تصطف أيام العمر في الذاكرة ، لتمتزج ساعاتها بما جرى فيها من وقائع، لأرى بعيون الخيال ما حدث. ها هي لحظات مما كتبته خطواتي على صفحات قدري، وصار خلفي، وهاهي أحداث وتفاصيل تصعد على مسرح التذكار، لتشكل كل لحظة منها موجة من أمواج بحر العمر، وتمتزج تلك الأمواج لتنسج أفكاري، فكل لحظة شئنا أم أبينا هي إضافة ما لما حدث أوما يحدث. ها أنا ذا أشاهد ما بدا لي مثيرا لشجن قديم جديد، وكأن السماء قد قررت إهدائي كل صباح واحدة من أعظم العطايا، وهي أن أجلس على مكتبي لأجد لوحة للفنان يوسف فرنسيس الرسام المصور الذي لا نظير لعشقه الحالم، ونسائه القادمات من فردوس شديد الخصوصية، تجاورها لوحة لسيف وانلي الذي عشت في رحابه عشر سنوات لأكتب تاريخ حياته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتحت اللوحتين أرى الأعمال الكاملة للشاعر الرقراق صلاح عبدالصبور الذي يمكن تأريخ موسيقى الشعر المعاصر بما في دواوينه من إبداع، والذي ما زلت أسمع ضحكاته عندما عرض عليه أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي الكبير، أن يهديه من المطمئنات ما يخفف من وطأة اكتئابه، فرفض العرض، لأن الشاعر بلا شجن لا يمكن إلا أن يكون آداة احتفالية تنظم ما تشاءه المناسبات. غالبا ما أسحب واحدا من أعماله الكاملة لأبدأ يومي بذكر أستاذ أدين له بالكثير. يخرج بين الأعمال دراساته عن شعراء الكون، الذي حاول فيها كشف حقيقة الشعر في أركان الأرض. وها أنا أشكر بيني وبين نفسي إنسانا لم أقابله هو «أحمد صلحية» الذي وهب سنوات من عمره لينظم لنا من مجمل أعمال الشاعر الكبير مجموعة نادرة من المجلدات التي تضم كل ما خطه هذا «القلم القلب»، قلم صلاح عبدالصبور. أفتح ما قاله لنا صلاح عن شعراء العالم معاصريه وقدمائه، فأجد نفسي أمام جغرافيا المشاعر، في روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولابد لي من أن أتوقف عند جارثيا لوركا القرطبي الأسباني الذي أوصاني صلاح عبدالصبور قبل أن أسافر إلى باريس أن أبحث عن مسرح صغير يقدم لوركا، فأسعى في شوارع الحي اللاتيني، لأجد مسرحا لا يسع أكثر من مائة متفرج، يقدم منذ عام 1959 وحتى زيارتي عام 1964 مسرحية واحدة لجارثيا لوركا، واندهش من فرط عشقي لمسرحية «الزفاف الدامي» التي تحكي عن قدرة كيمياء الحب أن تخترق التقاليد وتجرح زيف العادات، بطلها فارس متجول أصابه ملل الزواج ممن أعطته أرضا كي يخصب أنوثتها بالإنجاب، فتنجب له الابن، ولم يكن يتوقع الفارس أن يضيع منه قلبه ليصبح حديقة من ورود بعد ما أشرقت أمامه أنوثة أطلت من قمرين أسمرين هما عيون عذراء. كانت العذراء تستعد لزواج تقليدي، تدفع فيها عائلة العروس «دوطة» كبيرة كي تضمن لإبنتها زوجا قادرا على رعايتها، وكأن أوربا في الزمن القديم قد طبقت المثل المصري الذي يقال للأب «اشتري لبنتك راجل». وتفاجأ العذراء العروس بقلبها وقد خرج من مكانه ليرقص على نقرات حافر حصان الفارس ، تقاوم الإنجذاب بلا طائل، فتهرب من عرسها مع الفارس، لتشتعل حقول الركود في القرية التي يعيشان فيها، الفارس والحلوة، وتبدأ كل عائلة في البحث عن المجنون والمجنونة اللذين سرقهما الحب، ليموت الفارس مطعونا بسكين الدفاع عن الشرف. وتلعن أمه كل سكين يقتل قلبا عاشقا. أسرتني المسرحية حتى صرت معروفا لدي عاملة شباك التذاكر الجزائرية، التي كانت تقول لي بالعربية ذات اللكنة الغريبة «لولا أن معك زهرة عمرك، فتاة أحلامك لقلت لك هيا نعيد تجربة توفيق الحكيم مع عاملة شباك التذاكر الباريسة، فأضحك لها، لأجد لمحة من غضب في لمسة يدي ليد روح العمر التي ما سافرت إلى باريس إلا لأراها، متخطيا أشواك الإفلاس وسؤال أجهزة الأمن عن سبب السفر. وكانوا ينزعجون بنفس انزعاج يوسف السباعي حين كان يرأس مجلس إدارة روز اليوسف حين إصطحبت يوسف فرنسيس معي وأعددنا قائمة بموضوعات وتحقيقات من باريس، ولكن يوسف السباعي أعاد تكرار السؤال «لماذا تقدمان طلبا مشتركا للسفر على نفقتكما الخاصة؟ فأرد: يوسف يريد أن يرى متحف اللوفر وأنا أريد أن أرى عيون حبيبتي التي تدرس هناك، ولن نحمل روز اليوسف مليما واحدا، نحن سنتحمل تكلفة السفر، فيندهش يوسف السباعي من جنون اثنين، ليقول «هل أكتب طلبا لجمال عبدالناصر كي يمنح الإذن لرسام وصحفي، لأن الصحفي يعيش قصة حب والرسام يريد زيارة بيت اللوفر لأنه بيت الفن الأول في القرن العشرين؟. فيعاتبني يوسف فرنسيس لأني أفشيت السر وراء طلب السفر، ويستمر عتابه ضاحكا متهما إياي بالجنون. فيشترك معنا الشاعر صلاح عبدالصبور ونحن نجلس في حجرة واحدة بمجلة روز اليوسف، ويخرج محفظته من جيبه، ليخرج منها خمسين جنيها إسترلينيا جاءته مع قادم من بيروت مكافأة له على بعض كتاباته ويناولها لي قائلا «احتفظ بها لأنك ستسافر إلى باريس أما يوسف فرنسيس فهو لا يعلم أن الأستاذ محمد حسنين هيكل سيستقبله هذا الأسبوع ليتعاقد معه كي يكون رساما لقصص الأهرام بجانب أستاذ الحفر الحسين فوزي، ويندهش يوسف وهو يسمع خبر قرب انتقاله من روز اليوسف إلى الأهرام. ويقول صلاح لي «سيتولى الشاعر كامل الشناوي مسألة استخراج إذن السفر لك، ولكن احذر وأنت تحاور الضابط حسن المصيلحي الذي نقله جمال عبدالناصر من قسم مكافحة الشيوعية بالداخلية ليكون في مصلحة الجوازات فهو يكره كل من يمت لروز اليوسف بصلة. وفي المساء يكون السهر كافيتريا «نايت أند داي» لأدخل مع صلاح عبدالصبور للقاء الشاعر كامل الشناوي فيبدي إعجابه بتحقيق صحفي كتبته بشكل فني عن تجربة الحياة في بنسيون بوسط القاهرة. بنسيون تديره زوجة سائق سوداني يعمل بالسفارة الإنجليزية، وتفخر طوال الوقت بأنها ألمانية، لكنها عاشت أمينة على مشاعر زوجها السوداني الذي يكره هتلر، وتصرف كل دخلها على تذاكر سباق الخيل، فإن فازت ببضعة جنيهات فهي تدعو سكان البنسيون جميعهم إلى إفطار من لاباس، مقهى المثفقين الصباحي المقابل لكافتريا نايت أند داي مقهى المثقفين المسائي، وبالفعل يطلب صلاح عبدالصبور من الشاعر كامل الشناوي أن يحصل لي على إذن السفر إلى باريس، فلا أحد في مصر يسافر إلا بإذن من جمال عبدالناصر، وقد أوكل عبدالناصر الأمر إلى الوزراء المعنيين، لذلك فلا مفر من أن يخرج إذن السفر عن طريق مكتب عبدالقادر حاتم وزير الإعلام، وهو من كان لا يأنس لصلاح عبدالصبور، حيث انقسم المثقفون أيامها بين تابع لعبدالقادر حاتم الذي يصر على أنه أكبر ممن يحبه النصف الثاني من المثقفين، وهو ثروت عكاشة، متجاهلا أن ثروت قد يصغره في العمر ولكنه الأكثر فهما لمعنى الثقافة. وبطبيعة الحال لم أكن أستريح لموظفي مكتب حاتم، فأنا من أحباء ثروت عكاشة صاحب السيف المبصر كما كنت أقول لصلاح عبدالصبور، فيؤكد لي من يملك سيفا مبصرا لابد أن يكون في مقام الأنبياء لأن القوة إن إرتبطت بالرؤية فلابد أن تتسع مساحة العدل، والعدل كما ترى مازال بعيدا عن مشاعر الساسة المتحكمين في أرزاق الكون. وكان «السيف المبصر» هو الحلم الذي تمناه الحلاج بطل مسرحية «مأساة الحلاج» التي كتبها صلاح عبدالصبور، ولكن الحلاج كما صوره صلاح عبدالصبور لم يمت بالسيف بل مات بالصليب الذي رفعه عليه الفقراء الذين جمعهم قضاة الزور كي يحكموا على طالب العدل بالكفر، فمن يطلب العدل عند السابحين في بحور الثروة والقوة ، لايقتلون بأيديهم بل لابد لهم من قفازات بشرية. والفقراء هم القفازات البشرية التي يطلقها من يملكون الثروة، فيمكن رشوة الفقير بوجبة طعام ليحكم بكفر أو إيمان من يريده صاحب الثروة مؤمنا أو كافرا، لأن الإيمان والكفر عند الفقراء لايكون محله القلب، بل تقرره الأفواه التي تمتلىء بالطعام لتنفذ أحكامه أفواه تفوح منها رائحة الجوع. وعند سفري بالمركب إلى باريس وحيدا دون يوسف فرنسيس يقول لي صلاح عبدالصبور: «أذكرني في مكانين، جزيرة كريت إن مررت عليها، وقرية فيرونا وهي ستصادفك حتما حين تركب القطار من فينسيا إلى باريس». أسأله ولماذا جزيرة كريت؟، فيقول: «لأنها محل ميلاد من عرفناه روائيا وتناسيا أنه شاعر، هو نيكوس كازينتزاكس صاحب زوربا». أتذكر كازينتزاكس، لأني قرأت أغلب ما تمت ترجمته من رواياته، لكني لم أكن أعرف أنه أعاد كتابة ملحمة شعرية أعاد فيها رواية أوليس بطل إلياذة هوميورس، وقد كتبها في ثمانية عشر عاما، في ثلاثة وثلاثين ألف بيت من الشعر المصفى، وترجمها أستاذ إنجليزي من اليونانية إلى الإنجليزية في إثني عشر عاما، وتمنى صلاح عبدالصبور أن نجدها بين قراء العربية لان الشعر يغسل الروح ويمحو من القلوب أدرانها. وكان لابد له ان يتوقف في قطار الشرق السريع عند «فيرونا» القرية التي احبها صلاح عبدالصبور، فهي المكان الذي أختاره شكسبير بيتا لمسرحيته «روميو وجوليت»، وكان الليل الديسمبري في«فيرونا» يحجب قصورها، لكن الخيال كساها ألوانا هادئة و كثيفة الجمال تتهادي بين الأزرق القاني لتضيئها نسمات فجر الشتاء الصاخب مطرا ورعدا وثلوجا. أرى بعيون المحبة وقائع روميو جوليت كما شاءها شكسبير، فمن شرفة قصر صغير بفيرونا أطلت جوليت، لتنطق بدفقات أنوثتها موسيقى الكلمات التي ترد بها على موسيقى كلمات روميو، بعد أن لعب القدر لعبته لميلاد الامتزاج بالحياة والموت في آن. أقسم روميو لها بالقمر على الإخلاص، فترجوه ألا يقسم بالقمر لأنه متقلب، ولم يكن أي منهما يعلم أن لا مفر من الامتزاج المندفع بقوة ما درسه العلم من بعد، وهو الساحر الذي اسمه الحب، فلم يهمل كلاهما حق السماء في إعلان الاندماج، فيهربان إلى قسيس القرية الذي يزوجهما، فينعمان بليل آمن، تعزف فيه ذبذبات الروح ما يندمج مع ذبذبات روح أخرى فيتحقق لكليهما هذا الاكتمال الذي يحلم به أي عاشقين. ولابد أن جوليت قد سألت روميو السؤال الذي تسأله أي حبيبة «هل أنا جميلة؟». وأبتسم أنا لأن روميو لم ينطق ما نطقت به أنا حين سألتني الحبيبة هذا السؤال فقد قلت «لا أعرف، لأني لا أقيسك بالنساء ولكني أقيس النساء بك، فأنت دليلي إلى وجودي كما أني دليل إلى وجودك». وما إن غادر القطار فيرونا، حتى عاد خيالي إلى مقر روز اليوسف القديم حين التقيت بصلاح عبدالصبور لأول مرة، وكانت روز اليوسف تحيا في بيت متهالك خلف مجلس الوزراء، لكن المبنى رغم قدمه كان يشع ببهجة الشجن الحالم، فتبدو جدرانه القمحية الطلاء كأنها قادمة من فجر مستقبلي شديد الخصب.، فأسمع صوت صلاح عبدالصبور «لقد استطاع شكسبير أن يخلص قصة روميو وجوليت من ابتذال الثراء الفادح الذي يبدو كسجون غير مرئية؛ قضبانها تقاليد وصفقات يتم فيها بيع أجساد الرجال للنساء ؛ ويتم مقايضة الأنوثة بالجاه . كان هذا في زمان شكسبير، وقد يخلتف الأمر في عالمنا العربي حيث يحدث العكس، فتتم مقايضة الأنوثة بالجاه، ويتم عرض أجساد الرجل في نخاسة بريق الثروات. فأرد علي الشاعر الكبير بأبيات من شعره اليوم.. ياعجائب الزمان قد يلتقي في الحب عاشقان من قبل أن يتماسا ذكرت أننا كعاشقين عصريين، يارفيقتي ذقنا الذي ذقناه من قبل أن نشتهيه ورغم علمنا بأن ما ننسجه ملآءة لفرشنا تنقضه أنامل الصباح وأن ما نهمسه ؛ ننعش أعصابنا يتلفه البواح فقد نسجناه وقد همسناه الحب في هذا الزمان يارفيقتي.. كالحزن؛ لا يعيش إلا لحظة البكاء ..... الحب بالفطانة اختنق. ويضيء وجه الشاعر لأن واحدا من تلاميذه يحفظ شعره، قال لي «قررت أن أترك العمل الصحفي، لأكون ما رصدت نفسي له شاعرا. ولم يقل إنه سئم التعامل مع ادعى علينا أنه مبعوث من وزير الإرشاد في ذلك الزمان المتصل بالدوائر العليا وأن علينا ان نسمع له ونطيع، فقرر الشاعر مغادرة مباراة الابتذال اليومية التي يلعبها علينا هذا المدعي الذي يطلب منا أن نتراص لنردد خلفه ما ينطق به، ولم يكن أحد في روز اليوسف بقادر على ذلك. وكنا نعاير من يدعي الاتصال بالدوائر العليا بأنه يقضي الساعات على باب الحاج خميس سكرتير الوزير حاتم، ونضيف إلى المعايرة كشفنا لأكاذيبه، حين قدم لإحسان عبدالقدوس حديثا مع الجنرال إيزنهاور، قال إنه أجراه على سلم البيت الأبيض، وكان إحسان مثل غيره من الكبار يعلم أن البيت الأبيض الأمريكي لا سلم له، لكن إمعانا في السخرية هدده بأنه سوف ينشر الحديث الكاذب، وصار الصحفي مدعي التواصل مع الكبار اضحوكة كبيرة، تماما كما صار أضحوكة بعد ذلك بسنوات كثيفة حين أمر السادات باعتقال ألف وخمسمائة مفكر وسياسي، وقام بتغيير رؤساء الصحف، فما كان من هذا المدعي، سوى أن قال للسادات «هناك أسماء أخرى في دور الصحف يجب اعتقالها ومنعها من الكتابة»، هنا قال زميلنا النقيب الأسبق مكرم محمد أحمد للسادات: «لو تم منع قلم واحد من دار الهلال التي أسندت لي قيادتها سيادة الرئيس، فأرجو اعتباري مستقيلا». وبطبيعة الحال، أنقذ سلوك مكرم عشرات الصحفيين والكتاب لا في دار الهلال وحدها بل في دار روز اليوسف أيضا. ............................... لم أغادر آفاق صداقته إلا مرتين، مرة عندما سافر إلى الهند ليعمل مستشارا ثقافيا، وأخرى عندما قرر السفر إلى الموت زهقا من تلوث الهواء بالأطماع الصغيرة المزدحمة بإلاتهامات الباطلة. كان قبل أن يسافر إلى الهند قد عاش مأساة رغبة يوسف السباعي في التنكيل بمجلة «الكاتب» التي لم يعترف أي من نقادها بيوسف السباعي كروائي كبير. وكان السادات يراها بيتا لأهل اليسار الذي يلومه على كل فعل يتراجع فيه عن مسيرة العدل الذي بدأه جمال عبدالناصر، فقرر تغيير رئاسة تحريرها، بأن أصدر أمرا بعودة الناقد المشهود بدماثة خلقه وقسوة قلمه السياسي «أحمد عباس صالح» إلى جريدة الجمهورية، وأصدر قرارا بتولي صلاح عبدالصبور رئاسة تحرير مجلة «الكاتب». ورأيت في حلق الشاعر مرارة تفوق أي خيال، فهو لا ينسى ما حدث في منتصف الستينيات حين استقال ثروت عكاشة من قيادة الثقافة، وانضمت الوزارة لشقيقتها وزارة الإعلام، فحدد له الوزير عبدالقادر حاتم ميعادا في العاشرة صباحا، شرط أن تكون معه خريطة النشر في هيئة الكتاب لمدة عام، فسهر الليل بأكمله ليعد تقريرا بالمطلوب، وذهب إلى لقاء الوزير، الذي تسلم منه التقرير، وعاد صلاح عبدالصبور بعد اللقاء إلى مكتبه الذي كان خلف شيكوريل بشارع 26 يوليو، ليجد أوراقه قد تم جمعها في صندوق كبير؛ ووجد كائنا آخر من أتباع الوزير جالسا على مكتبه، فما كان منه إلا أن نزل مصحوبا بحيرة المكتئب إلى مبنى جريدة الأهرام ليستقبله أستاذه لويس عوض، المكروه أيضا من وزير الإعلام، وما هي إلا دقائق حتى أصدر محمد حسنين هيكل قرارا بتعيين صلاح عبدالصبور ككاتب بالأهرام، وبطبيعة الحال كان خبر نقل صلاح عبدالصبور قد وصل إلى جمال عبدالناصر، ليبعث عبدالقادر حاتم وزير الإعلام بمن يأتي له بصلاح عبدالصبور طالبا منه ألا يستقيل من وزارة الثقافة، وأن مكتبه مازال موجودا، وأن من كان يحتله قد رحل عنه. يرفض صلاح في البداية، لكن سهير القلماوي تناشده كي يعود ليحفظ للعقول كتبا تساعدهم على فهم ما يجري في الكون، فيستمر كاتبا بالأهرام ومديرا للنشر في هيئة الكتاب. يتلمظ الذين أرادوا افتراسه كمدا، يحاولون التقليل من قامته بلا طائل، فمن ذا الذي يقدر على تقزيم شاعر؟ ............................... سافر صلاح إلى الهند ليقضي سنوات أربع بعيدا عن صراعات القاهرة، وعندما عاد كان يوسف السباعي قد اغتالته رصاصات غبية في قبرص. وكان من يتولى أمر الثقافة هو منصور حسن الذي يصعب تلخيصه في وصفه بأنه من أهم وأقرب أصدقاء العمر في قلبي، ويسألني منصور: ألن نخرج من دوامة صراع د. رشاد رشدي مع الكاتب المسرحي الكبير سعد الدين وهبة؟. ألا تعرف رجلا يزن الأمر دون كراهية، يتولى أمر الثقافة لأني مشغول سياسيا، فأدق باب الشاعر الذي يقبل دعوة لفنجان قهوة مع منصور حسن، فيرى فيه الميزان الذي يحمل في داخله نقاء يمنحه بلا مقابل. وأوكل له مسئولية تأسيس المجلس الأعلى للثقافة بدلا من مجلس رعاية الفنون والآداب. ويعرض عليه كل الأوراق القادمة من رشاد رشدي أو سعد الدين وهبة. رشاد رشدي الأكاديمي الرصين الذي يجمد نفسه في كراهيته لليسار، وهو من أشيع عنه أنه قد خطب أمام الملك فاروق فيما قبل ثورة يوليو، وسعد الدين وهبة الذي اعتلى قمة النقابات الفنية لأنه يعرف كيف يحرك الشخصيات ككاتب مسرحي، ويجيد تحريكها أيضا في الواقع. أما صلاح عبدالصبور فهو الشاعر لا أكثر ولا أقل. ولا أدل على أنه الشاعر لا اكثر ولا اقل رفضه ذات مساء تولي قيادة مؤسسة الأهرام، قائلا لمنصور حسن هل هناك من يملأ مكان الأستاذ هيكل أو الأستاذ بهاء أو الأستاذ إحسان أو فتحي غانم؟ تلك حماقة تصل إلى الوقاحة ولا أملك لا الحماقة أو الوقاحة. وضحكنا عاليا. وكانت المرة الثانية حين دعاه السفير حسن عيسى مدير مكتب منصور حسن ليحضر اجتماعا بين مسئولي عدة جهات امنية للنظر في مسألة إسقاط الجنسية عن عدد من الكتاب الذين هاجموا السادات خارج مصر، هنا قال صلاح عبدالصبور «رئيس مصر ليس هو الوطن، بل قبضة من ترابه، من هذا التراب يأتي الرئيس وإليه يذهب؛ أما الوطن فباق». ............................... في يوم وداعنا له كان بجانبي أمل دنقل يبكي كأنه طفل، قائلا «قتلته كلمات غير مقصودة في مباراة حمقاء أفقدتنا ثروة بشرية هائلة». ولم يستطع منصور حسن مغالبة دموعه طوال لحظات وداع الشاعر صلاح عبدالصبور الذي كان ميزان ضمير حساس يهوى أن يكون لكل سيف ضمير القاضي، هذا الذي جعل من الجغرافيا شجرة أطل عليها بتذكاراتي فتمتلئ الروح بالشجن.