لاأعرف بالضبط كم امرأة احتلت خيالى إلى حد الجنون، ولكنى أعلم يقينا أن هناك أشواكاً غير مرئية أحاطت بى وكأنها بدلة غطس ملساء وغير مرئية من الخارج ولكن الأشواك المدببة التى توجد بالداخل تتلامس مع جلدى هى التى تنبهنى إلى حالة الوجد والشوق الذى أتمنى فيه أن تسقط من السماء سحابة تحملنى أنا ومن أشتاق إليها لنقضى عمرا غير محدد النهاية. هل أقول إن تلك الحالة قد تلبستنى أكثر من عشر أو خمس عشرة مرة عبر سنوات العمر؟ حدث هذا وأكثر منه، ومازلت أتذكر من أعلنت عليها الشوق وأعلنت لها نداء الرغبة، وكان عمرى قرابة الرابعة عشرة. وكان عبدالحليم حافظ يغنى «على قد الشوق اللى فى عيونى ياجميل سلم». ولأنى من مواليد الإسكندرية، فذلك هو ما أتاح لى رؤية ليليان ابنة مدير توكيل شركة «فورد» للسيارات، تلك الإيطالية التى جمعت الصداقة بين والدها وبين والدى، فالمدينة المطلة على المتوسط كانت تعيش كهيئة للأمم المطلة على البحر، فيها أرمن وإيطاليون ويونانيون وعائلات من الشام. ولذلك فمن السهل حدوث ذلك التقارب الوجدانى بين من يولدون فيها، شرط أن تسمح ظروفهم الأسرية بذلك. ولكن كان من الصعب تصور أن تميل هى على شفتى بأول قبلة فى ذلك العمر. وهكذا نسيت كل صور وخيالات صوفيا لورين وآفا جاردنر وجينا لولو بريجيدا، وكل ممثلات السينما اللائى كن يسرقن خيالى حين أدخل القاعة المظلمة لسينما بلازا لأشاهد ثلاثة أفلام بقرشين صاغ فقط لا غير. وانتقلت عبر شفتى ليليان من مجرد مراهق صغير يدارى نضجه عن الكبار، إلى كائن يمكنه أن يفخر بملمس شفتين إيطاليتين. ولا داعى لأن أحكى عن رحلة تلك القبلة وكيف اختلفت تماما عن محاولة الحلوة ناهد التى تقاربنى فى العمر، وتربطها بعائلة أمى قرابة بعيدة. ولكن والدتها ألقتها فى منزلنا كل صباح من أجل أن تضمن لها عريساً، سواء شقيقى الأكبر، أو أنا، كما قالت لى هى مباشرة بعد أن عرفت بأن أخى الكبير هو الكائن المستحيل عليها بسبب غرقه فى قصة حب قاربت على الخطوبة مع ابنة خالته، ولذلك لم يكن من المريح قبول تلك اللعبة التى تريد بطلتها أن تهرب من بيت فيه سبع بنات وأربعة أبناء وتصطاد عريسا بفضيحة ولو صغيرة فى مثل هذا العمر. ومازلت أذكر أنى قلت لناهد إن أبى لو علم بما بيننا لطردنى من البيت ولن أجد أنا وأنت أمامنا سوى بيع أوراق اليانصيب فى محطة الرمل. أما ليليان فقد كان موقفها مختلفا، فهى عندما تعجب بشاب فهى لا تلزمه بشىء، فضلا عن ثقتها أن أى إنسان يملك يدين وقدمين يمكن أن يتعلم مهنة ما ويصرف على عائلة، هذا إن قررت قبول فكرة الزواج، فوالدتها ابنة بقال فى دمنهور، ووالدها تعلم فى مدرسة الصناعات الإيطالية «الدمبوسكو»، وهى تعيش بالإسكندرية وسط جالية الإيطاليين. وبشكل أو بآخر كنا نشعر نحن أبناء المدينة من المصريين بأنهم أفضل منا وأكثر رقيا، ولولا مكانة والدى فى المدينة لما سعى الخواجة ليوناردو إلى معرفة والدى، فوالدى هو رئيس مكاتب الحجر الصحى بالمدينة، ويكاد أن يكون الموظف الوحيد الذى لا يقبل هدايا من أصحاب التوكيلات التى تفتتح ورشا لصيانة السيارات التابعة للهيئة التى يديرها. ولما كانت وزارة الصحة تملك عددا كبيرا من السيارات الفورد، لذلك ففواتير صيانة السيارات كانت كبيرة، وهى تضاف إلى دخل الشركة التى يعمل بها ليوناردو. ولعل تلك هى نقطة البداية فى الاحترام المتبادل بين أبى وبين ليوناردو فضلا عن صداقة والدى مع الطبيب مزراحى زوج خالة ليليان، وهو يهودى يتمتع بالجنسية الفرنسية، وظل فى مصر بعد حرب فلسطين الأولى. وكان يعلن للجميع أنها حرب مهاويس فلا يوجد شىء اسمه حق تاريخى لليهود فى فلسطين. وكان مؤمنا بما يقول، على الرغم من أن الريبة كانت تملأ العيون التى تحيط به من كل الجهات. المهم أن تعلقى بليليان زاد عن الحد، حيث كانت تسكن هى وأسرتها فى فيللا أنيقة للغاية ببولكلى، بينما كنا نسكن نحن فى شارع عرفان باشا. والمسافة بين الحى الذى نسكن فيه والحى الذى تسكن فيه عائلة ليليان كالفارق بين السماء والأرض، فشارع عرفان المنتمى إلى حى محرم بك يقترب كثيرا من حى غربال وحى غيط العنب وحى كرموز، وكل من الأحياء الثلاثة يزدحم بالفقراء. بينما حى بولكلى يتوسط منطقة راقية للغاية، حيث تحيط به قصور زيزنيا الصغيرة، وجليم وأقرب الأحياء المتوسطة إليه هو كليوباترا. وكلها أحياء يسكنها الأجانب الذين يرتادون نادى سبورتنج أو الأندية اليونانية والإيطالية. أما أحياء محرم بك وغربال وغيط العنب وكرموز فهى أحياء لا نوادى لها، وإن أراد شاب ممارسة رياضة ما، فليس أمامه سوى ترابيزة البنج بونج أو الالتحاق بنادى الملاكمة فى شارع الإسكندرانى، حيث يمكن أن يشبع الشاب ضربا، وكأنهم يستخدمون الراغب فى التدريب كى يجربوا فيه كل ألوان الضربات. أما إن أراد تقليد أبناء الذوات فليس أمامه سوى لعب الشيش، تلك الرياضة التى تحتاج إلى ملابس مرتفعة الثمن، فمن هو القادر على دفع خمسة عشر جنيها ثمنا لبدلة وحذاء الشيش، فوق ذلك خمسة جنيهات على الأقل ثمنا للسلاح الذى يتم التدريب به. وقد أنقذتنى علاقتى بليليان من الإحساس بأنى أقل من الخواجات، كما أنها عزمتنى أكثر من مرة كى أحضر حفلات الموسيقى الكلاسيكية، والتى لم أفهم فيها شيئا سوى أنى خجلت حين نهرنى الدكتور مزراحى زوج خالتها حين صفقت أثناء صمت العازفين لثوان بسيطة؛ فنهرته ليليان وقالت له «يصفق وقت ما هو عايز». وقد أنقذنى ذلك من مآزق كراهية الموسيقى الكلاسيكية بل دفعتنى إلى عشقها إلى حد الجنون، بالإضافة إلى ميلاد صداقة مع الفنان سيف وانلى وشقيقه أدهم. وبقى المؤلف الموسيقى تشايكوفسكى من أحب الناس إلى قلبى. وما إن مات أبى حتى قامت والدتى بنقل منزلنا من شارع عرفان إلى شارع بوالينو، حيث يمكن للشقة المتسعة أن تضم عروس شقيقى. وهكذا تجددت لعبة ناهد فى شكل جديد، حين راقبت بعيون الدهشة الرجولية الطازجة تفاصيل «كيداهم» ابنة حارس عقار أسمنتى لم تستكمل جدرانه. وأعترف أنها كانت تفوق فى حيويتها أنوثة هند رستم، فمن ذا الذى يمكن أن ينسى امرأة فى اكتمال أنوثة هند رستم، وهى تتجسد أمامه واقعا لا خيالا؟ من المؤكد أن رؤيتها وهى تتحدث معى عن الحب والخيانة والزواج والطلاق من شباك حجرتى، من المؤكد أن ذلك كان أحلى مليون مرة من مذاكرة الرياضة والطبيعة وحساب المثلثات، أما الكيمياء والشعر، فقد كنت أحبهما مثل اشتهائى لهند رستم ابنة حارس العقار المجاور، هذا الذى يعمل شتاء وصيفا كشحاذ فى قطار أبى قير، ويتوب عن الشحاذة كل رمضان ليعمل «مسحراتى» فى الحى. وكانت الشائعات تحوم حول ابنته كيداهم التى تزوجت لمدة عامين من صاحب محل عطارة كانت خلفته كلها من البنات. وأراد أن يتزوج على زوجته زواجا ثانيا من أجل إنجاب الولد فتزوج من كيداهم، ولكنها لم تحمل، فضلا عن أن زوجة العطار الأولى سافرت - كما قيل - إلى أسيوط وصنعت عملا لإفساد هذا الزواج فى أحد الأديرة هناك، فصار العطار يرى كيداهم كأنها والعياذ بالله معزة، وكانت تراه والعياذ بالله على هيئة حمار. وتم الطلاق بعد أن ذهب الشحاذ المسحراتى إلى زوجة العطار الأولى ليقبل يديها كى تفك العمل الذى صنعته لابنته، فليس من المعقول أن تظل البنت مطلقة ولن يتزوجها أحد إن رآها الرجال وهى على هيئة المعزة. ووعدته السيدة خيرا إن أقسم على المصحف ألا يسمح لابنته بغواية العطار من جديد. وأقسم الرجل على المصحف، ثم ضحك قائلا: «إنت نسيت أنها تراه حمارا، فكيف لها أن تغوى حمارا؟» ومضى الرجل الشحاذ والمسحراتى يردد أن كل رجال العالم حمير حين تجذبهم امرأة حلوة، هكذا قالت زوجة العطار الأولى وهو قد صدقها. وكنت مندهشا من أن هذا العمل الذى أجرته زوجة العطار لكيداهم لم يحولها أبدا فى عيونى إلى معزة، بدليل أنها فور أن مدت عرقا من الخشب على شباك حجرتى، حتى أسرعت بالسير على هذا العرق الخشبى الذى بدا لى كصراط غير مستقيم فوق المنور الفاصل بين بيتنا والهيكل الخرسانى الذى تقيم فيه كيداهم مع والدها الشحاذ طوال العام ماعدا شهر رمضان حيث يمسك الطبلة ويدور فى الشوارع. ظلت كيداهم أكثر طزاجة أمام عيونى من هند رستم. ولن أنسى التجربة المكتملة التى قادتنى إليها كيداهم. وأيقنت يومها أن الرجل والمرأة فى أى تجربة عاطفية مكتملة هو إنسان عديم الخبرة، فالمسافة الموسيقية التى كانت تسببها قبلات ليليان تختلف تماما عن الصخب الزاعق الذى أرادته ناهد الباحثة عن عريس باسم القرابة، وهذا كله على جانب، أما تجربة كيداهم فهى حقيقة شديدة الاختلاف عن كل ما سبقها من تجارب. ومازلت أحفظ فى أذنى بنبرة صوت كيداهم وهى تقول لى تعليقا على سذاجتى الشديدة فى مثل هذه الأمور: «لا يوجد رجل قطع السمكة وديلها، ولا توجد امرأة تجهل فن قيادة الرجل إلى أحضانها، ومن تدعى البراءة إنما تمثل عليك دور فاتن حمامة، وفاتن حمامة تجيد قيادة من يحبها إلى المأذون عن طريق الكلمة التى تفتح باب المأذون مباشرة وهى تقول «حرام عليك تسيبنى بعد ما أخذت شرفى»،. وكانت كيداهم تضحك بجنون حين تردد كلمة «شرفى» تلك. وأعترف أننى كنت مشتتا بين ليليان التى تعلمنى الرقص فى حديقة الورد كل أحد صباحا، وبين كيداهم التى تقودنى إلى عبور الصراط غير المستقيم بين شباك غرفتى وبين سطح الهيكل الخرسانى المجاور لبيتنا. ومازالت صورة كل من عبد الناصر ونهرو وتيتو المطبوعة على كتفها بعد الاحتضان العميق وهى مركونة على الحائط الوحيد المبنى بالطوب، مازالت هذه الصورة تحمل لى ذكرى تحرر من جدران الخوف من أى امرأة. ولكن ليليان كانت بالنسبة لى هى حبل الإنقاذ الرومانسى المرتبط بالموسيقى الكلاسيكية ولوحات سيف وأدهم وانلى. ولم أكن أيامها أفكر فى الحلال أو الحرام، فالخطيئة بالنسبة لضميرى هى أن أظل محروما من احتضان أى واحدة تؤكد لى رجولتى. وكنت أتمنى بالفعل أن تقبل أمى حكاية الارتباط بينى وبين ليليان الإيطالية الحسناء، ولكن أمى رفضت بعنف، فكيف لها أن تفرط فى واحد من استثماراتها الحية وهو ابن ولد سيتعلم ويتخرج وسيساعد فى مصاريف البيت مشاركة مع شقيقه الذى تزوج بالفعل. أما إن تزوجت بأجنبية فالمثل البلدى الذى تأتى فيه إجابة جحا على سؤال تم توجيهه له «من أى بلد أنت ياجحا؟ » فأجاب «البلد الذى توجد فيه زوجتى»، فلو تزوجت بإيطالية فقد أهاجر وأعمل بعيدا عن سرب الأسرة المتماسك. ماذا يفعل المراهق بنضجه الجسدى فى زمن تتطور فيه العلوم ويتطلب من الاستعداد لسوق العمل وقتا طويلا فى التعليم؟ هذا ما أثاره أستاذنا أحمد بهاء الدين ذات نهار قديم على صفحات هذه المطبوعة التى بين يديكم «صباح الخير». وانتهى إلى ضرورة توفير أكبر قدر من التشجيع على التعليم بيسر حتى لا تظل أفكار الحب تحوم فى رأس المراهق أو المراهقة ولكى يظل حلم الاكتمال فى بيت صغير قريب جدا من الواقع إن أتقن الشاب والبنت ما عليهما من متطلبات لبناء بيت يسع الأحلام الشابة. وحذر إحسان عبدالقدوس على صفحات نفس المجلة من أن تستسلم ثورة يوليو لنوبات تعيين كل خريجى الجامعات فى وظائف صورية، لأن الواقع يقول إن مصر فى حاجة لكل شاب وكل بنت يتعلمان فيها بشرط أن نهيئ من التعليم فرصا فعلية لربط التدريب بالعمل، فلابد من قتل ما تركه اللورد كرومر من تراث فى مصر حيث يتخرج كل متعلم بالابتدائية أو التوجيهية أو الشهادة الجامعية ليكون «أفندى» يشترى الجريدة فى الصباح والبطيخة كل ظهر ويمسك بمنشة الذباب وهو جالس فى البلكونة بانتظار أن تعد الزوجة فنجان قهوة ما بعد الظهر. ولكن من قال إن الحكومات تستمع إلى آراء الكتاب؟ ولذلك ظل الريف المصرى الذى انتشر به التعليم يحلم بتحويل كل الأبناء إلى أفندية، ويتزوج الشاب فور تخرجه من الجامعة ويتم بناء غرفة له فى بيت الأب المبنى من الطين. وتنظر والدة الشاب إلى زوجة ابنها المتعلمة وكأنها عالة عليها، فهى لا تعرف كيف تحلب البقرة، ولا تشارك فى عجين الدقيق أو تقريص الخبز بعد أن يتخمر الدقيق المعجون، ولا تطيق المتعلمة الجلوس أمام فرن البيت. وكثيرا ما اشتعلت بيوت القرى بالخناقات بين الحموات وبين زوجات الأبناء المتعلمات اللاتى يرفضن المشاركة فى أعمال البيت. ولكن ماذا أفعل أنا بجسدى الموزع بين الرغبة فى بناء بيت مع ليليان وبين الاندماج اليائس مع كيداهم؟ أنقذتنى أمى حين لاحظت حكاية سقالة الخشب الممتدة بين شباك غرفتى وبين سطح الهيكل الخرسانى الذى تعيش فيه كيداهم ، وهنا أسرعت بتأجير منزل جديد فى حى أكثر أناقة من شارع بوالينو، وهكذا انتقلنا إلى شارع الرصافة الذى بدأت فيه رحلة هدم القصور الصغيرة لتتحول إلى عمارات سكنية كبيرة. وصادف ذلك دخولى الجامعة. ولا أنكر أنى عشت أسير مسرحية روميو وجولييت التى كان يدرسها لنا الأستاذ الدكتور محمد مصطفى بدوى، وكانت شرفة قصر جولييت هى السحر المطرز بأوهام أن يكون لمنزل زميلتى التى أحسست أنها مخلوقة لى شرفة بيت كتلك الشرفة. وأيقنت أن أرسطو هو تلميذ أفلاطون الذى تمرد على أستاذ أستاذه، أى تمرد على أرسطو، وأن الإنسان أسير مجتمعه ولن يستطيع الخروج من دائرة جنون المجتمع أو عقله. وجذبنى علم النفس كأنه الباب الملكى لقراءة أعماق البشر. وعلى الرغم من إعجابى الشديد بفرويد الذى قام بتفصيل كل الحياة على أساس أنوثة حواء وذكورة آدم إلا أن هناك من جعلنى أكثر فهما للحياة وجذورها وأعنى به أستاذ علم النفس الشهير د.سعد جلال الذى أوضح لى أن الصحة العقلية للرجل تكتمل بالحب، والصحة النفسية للمرأة تكتمل بالحب، بشرط أن نفهم جيدا مسئولية تكوين أسرة. وجاء وقت المزج بين الدراسة والعمل، فلم يكن معقولا أن يفتح لى إحسان عبدالقدوس باب التدريب فى «روز اليوسف»، ولم يكن من المعقول أن يرحب بى فتحى غانم كواحد من المحققين الشبان وأن أترك كل ذلك لأكتفى بالجلوس فى بوفيه الكلية انتظارا لمحاضرة ما ستأتى بعد ساعة، ولذلك أسرعت بالانتقال إلى القاهرة لأقيم فيها بدلا من الإسكندرية، لأمارس العمل مع من اعترفوا بى كإنسان يمكن أن يصير كاتبا. وبطبيعة الحال كان من السهل أن أسأل كل أستاذ يدرس لى بآداب الإسكندرية عن مراجع المادة التى يقوم بتدريسها، وأن أشترى الكتب جميعها وأقرأ فيها ما تيسر لى، وأن أقوم كل خميس بزيارة الإسكندرية كى أنقل المحاضرات. وبعد التنقل بين عدة شقق بالإيجار فى منطقة العجوزة، لم أطق انتظار الأتوبيس الذى ينقل الركاب من شارع نوال إلى ميدان التحرير، فهو يمر كل ساعة تقريبا. ولذلك أسرعت إلى الإقامة ببنسيون فى شارع شريف أمام عمارة الإيموبيليا. وها أنا ذا وبعد مرور أعوام كثيرة مازلت أذكر عدد درجات السلم المائة والأربعة التى كانت تقودنى إلى غرفة البنسيون. وأعترف أن أيامنا كانت أكثر حنانا وفهما لحقيقة الحب من هذه الأيام التى نعيشها حاليا. فقد كان يكفى أن تعرف الفتاة أن من يحبها صادق تماما فى مشاعره، لذلك لم تكن تضع حواجز بينها وبين التآلف بالهمس واللمس والقبلات والتواجد بين أربعة جدران معا. وهكذا كان الحال بينى وبين من رأيت أنها موجز لنساء الأرض جميعا، حبيبتى وزميلة الدراسة. وكانت صاحبة البنسيون الألمانية الأصل والتى استوطنت القاهرة بعد أن خافت من العودة إلى ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن مدام كيتى تخشى الشرطة أو أى مقتحم لغرف البنسيون، فهى معروفة لدى جهات الأمن بأنها لا تسمح لصعاليك المدينة بأن ينزلوا عندها، وكان من المعروف أن المقيمين عندها إما من عازفى أوركسترا القاهرة السيمفونى، أو المعيدين بكلية الفنون الجميلة أو الصحفيين الشبان، هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يقومون بغسل ملابسهم بأنفسهم أو إعداد وجبات الإفطار أو الغداء أو العشاء. ولم يكن هناك أدنى مانع لديها من أن يستقبل أى ساكن لغرفة ما عندها صديقته أو حبيبته، بشرط ألا تتغير الحبيبة كل شهر. وكانت تقول بحسم واضح «ليس عندى مانع من أن تستقبل حبيبتك ولكن احذر من تعدد العلاقات حتى لا تثير شبهة غير لائقة عن البنسيون، فالوقوف ضد الحب هو أمر تعاقبنى عليه السماء بأن أخسر نقودى فى سباق الخيل. وعندما أساند أى قصة حب، فالسماء تعطينى مكسبا فوق خيالى». وشاءت السماء أن تكرم مدام كيتى فى اليوم الأول لصعود حبيبتى معى إلى غرفتى، فكسبت فى ذلك اليوم مائتى جنيه حين راهنت على حصان أعجبها اسمه، ولم يتوقع أحد له بالفوز، وكان مسكب مائتى جنيه مرة واحدة بالنسبة لها أمراً مذهلاً لم يحدث لها فى تاريخ مراهنتها على الخيل. ويومها دقت باب غرفتى متهللة وقائلة «لماذا لا تتزوج حبيبتك وتقيمان فى هذه الغرفة؟». لم تكن مدام كيتى تعلم أن قوانين السماء تتشاجر مع قوانين الأرض فى جسد من أحب، فهى ترى أن قبلاتنا حرام، وتطلب منى الاستغفار بعد كل قبلة. وكانت ترى أن جسد الفتاة ليس ملكا لها بل ملك لأسرتها والأسرة هى التى تسمح فقط لرجل معين بأن يلمس جسد الابنة. حدث هذا على الرغم من أن الشوق كان ينفجر فى أى منا ولم نستطع مقاومته. ولكن الأب فور أن علم بأن ابنته تحب صحفيا حتى صرخ فيها «تتجوزى جورنالجى إزاى؟ عايزة تعيشى شحاته طول عمرك. وللا أصرف عليك إنت وعيالك؟». كان الرجل يعلم بحكم خبراته الحزبية فيما قبل ثورة يوليو أن الصحفيين هم أردأ أصناف الرجال وإلا لما رفضت أسرة صفية السادات زواجها من الشيخ على يوسف. وكان هو الصحفى الأول فى تلك الأيام. وكان والد حبيبتى قد اكتشف عبر حياته فى العصر الملكى أن أى صحفى له سيد يصرف عليه ومن السهل أن ينقلب الصحفى على سيده إن وجد سيدا آخر. ولم يعترف الرجل أبدا بأنه توجد دور صحف محترمة مثل دار «روزاليوسف» التى يقودها إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وحسن فؤاد، هؤلاء الذين علمونا أن كرامة الصحفى فوق أى كرامة أخرى، ولن أنسى ما حييت أن إحسان عبدالقدوس كان يبعثنى إلى الصعيد كى أحقق فى بعض القضايا ويطلب منى أن أقيم فى أغلى الفنادق وألا أسمح لأى محافظ أن يدعونى على الغداء أو العشاء. ولن أنسى أبدا ملامح محافظ الدقهلية الأسبق والراحل إسماعيل فريد وأنا أجرى تحقيقا صحفيا فى محافظته واتهمته بأنه يقيم سرادقات التأييد للثورة بينما هى سرادقات للنفاق. وقامت الدنيا ولم تقعد وصدر إسماعيل فريد قرارا بألا أدخل محافظته لأنه ممثل لجمال عبدالناصر، فما كان من مكتب جمال عبدالناصر إلا أن اتصل به وجعله يلحس قراره هذا. ولكن من يقنع والد حبيبتى بأنه على خطأ وأن مهنة الصحافة محترمة؟ لا أحد. دارت الأيام دورتها ولم أتزوج بمن أحببت، بل تعرفت على غيرها كثيرات وكنت مؤمنا بما علمته لى كيداهم بأن كل حب هو تجربة جديدة، والرجل الذكى حقا هو من يترك للمرأة حق قيادة التجربة المكتملة، فهى التى تملك قدرات تدريب من تحبه على معرفة آفاق الموسيقى العاطفية فى العناق. وسافرت إلى أوروبا وأمريكا. وحضرت عشرات من حلقات النقاش التى يناقش فيها علماء وأطباء النفس آفاق التجربة بين الرجل والمرأة. وأيقنت أن انتشار الزواج العرفى فى مجتمعنا هو نتاج طبيعى لارتفاع أسعار المساكن المبالغ فيه، فالبنت والشاب لا يريدان إغضاب السماء. ولكن فور انتباههما إلى حقيقة استحالة العثور على شقة صغيرة حتى ينفجر الحب إلى شظايا من كراهية تجبرهما على تمزيق ورقة الزواج العرفى. ولأن ثمانين بالمائة من اقتصاد هذا البلد فى أيدى القطاع الخاص، لذلك صارت زغللة العيون بالشقق الفارهة موجودة فى إعلانات التليفزيون أما إمكانية الحصول على شقة وعلى عمل دائم بالنسبة للشاب أو البنت فهو أمر شبه مستحيل. فكيف إذن لا ينتشر الزواج العرفى إن كان مستحيلا أن يشعر الشاب باطمئنان فى وظيفة يرتقى فيها إلى الأعلى؟ وإذا كانت أوربا وأمريكا لا يهتمان بقوانين السماء فى تنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة، فتلك المجتمعات تعيش وهى تتيح لأطباء النفس علاج أحاسيس الوحدة التى تغرق فيها المرأة حين يذهب من يحبها إلى امرأة أخرى، أو يعالج الشاب إن ذهبت حبيبته إلى رجل آخر. أما هنا فليس أمام الشاب سوى أن يعلق نفسه فى حبل ويلقى بنفسه فى النيل، أو تلقى الفتاة إن لم تحسن منع الحمل بالجنين عند أقرب جامع. ويا أيها السادة مطلوب من الكرة الأرضية اجتماع عاجل لهيئة الأممالمتحدة من أجل إعادة زراعة ثقة الأجيال الشابة فى أنفسهم وفى المستقبل معا.؟