عندما اتصل بي الاستاذ مفيد فوزي متسائلا عن مواعيدحضوري في دار أخبار اليوم ليرسل اليّ نسخة من كتابه الجديد »نصيبي من الحياة« قلت له علي الفور إنني سأمر عليه في البيت، العمارة تطل علي نادي الصيد، عندما فتحت لي سيدة -مديرة البيت- أومأت مرحبة، في الممر الطويل بدا الاستاذ مفيد قادما من غرفة مكتبه، صحبني مرحبا، بسرعة تكون عندي انطباع ذو عناصر شتي، أولها أنه وحيد، وطوال لقائنا كنت بين عينين وصوت انثويين، الأول لزوجته الراحلة آمال العمدة، أما الصوت فلفيروز التي لا تفارقه، البيت بارد، الانثي هي التي تمنح البيوت دفئها وأنسها، اعرف البيت الذي تغيب عنه سيدته، أيا كانت مدة الغياب، لفترة أو الي الأبد، لاحظت تواضع البيت، انه بيت انسان شريف مازال يكسب رزقه بعرقه، بموهبته، بيت اسرة مصرية متوسطة ، رغم تواضعه فكل ما فيه ينم عن ذوق رفيع، ينتمي مفيد فوزي إلي جيل المهنيين الكبار مثل موسي صبري أحد أعظم الصحفيين الذين عرفتهم في تجربتي التي تقارب النصف قرن الآن، كان مثالا للتواضع والنزاهة والمهنية، انه اسطي الصحافة المصرية بحق كما يصفه مفيد، اضطر إلي الاستعانة بالدكتور ميلاد حنا ليقفل شرفته حتي ينام ويذاكر فيها ابنه الاكبر. أقول ذلك رغم خلافي السياسي معه، واقصائي بعد حرب اكتوبر وطلبي اعفائي من العمل كمحرر عسكري، الا أنني لم أبتعد عن الرجل انسانيا حتي وفاته، مفيد أحد هؤلاء المهنيين الكبار، وقد عشنا حتي رأينا في الجيل الجديد بعض ابناء المهنة الأقل مهنية ربما يسلكون دروبا بحيث يصبح دخل الواحد منهم مليونا من الجنيهات أو أكثر في الشهر صحيح انهم قلة ومنهم الموهوب، لكن الموهبة لم تكن في الزمن المولي طريقا الي هذه الثروات وتلك الأجور التي لاتشكل قاعدة عامة بل استثناء، الاستثناء فجموع الصحفيين الآن يشي مظهرهم بما هم عليه من تواضع حال وصعوبة عيش، يدين مفيد لموهبته وادائه، انه مهني اولا وأخيرا، وان يصدر مذكراته- لم تنشر سلسلة في أي صحيفة أو مجلة- فهذا حدث يستحق التوقف والحفاوة، صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في اربعمائة وعشرين صفحة. البدايات يبدأ الاستاذ مفيد كتابه بالسؤال، هو الذي جعل السؤال محورا لحياته، اذكر في احد اللقاءات بالرئيس السابق في مستهل افتتاح معرض الكتاب، أن وقف وطرح سؤالا يتصل بقضية حساسة، سأل: »سيادة الرئيس.. لماذا لم تعين نائبا حتي الآن..« وجاءت الاجابة غريبة »هات لي واحد من الخمسة وخمسين مليون ائتمنه علي مصر..« يبدو أنه فوجيء بالسؤال، كانت مصر في ذلك الوقت خمسة وخمسين مليونا فقط، أظن الزمن كان بعد تولي الرئيس السابق مسئولياته بسنوات قليلة، كان اللقاء في مسرح يوسف السباعي المجاور للكلية الحربية، مضي حوالي ربع قرن قبل أن يعين نائبا له »اللواء عمر سليمان« ولكن كان ذلك متأخرا جدا، كان اكثر من عشرين مليونا في ميادين مصر معتصمين في ثورة نادرة، هذا من الاسئلة التي لا أنساها، والاجابة ايضا فدلالاتها عديدة، يتساءل في بداية مذكراته، لماذا يقدم علي كتابة مذكراته؟ هل يعني ذلك وصوله الي مشارف النهايات؟ وماذا يهم الناس من أمره؟، ثم يقول إن حياته لم تكن نزهة، وتنهمر التساؤلات عما حققه في الحياة؟، ومن التساؤلات ينطلق محاولا تسلق شجرة الذاكرة، لقد أقدمت علي قراءة الكتاب ويمكن القول إنه حاول اعادة الواقع الذي عرفه جيدا من خلال معرفته المباشرة، لم يقص عن أحد ما يمكن ادخاله في باب التجريح. التزم الصدق، ولعل المثال الابرز ما كتبه عن ابيه الذي كان قاسياً، بعكس الأم الحنون التي كانت تدفعه الي ممارسة ما يحب، وتشجعه عليه، يبدو الاستاذ محمد حسنين هيكل شخصية مركزية في سيرته ومثالا يحتذي، لم يتتلمذ عليه لكنه ظل النموذج الذي يقترب منه ويبتعد عنه، ورغم أنه حاوره مطولا في ثماني عشرة حلقة نشرت في كتاب بعنوان »هيكل الآخر« الا انه يتمني لو أتم الحوار معه ليشمل الجانب السياسي والذي اعتذر عنه الاستاذ، ويتساءل: لماذا لم يكتب هيكل سيرته الذاتية ويتذكر نصيحته التي كانت دافعا له علي كتابة هذه المذكرات، قال له »لو انك بعد ان وصلت سن المعاش وارتحت من اعمالك كرئيس تحرير مجلة صباح الخير وتوقفت فإن مرض الزهايمر سوف يفاجئك ويهاجمك ويقضي علي مافيك ولذلك عليك بالعمل، انظر لي انني منذ الثامنة صباحا أجلس الي العمل، الي مكتبي واقابل الناس، اكتب واذيع، وانت الحمدلله تملك أن تكتب وتذيع وتكتب وتقابل الناس وان يكون حولك اصدقاء ولكن خذبالك مما قد يعطلك فإن الانسان إذا تعطلت احواله وادوات عقله قد يهاجمه الزهايمر، ان الطريقة الوحيدة والمناعة لوقف هذا العدو هي ان تعمل خصوصا في سنوات الخريف في حياة أي انسان، وأنت تكتب وتعتمد علي ذاكرتك كثيرا ولا تعتمد علي ذاكرة الكومبيوتر، فإنها افتراضية، لابد أن تمسك بالكتاب وتقرأ وتعيش هذه الصفحات وتدون ملاحظاتك، ان كتاباتك واتصال الناس بك يحميك من هذا العدو الذي يهاجم الناس في خريف العمر.. لعل هذا يفسر حيوية الاستاذ وقدرته علي الابداع والحضور، فالأمر يعود إلي الإرادة، ومن المذكرات يبدو الاستاذ مفيد قوي الارادة، دائم السعي الي التعلم والاستفادة من تجارب الآخرين حتي في هذه العمر المتقدمة، وتظل الصفحات التي يرسمها لتجربته في الصحافة من أجل ما قرأت عن عصر بأكمله يحاول لملمته مهما تبقي في الذاكرة. القبطي ينتمي مفيد فوزي الي جيل عرفت منه الكثيرين، اقباطاً ومسلمين، لم يكن هناك فوارق يمكن رصدها أو أي حساسيات، كان موسي صبري يحفظ القرآن واقرب اصدقائه من كبار الشيوخ، اذكر منهم احمد حسن الباقوري، لم اشعر يوما في التعامل مع ابناء هذا الجيل بأي ملاحظات تدل علي ان هذا قبطي وذاك مسلم، وهذه الروح نجدها في المذكرات، يعترف مفيد انه لم يكن يتردد علي الكنيسة كثيرا، وفي بعض المواعيد المخصصة للصلوات كان يذهب سرا الي السينما، هذه السماحة وذلك السلام الروحي الذي يتسم به هذا الجيل كان لأنه الأقرب الي اعظم ثورة متكاملة الاركان والعناصر، وهي الثورة التي استمر تأثيرها الروحي حتي ادراك جيلنا نحن »الستينات« من هنا اعتبر نفسي من نتاج ثورة 9191 التي ادركنا روحها عبر اساتذتنا العظام توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيي حقي وحسين فوزي وغيرهم ممن عاصروا هذه الثورة العظيمة، تبدو روح مفيد المتسامحة عند الحديث عن الشخصيات التي عرفها وأحبها لكنه يبدو قاسيا صريحا احيانا ازاء بعض ما واجهه خاصة واقعة فصله لعدة شهور من عمله الصحفي خلال الستينات، رغم انه لم يعتقل ولم يعذب ، أهي حساسية ؟ ام مبالغة ؟ لا أدري ، ويتسم حديثه عن مرحلة حكم الرئيس السابق بموضوعية كبيرة، يقول ان السيد صفوت الشريف قدمه الي الرئيس في بداية حكمه وأنه كان ودودا معه، وكما يقول: كان ذلك في سنوات الحلم الواعدة الاولي قبل ظهور شبح التوريث التي كان الجيش المصري معارضا له، وعن الثورة يقول: لم تقم الثورة من أجل وحشية الانتقام ولا من اجل الاحكام قبل المنصة، ولم تقم من اجل ان يتحول الشارع الي قاض بل الثورة قامت باللغة العامية بهدف العدالة الاجتماعية والحرية، وشيء آخر اسمه الانصاف، في سرده لمراحل تدرجه كصحفي يبدو الطريق الصعب الذي كان علي الصحفي الجديدأن يسلكه، فلسنوات ظل يكتب بدون توقيع، ثم بدأ التوقيع يظهر ببنط صغير وشيئا فشيئا يتدرج، في احدي المرات أعاد اليه فتحي غانم تحقيقا صحفيا تسع مرات، وفي كل مرة كان يعيد كتابته بالكامل، أما احمد بهاء الدين فقد نصحه قائلا، عندما تكتب عمودا فلابد أن تقدم للقاريء معلومة، يوم الاحد الماضي شاهدت في قناة النهار حوارا نادراً ومثيراً بين اثنين من الاسطوات الكبار للمهنة، عادل حمودة الذي يقدم برنامجا هاما وضيفه مفيد فوزي وكلاهما محاور عنيد، سأل عادل مرتين فأصغيت، السؤال الاول عن عدم ذكر مفيد لاسم والدته، وهذا صحيح، لم يذكرها في الكتاب وان ذكرها في البرنامج، تلك مسألة مرتبطة بالتكوين المصري العميق، للاسم قدسية خاصة، واخفاء الاسم طقس مصري قديم، فمن يعرف الاسم يمكنه التحكم في صاحبه، وإخفاء اسم الأم نوع من احترامها وتقديسها، هذه عادة متأصلة خاصة في صعيد مصر، السؤال الآخر كان عن المشير طنطاوي، الحوار الوحيد الذي ظهر فيه كان مع مفيد فوزي خلال اثنين وعشرين عاما أمضاها كقائد عام، سأل عادل عن طبيعة الشخصية وما تركته من انطباعات وتحفظ مفيد كثيراً في الرد بحثا عن كلمات لاتجرح- كما قال- كان من الواضح انه يحمل عتابا مؤلما للمشير، لقد اجاب ولم يجب. بعض الصفحات ترقي الي مستوي الادب الجميل، خاصة تلك التي يقدم فيها بورتريهات لآخرين، انقل عنه وصفه الحميم لمناخ العمل في روز اليوسف والذي ذكرني لأيام الجميلة في صالة الأخبار القديمة، زمن موسي صبري. روزا في القلب يقول مفيد فوزي : مازلت أذكر بالكامل رزوا اليوسف كان مكانها 81ش محمد سعيد خلف مجلس الوزراء، كان المكان فقيراً ومعدماً وبسيطاً منذ أن كانت السيدة روزا اليوسف تملكها وجاء احسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين ودخل كل عملاق هذا المبني الفقير جداً حيث كانت روزا اليوسف وصباح الخير والكتاب الذهبي يتم اصدارها منه، كان الدور الأول الارضي أو البدروم هو المطبعة ولا أنسي عم حسن رئيس المطبعة وصاحب الوجه الطيب وقد كان مسموحا له فقط بأن يصعد بنفسه بملابسه المتسخة احيانا بشحم المطبعة ولونه الأسود وقبقابه التقليدي علي ارض المكان، حيث كان المكان مبلطا بطريقة الشوارع في عابدين والحواري الضيقة وكان عم حسن الوحيد المسموح له بدخول مكتب احسان عبدالقدوس للحصول علي المقالات والمسموح له بالصعود مرة أخري للبروفات. اتذكر أنني لم يكن لي غرفة علي الاطلاق إلا فيما بعد حينما انتقلنا الي الدارالجديدة القائمة في 98 أ ش القصر العيني، وحيث كنت أذهب لآخر الصالة وأنحرف للشمال كي أري صلاح عبدالصبور الشاعر العظيم وكامل زهيري الكاتب الكبير الذي لا يُري إلا وهو يضم تحت إبطه مجموعة من الكتب والمجلات الأجنبية، وكان في هذه الغرفة ايضا حسن فؤاد والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي وأذكر وجه فوزية مهران الأم الرءوم التي كانت بالنسبة لنا جميعا أما تحيطنا بالرعاية أنا وصديقي عدلي فهيم الذي رحل مبكرا عن الحياة والمكان، ايضا جمعني بصبري موسي هذا الكاتب الكبير الذي لم يأخذ حقه، وهو أحد روائيي مصر الذين يعيشون في الظل لم تكن له أي ضوضاء أو شلة، كنا نحن الثلاثة أنا وصبري موسي وعبدالستار الطويلة اصدقاء نسافر معا ونعود معاً، اتذكر من هذا المكان أنني كنت حريصا علي أن أذهب مبكرا وتجتاحني رغبة في الجلوس علي المكتب، والتليفون الذي كان يجمعنا جميعاً وأطلب خطا من ريتا عاملة التليفون الشهيرة، وكذلك عوف عامل التليفون الأشهر الذي يقدم خدمات خاصة للمحررين. كانت زوجتي عندما تطلبني تقول آمال، وكنت حريصا أن يكون لها اسمها الحركي فجاءت ابنتنا الأولي وأطلقنا عليها اسم حنان، لأني كنت حريصا علي السرية الشديدة في العلاقة بيني وبينها، وكان تليفون روزا اليوسف معروفا للدنيا كلها »88802« ولم يكن هناك تليفون خاص سوي في مكتب احسان عبدالقدوس واحمد بهاء الدين وبقية الصالة بها تليفونات عادية، في هذا المكان رأيت رجلا زميلا ضخم الجثة عيناه تقطر حنانا، وقد التصقت به فترة طويلة اسمه سامي الليثي، كان مندوبا لروزا اليوسف بمجلس الوزراء، ورأيت ايضا احد كتاب روزا اليوسف العظام، ذلك الفتي النحيل الجميل الذي عاش في السجن اكثر مما عاش في حياته وهو فتحي خليل، وزهدي الرسام وزكي الرسام اليهودي وكنا نعرف أنه يهودي وليس بصهيوني وكنا نمزح معه كثيرا حينما يقول ان وطنه هو حارة اليهود في مصر، وليست تل ابيب واذكر ان زكي قد هاجر في أواخر حكم عبدالناصر ولا ادري الي أين؟ أتذكر كامل زهيري بضحكاته وصلاح عبدالصبور بحزنه، وكان قد تزوج من نبيلة يس ولكن العلاقة بينهما لم تستمر طويلا، حيث وقع صلاح عبدالصبور في حب سميحة غانم مذيعة التليفزيون التي كانت تتمتع بأمومة شديدة لعل صلاح عبدالصبور كان في حاجة اليها. أتذكر مباراة الشعر بين صلاح عبدالصبور واحمد عبدالمعطي حجازي وكيف كنا نسمع هذه الاشعار ونحن جالسون في غرفة كامل زهيري نأكل سندوتشات الفول التي يعدها لنا عم حسن في البوفيه.. ايضا عرفت فيه قصة حب محمود المراغي ونجاح عمر وكنا نساندهما بكل قوتنا حتي يتزوج الاثنان. أتذكر خطوات أحمد بهاء الدين السريعة حينما يأتي من الخارج الي مكتبه وصوت مديحة عزت العالي، وهي تنادي لعم حسن بأعلي صوت كي يأتي لها بالقهوة لإحسان عبدالقدوس. كان المكان أشمل مما أتخيل، كان يشبه أسرة في شقة تضم الأب والأم والأولاد كنا جميعاً أولادا لهذه السيدة روزا اليوسف التي كانت تأتي احيانا فيهز صوتها ارجاء المكان، روزا اليوسف عرفت طعم الاسرة الصحفية فقد كانت هناك اشارات لي في بعض الصحف مثل الاذاعة وآخر ساعة، ولكني لا اشعر حقا بانتمائي لمكان مثلما أحسست وعشت في هذا المكان الذي تخرج منه معظم رؤساء تحرير الصحف والمجلات. قرآن كريم قال تعالي : »والصُبْحِ إذَا تَنَفَّسْ «