يمكن للفرد ان يصنع المستقبل شرط ان يوفر المجتمع إطارا للحياة المقبولة سواء في العالم المتقدم او العالم المتخلف فأقول لها: إن هذا يحتاج الي طاقة جبارة لقتل اكبر شيطان يتحكم في أغلب مانقابل به الأزمات, وهو شيطان عدم الثقة المنتشر بغير حدود في أركان الأرض, ونحن نحتاج الي مقاومة هذا الشيطان, لعلنا ننقذ انفسنا من التخبط المجنون الذي يدير كرتنا الأرضية, تلك الكرة التي مازالت جميلة رغم مايحيطها من أعاصير.