ولأنى أدعي لنفسي معرفة كل ردهات العشق فمن حقى أن أقول إن الزمان الذى أحياه هو زمان الافتقاد.. نعم، أنا أفتقد حبيبتى التي رحلت ، لكنها مازالت تتجسد فى خيالى فألهث لعلى ألحق السباحة فى نهرين صغيرين بلون الفيضان الكثيف، نهران ينبعان من سواد عينيها وكلاهما مغزول من نور أسمر واستخرج من العينين شجن جنونى وذكرى أيام كانت هذه الحلوة معى ، أتنفس الهواء لأنها تتنفسه، وآكل الطعام لأنها تأكله وأحب الحياة لأن فيها هذه الحبيبة . وأعترف أن الضجر كان يملأني حين أراها بعيون الخيال مغزولة فى كيانى، لينفجر في وجهي سؤالي القديم الذي كنت أدير به تفاصيل حياتي ، والذي يسبق أي خطوة أقدم عليها ، وهو « هل توافق الحبيبة على قراراتي أم أني أتسرع بالتصرف دون أخذ رأيها فيما أسلكه» . هذا ما اعترفت به للطبيب النفسي د.أحمد عكاشة الذي كان قد عاد من لندن بعد سنوات من دراسة طب اّلأمراض الباطنية وطب الأعصاب والطب النفسي . وقد اخترته بعد أن تأكدت من أن إستشارة الطبيب النفسي لاتعني أن الإنسان مجنون ولكن من يستشير هو الذي يرغب في إزاحة العقبات غير المرئية التي توجد أعماقي ، فهناك من البشر من يستطيع الانتصار علي عقبات حياته دون استشارة طبيب ، وهناك من لا يستطيع ذلك ، فضلا على أني على معرفة بأفكار عدة من سادة الباحثين في مجال النفس البشرية ممن لا تخلو أي مطبوعة علمية من أسمائهم ، خصوصا هذا العالم الذي قرأت أفكاره ولم تسنح لي ظروف سفري إلى الولاياتالمتحدة أن ألتقي به ، فقد رحل عن الدنيا قبل أن أبدأ زياراتي للولايات المتحدة ، أي عام 1980 ، وهو د. إيريك برن الذي نال شهرة هائلة في مجال الاستشارات النفسية للأصحاء قبل أن يغوص أي منهم في ضباب الغياب عن الواقع وقبل انطلاق الخيالات والأوهام في تيه الضلالات . وهو العالم الذي عاش أهوال الحرب العالمية الثانية وشاهد كيف يكون الإنسان ضئيلا ومدعيا وصادقا وكاذبا وخائنا ووفيا ، ففي الحرب تزدحم المشاعر ويتجسد في سلوكيات الإنسان كل تاريخه الحيواني وكل مقدساته النبيلة. شاهد الرجل قصص الحب بين المقاتلين وبين نساء ينتمين إلى الجانب الأخر من الحرب ، فالعاشق قد يكون المانيا والمعشوقة إنجليزية ، أو قد يكون العاشق عضوا بالحزب الشيوعي أو النازي يكرر رطانة تم تلقينها له ، فيتوهم أن بطاقة العضوية للحزب تتيح له إرضاخ النساء اللاتي يتولى قيادتهن ، وقد تكون الواحدة التي يركز عليها أوامره ونواهيه هي ذات القلب المعلق بواحد من العامة الذين لا يفهمون في الرطانة السياسية ، ولكنه قادر على الحب .وقد يكون العاشق أمريكيا والمعشوقة ألمانية تؤمن بهتلر كنبي مقدس .وهذا ما يحدث في كل التنظيمات التي تخضع لتفاسير رجل واحد ، حيث يستسلم الوجود الإنساني لطاعة مذهب سياسي ، ولكن القلب قد يتمرد إلى حد الجنون على تلك الطاعة . كشف إريك برن ذلك وواجهته ظروف شديدة الغرابة وكان عليه إستقبالها على ضوء الحقيقة التي يؤمن بها والتي تؤكد أن الإنسان مجنون وعاقل في آن واحد . وأن الطبيب النفسي عليه ألا يرتقي سلما وهميا ويبدأ في تصنيف البشر داخل صناديق مكتوب على كل منها إسما لمرض نفسي ، إكتئاب . هيستريا . تأرجح بين الإكتئاب ٌوالمرح ، كان إيرك برن يرى أن كل إنسان بداخله يوجد الملاك ويزاحمه الشيطان ، ومن الحوار بين الملاك والشيطان تدور أيام الإنسان ، ولم يكن يعترف إلا بمرضين إثنين هما الفصام وهلاوس البارانويا ، وكل منهما يحتل واقع المريض بهلاوس سمعية أو بصرية ، لا يسمعها ولا يراها غيره . وكان أول لقاء بيني وبين د. أحمد عكاشة منذ قرابة الخمسين عاما ، حيث سمعت إسمه على لسان « ليتشاور « أول قائد أوركسترا سيمفوني أسسه ثروت عكاشة أول وزير ثقافة مصري بعد ثورة يوليو ، وكان إعجابي بشخصه يفوق كل خيال . أما الظروف التي وضعت إسم أحمد عكاشة أمامي ، فقد كان ليتشاور قد حضر إلى البنسيون الذي أقيم فيه بشارع شريف ، وهو مكون من أربعة عشر حجرة ، وفي الصالة أنتريه لإستقبال الزوار ، وكان قائد الأوركسترا ثائرا على صاحبة البنسيون مدام كيتي ، الألمانية التي تصحب معها إلى سباق الخيل كل أسبوع واحدة من أمهر العازفات بالأوركسترا ، وهي بولندية؛ تصرف كل مرتبها على سباق الخيول ، وتمضي بقية الشهر مقترضة من أعضاء الأوركسترا ، فضلا عن أن مستوى عزفها يتذبذب إتقانا وترهلا ، ولذلك قال لمدام كيتي صاحبة البنسيون أنه سيتحدث مع الوزير ثروت عكاشة كي يطلب معاونة شقيقه الشاب العائد حديثا من لندن ، لعله يعالج تلك المجنونة التي قد تصل إلى لقب « فيتيوز « أي عازفة نادرة تقام من أجلها حفلات موسيقية ، أو تترهل في حياتها ولا يبقى لها سوى العزف في النوادي الليلية. سألت يومها ليتشاور عن أحمد عكاشة فأخبرني أنه عائد حديثا من لندن بعد أن درس أن درس الطب النفسي هناك ، وكان ذلك يستلزم نجاحه أولا في الحصول على دكتوراه في طب أمراض الباطنة ، ثم ماجستير في الأمراض العصبية ، ومن بعد ذلك دراسة الدكتوراة في الطب النفسي وليعود إلى طب عين شمس ويؤسس قسم الطب النفسي بها. راح ليتشاور يؤكد لي أن محبة ثروت عكاشة للموسيقى لابد وأن تكون قد انعكست على شقيقه الأصغر . ولابد أنه يستوعب قلق الفنانين ؛ خصوصا وأن ثروت عكاشة من أكبر القلقين الذين قابلهم ليتشاور، كعادة العباقرة . ولم يكن ليتشاور يعلم محبتي لثروت عكاشة أول وزير ثقافة مصر والذي استوعب تاريخها ومكانة حضارتها وكان أصدقاؤه هم أجيال أساتذني ، فضلا عن أن من يحدثني عنه هو أول قائد لأول أوركسترا سيمفوني يقدم حفلة أسبوعية بتذكرة قدرها خمسة قروش ، ويقودها فرانز ليتشاور، هذا الذي علا صوته في مواجهة صاحبة البنسيون الألمانية كيتي ، وهي من كانت زوجة لسائق تشرشل السوداني الذي كان يحمل إسما غريبا هو « رباب» ، وتزوجا بعد الحرب العالمية ، و اختار الإُثنان مصر للإقامة . وتشاركا في إدارة البنسيون المكون من أربعة عشر غرفة بشارع شريف . ولأن الزوج «رباب» هرب منها إلى حيث لا تعلم ، فقد بقيت كيتي الألمانية تدير البنسيون ، وتخسر كل أسبوع ربع دخلها في سباق الخيول. وتصحب معها عازفة الكمان البولندية والتي يحاول ليتشاور قائد اٌلإوركسترا تهذيبها بدلا من أن تظل أفكارها أسيرة توهم الثروة من مكاسب الرهان على الخيل ، وكثيرا ما كان صوت ليتشاور يعلو باللعنات ضد الألمان ، ويتهم صاحبة البنسيون بأنها تسرق منه مواهب موسيقية نادرة ، فتطلق صاحبة البنسيون كلبين من كلابها» الولوف « في أنتريه البنسيون ، فيهدأ قائد الأوركسترا الذي يحب الكلاب كثيرا . ثم يتمتم بكلمات يلعن فيها هتلر الذي سمح لألمانية بالزواج من سائق سوداني يحمل الجنسية الإنجليزية، فتصرخ فيه صاحبة البنسيون كيتي « تزوجته بعد انتحار هتلر ياغبي » ، فيرد ليتشاور قائد الأوركسترا « لعل تشرشل أمر بإسقاط القنابل على عائلتك التي لم تعرفي لها بيتا بعد إنتهاء الحرب، فتقول » وكان رباب«سائق تشرشل يعاني هو أيضا من أن الألمان قصفوا بيتا كانت تعيش فيه شقيقته بلندن ، فالقنابل في الحرب لا تدقق فيمن تقتله ، إنها تقتل ليرفع أحدهم أصابعه بعلامة النصر. وسمعت لأول مرة إسم د. أحمد عكاشة من فم المايسترو ليتشاور ، حيث قال « سأطلب من الوزير ثروت عكاشة أن يعرض تلك العازفة المدمنة لسباق الخيل على شقيقه الطبيب النفسي « تساءلت « هل يمكن أن يعالج الطبيب النفسي الإدمان العاطفي الذي أراه معرقلا لحياتي؟» وطلبت د. أحمد لأحدد موعدا للقاء ، فكان سؤالي الأول « لماذا نحترف في الشرق قتل قصص الحب ؟ بينما يبيح الغرب للحب أكثر من فرصة ليعيش ؟» ومازال صوته في ذاكرتي « يبدأ الحب في الغرب من المعرفة المباشرة ، القيود المفروضة على الشاب أو البنت هي قيود تنبع من حقهما في التجربة والاختيار . وفي الشرق تتدخل عوامل أخرى ، القيود الإجتماعية ، التقارب في المستوى الإجتماعي . خلايا المخ في الغرب تفزر «الأندورفين» المسبب لإشتعال المشاعر بالحب على أساس واقعي ، لا على أساس خيالي ، فالفتاة تختبر الشاب ولا تفكر في الزواج منه إلا بعد التيقن من أنه جدير بالظن أنها قادرة على أن تراه على الوسادة الموجودة بجانب وسادتها لمدة خمسين عاما قادمة. والشاب يفكر في الزواج بعد أن يتأكد أنه قادر على قبول فكرة احتمال رؤية وجه هذه المرأة على الوسادة التي بجانب وسادته لمدة أعوام طويلة . ولذلك يقوم الزواج على الإتفاق ، ودعك من الزيجات التي تقوم على المصالح كزواج الأثرياء ، حيث يكون الحفاظ على الثروة أهم من الاحتفاظ على مبدأ القبول العاطفي. وطبعا قد يتغير الحال بعد سنوات فيحدث الانفصال ، وقد تستمر التجربة العاطفية لتتطور إلى صداقة. وهنا قررت أن أعترف لدكتور أحمد بالخيال الذي ملأ أيامي قلقا وعشقا ، وكيف تشربت لحظات حياتي بكل ذرة من أيامها وارتشفت معها كل أحلامى حتى صارت كل أحلامى ورائى، وما أمامى إلا أن أسعى إلى كل ما كان خلفى. وماذا يمكن أن يقوله عاشق مسكون بوجه امرأة فلسطينية؟ أنا العاشق وهى حبيبتى التى تاهت منى وبأي كلمات يمكن أن أعبر عن لحظات ميلاد نهر الحب الفياض بيننا وبأى شئ يمكن أن أهز هذا السر النائم فى قلب كل إنسان من المحيط إلى الخليج لأسأله عن طريق أسير فيه فأجد حبيبتى.. لكن هاهى ذى الأيام تتوالى. يتكور الليل من وراء ظهر الشمس ليأتى مقذوفاً فى وجهى ؛فأترنح نائماً لعلى أجدها فى ثنايا الأحلام. ويتكور النهار من أمام الشمس فيأتى مقذوفاً فى وجهى ؛فأصحو مقهوراً بسرى الخاص الذى أبحث له عن إجابة. وسرى بمنتهى البساطة أننى منذ أن رأيتها فى صباى وأنا أحس أننا صرنا اثنين فى كيان واحد. وعندما أصر والدها أن أذهب إليه لأطلب يدها لم تكن ظروفى المالية تسمح، فصرت كائناً ناقصاً يبحث عن الاكتمال. أتذكر ابتسامة د. أحمد وهو يقول لي « تعاستك هي تعاسة أي شاب مصري لا تبدأ معه الحبيبة البداية الواقعية ، فهناك الشقة في الحي الراقي ، وهناك الشبكة وهناك المهر ، وكل ذلك لن تستطيع الحصول عليه ، لأنك لم تفكر إلا في الحب . ولو كانت الحبيبة واقعية لبدأت معك من السكن في البنسيون ، ولكن من قال إننا في الشرق نقبل الواقع ؟ إننا تضع الشاب والفتاة على مائدة الأشياء المطلوبة ، فنسرق بهجة أيامهما . وهذا لا يحدث في الغرب. ولم أقل للدكتور أحمد إنها فلسطينية ، ولكن الأيام جرت في حياتها وحياتي ، فلم أستطع الذهاب إلى والدها في « نابلس « لأطلب يدها بعد أن تجمعت لدي بضعة جنيهات تتيح لي السفر . ودهمتنا كارثة 1967 ، ووقعت نابلس تحت الاحتلال . وصرت أتصفح الجرائد لعلى أجد الخبر عنها. هل أقول إننى أجلس أمام شاشة التليفزيون لأشاهد نشرات الأخبار وأتخيل أن رؤساء الدول عندما يلتقون قد يتحدثون عنها وعنى. ثم علمت أنها انضمت لواحدة من المنظمات الباحثة عن حق الفلسطيني في أن يكون إنسانا . وبدأت أسمع صوت خوفي عندما أقرا عن أي عملية فدائية ، وأعيش قلق عدم معرفة أخبارها ، وأظل أبحث عن أسماء الذين قتلوا، فمادمت أنت عربي وتموت فلا اسم لك فى الإذاعات، أما عن الأسماء فهى لأصبع أوروبى أو أمريكى مجروح فى أى مكان من العالم، والجريح الأوروبى أو القتيل الأمريكى له اسم وله عائلة وله أصدقاء وله صلوات تنادى القلوب السوداء أن ترحمه، أنا ضد قتل أو اختطاف أى كلب أو قطة وبالتأكيد أنا ضد قتل أو اختطاف أو إرهاب أى إنسان، لكن مازال من حقى السؤال: لماذا يكون للأوروبيون والأمريكيون وقت الخطر أسماء ولا يكون لنا نحن العرب أى أسماء. .................... أتذكر أنه بعد سنوات من غيابها ، قبلت السفر إلى مؤتمر لحقوق الإنسان ينعقد فى سيراكوزا بجزيرة صقلية، ويقام تحت إشراف الجمعية الدولية للقانون الجنائى، والهدف أن يتشرب سكان الأرض بمعرفة تفاصيل بديهية عن حق الإنسان فى حياة لائقة. وأعترف أننى قاومت كثيراً الصعود إلى منصة المؤتمر لأقول: - إن فرحى الخاص قد ضاع منى، وعيوني جائعة لخبز روحي أي ملامح وجهها ، ولمسة شفاء لإحساسى العميق، العميق بالوحدة. وهاهي الأيام تتكرر فى شتاء لا أحس برودته لأن برودة حزنى أكثر ضراوة. ويهب الربيع فأفتح عيونى فى وجه رياح الخماسين لعلى أراها قادمة من خلالها أو تكون مختفية بين ذرات هوائها. ويأتى الصيف فأترنح مهترماً لأنى فقدتها ذات صيف فى 1967، ويأتى الخريف فأصحو من جديد كمن يصعد جبال الشوق إليها. وهأنا ذا فى صقلية على حرف البحر علىَّ أن أسأل أمواج الأوراق فى المعهد العالى للدراسات القانونية عن حقى فى معرفة أين هى؟ ويقع فى يدى إعلان حقوق الإنسان الذى أصدرته الأممالمتحدة وتهدره كل الدول. فالدول فى مجموعها تنسى أنها وقعت هذه الوثيقة، وإلا كيف أفهم أن الولاياتالمتحدة استبدلت أسماء العرب فلم تعد تذكر كم مات منهم ، بل تحسب فقد أسماء أي أوربي أو أمريكي قد ضاع في حادثة ما ، وينفجر دائما سؤال « هل صرنا نحن العرب مجرد أرقام في سجلات الحوادث ، بينما تهتز الدنيا لأي غربي يقع له حادث وطبعا كنت _ ومازلت _ لا أفهم رحلات صياغة العذاب فى أن يكون كل إنسان مشغولاً بقوته عن هموم بلاده؟ وكيف أفهم أن جوع إفريقيا لم يعد يلتفت إليه أحد رغم أنه مازال قائماً؟ وكيف أفهم أن الدنيا تهتز إن أصيب إنسان غربي ، ولا يهتز الكون لزراعة الإرهاب في بلادنا بتشجيع أحد جرحى احتقار الذات وهو « أردوغان « الذي ظن أنه بالمال القطري يمكن أن يقيم خلافة عثمانية جديدة ، بدلا من تلك التي سقطت عام 1923 ، وبعد أن أرهقت تركيا نفسها راغبة في أن تكون جزءا من نسيج أوربا ، ولكن الغرب يرفض ، فتلعب أجهزة مخابراته بأقدار الشرق الأوسط ، ولا يرفع أحد صوته بالحقيقة وهي أن تشجيع الإرهاب يأتى من الغرب إذا كان فيه مصلحة للغرب؟ وصرت أفهم أن الدول الكبرى صارت تخاف من سوق أبنائها إلى عذاب القتال فى ميادين ليست لها لتحافظ على استمرار حرب هدفها الأخير استنزاف كل ثروات المنطقة العربية ، فتخلق إرهابا له شكل التدين ، وتغدق عليه من مال تراكم لدى دويلة بالخليج ، وبسلاح مهرب من تركيا إلى مناطق الإرهاب المعاصرة . .................... واتجهت إلى د. أحمد عكاشة بعد مرور نصف قرن على لقائنا الأول ، لأقول له : إن العالم لا يتحرك لعشرات القتلى والجرحى فى قرى سوريا ، ولكن العالم يتابع بقلق غرق أسرة صغيرة سقطت بها طائرة أثناء التحليق فى سماء جبال الألب. ؟ ذكرني أحمد عكاشة بأن جاره أثناء الطفولة والشباب كان هو الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان القوات المسلحة المصرية من بعد هزيمة يونيو 1967 ، وأن كلاهما كان يناقش الآخر في مدى قابلية الإنسان العربي لاستيعاب علوم العصر . وإتجه كل منهما إلى ميدان دراسة مختلفة . واستشهد عبد المنعم رياض وهو يرسم طريق التآزر لصناعة النصر . واتجه أحمد عكاشة لدراسة الطب النفسي ، وصار يرى الحقيقة القائلة إن المريضة الأولى في الكون هي الولاياتالمتحدة ، فهي مفلسة وشريرة وتريد من العالم أن يقبل الرضوخ لها بحكم تقدمها العلمي والتكنولوجي المعتمد على التمويل العربي . ولا حل إلا بأن نوقظ أسلوبا جديدا في صياغة أنفسنا لنقتحم العصر الذي نحياه ، فأنا معك فمنذ طفولة أي منا نجد العالم لا يصرخ إلا للألم الأوروبى الأبيض أما ألم الأسود والأصفر والعربى فلا أحد يصرخ له. .................... يصمت أحمد عكاشة قليلا ليسألني: أمازلت تبحث عن الحبيبة الضائعة ، وأن أحداث أيامك لا تأتيك بأي خبر عنها. أحملق في اللوحة التي تعلو جدار صالون مكتبه وهي لوحة «دون كيشوت « وهي لوحة أصلية لسلفادور دالي الأسباني الذي عشق امرأة واحدة هي جالا ، وعندما ماتت أقام مسابقة للفرنسيات كي يكون فريقا للباليه المالي من شبيهاتها، حتى يراها مجسدة في أكثر من امرأة. أضحك لجنون دالي ، ثم يتكور الليل من وراء الشمس ليأتى مقذوفاً فى وجهى فأنام مصدوماً، وتقذف الشمس بكرة النهار فأصحو مقهوراً بسرى الخاص وهو البحث عنها. وأقول لصديقي أحمد عكاشة : لقد توقفت عن البحث عنها في الواقع ، ولكن خيالي يتساءل هل يتحمل المثقف العربى مسئوليته ، في أن يشرح للإنسان العادى أن مستقبل الأبناء مرتبط بمساحة الحرية المتاحة لوطن، وهي قدرة الإنسان فى التعبير عن نفسه والمشاركة فى صناعة القرار السياسى والاجتماعى والاقتصادى. يقول أحمد عكاشة :أسألك عن الحبيبة فتجيبني بالسياسة أقول : نعم مازال خيالي يتيح رؤيتها لدارسة الأدب الفرنسى، التى علمتنى كيف أقرأ «الأسود والأحمر» لستندال، وعلمتنى أن أبحث عن عطر المعانى فى التدفق الفياض لكلمات مارسيل بروست وأعانتنى على أن أفهم الجذور العربية للكوميديا الإلهية لدانتى الليجيرى، وانطلقت معى فى رحاب المسرح الباريسى فى أول رحلات الشباب إلى أوروبا، وترجمت لى أشعار لوركا فرحت معى برحلة إلى السد العالى، ورقصنا معاً يوم استقلال الجزائر. ولكن السؤال عنها تجمد على شفتى، فلم أعد أسأل عنها أحد ، بعد أن إحترف الجميع إطلاق الرصاص على حق الحب .