تعاون شبابي عربي لتعزيز الديمقراطية برعاية "المصري الديمقراطي"    بعد تدخل المحافظ، "ترانس جاس" تكشف حقيقة تسرب الغاز بكفر الشيخ    هند رجب تطارد جيش الاحتلال، بيرو تفتح تحقيقا رسميا ضد جندي إسرائيلي ارتكب جرائم حرب في غزة    استشهاد 75 بغزة منذ فجر الجمعة جراء القصف الإسرائيلي    هزة أرضية بقوة 3 ريختر تضرب جزيرة كريت في اليونان    اليونيسف: إنشاء كيانات جديدة لإغاثة غزة إهدار للموارد والوقت    "تاس": طائرة تقل 270 جندياً روسياً أُعيدوا من الأسر الأوكراني هبطت فى موسكو    «مش شبه الأهلي».. رئيس وادي دجلة يكشف رأيه في إمام عاشور    تفحم سيارة في حريق نشب داخل ورشة بحلوان    شديد الحرارة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم    محمد رمضان يعلن خوضه موسم دراما رمضان 2026 ويوجه رسالة إلى جمهوره    نجاح مركز طب وجراحة العيون بكفر الشيخ في إجراء جراحة دقيقة لزراعة طبقية قرنية    رابط نتيجة الصف الأول الثانوي الأزهري الترم الثاني 2025.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام    العناية الإلهية تُنقذ مستشار من حادث سير مروع بقنا    رابط نتيجة الصف الأول الابتدائي بالقاهرة 2025 وخطوات الاستعلام عبر بوابة التعليم الأساسي    حملات أمنية لردع الخارجين عن القانون في العبور| صور    حرب شائعات.. المستشار الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي معلومات مغلوطة بشأن تصدير المانجو    اليوم.. نظر دعوى الفنانة انتصار لزيادة نفقة أبنائها    ضبط 2.5 طن أعلاف مخلوطة بالقمح المحلي في التل الكبير بالإسماعيلية    نشرة التوك شو| الاتحاد الأوروبي يدعم مصر ماليا بسبب اللاجئين.. والضرائب تفتح "صفحة جديدة" مع الممولين    خبيرة أسرية: البيت بلا حب يشبه "بيت مظلم" بلا روح    الفيلم الفلسطينى كان ياما كان فى غزة يفوز بجائزة أفضل ممثل بمهرجان كان    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    أسماء المقبولين بمسابقة 30 ألف معلم.. تعليم الشرقية تعلن النتائج    الضرائب: أي موظف يستطيع معرفة مفردات المرتب بالرقم القومي عبر المنظومة الإلكترونية    واشنطن ترفع العقوبات عن موانئ اللاذقية وطرطوس والبنوك السورية    النسخة الأفضل مِنكَ    اليوم.. منتدى القاهرة ل«التغير المناخى» يحتفل بمرور 100 عام على فعالياته بين مصر وألمانيا    حلمي طولان: تراجعنا عن تعيين البدري مدربًا للمنتخب لهذا السبب    استشارية أسرية: الحب مجرد تفاعل هرموني لا يصمد أمام ضغوط الحياة    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم الدفعة الثالثة بالشرقية (مستند)    سعر الذهب اليوم السبت 24 مايو محليا وعالميا بعد الارتفاع.. بكام عيار 21 الآن؟    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 24 مايو 2025    وزير الزراعة: صادرات مصر الزراعية إلى السعودية تتجاوز 12% من إجمالي صادراتها للعالم    ترامب والشرق الأوسط.. خطط مخفية أم وعود حقيقية؟!    وول ستريت تهبط بعد تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبى    مصر تعيد 71 مواطنا مصريًا من ليبيا    وفاة 3 شباب إثر حادث سير أليم بكفر الشيخ    بالأسماء.. «تعليم الإسكندرية» تعلن قائمة المقبولين بمسابقة ال30 ألف معلم    ننشر أسماء المقبولين في وظيفة «معلم مساعد» بالمنوفية| صور    إسقاط كومو لا يكفي.. إنتر ميلان يخسر لقب الدوري الإيطالي بفارق نقطة    "الظروف القهرية يعلم بها القاصي والداني".. بيراميدز يوضح تفاصيل شكواه للمحكمة الرياضية بشأن انسحاب الأهلي أمام الزمالك    يوريشتش يستقر على تشكيل بيراميدز أمام صن داونز.. يجهز القوة الضاربة    عمرو أديب: الناس بتقول فيه حاجة مهمة هتحصل في البلد اليومين الجايين (فيديو)    بعد وفاة زوجها.. كارول سماحة لابنتها: هكون ليكي الأمان والسند والحضن لآخر لحظة من عمري    "الثقافة" تصدر "قراءات في النقد الأدبي" للدكتور جابر عصفور    صلاح سليمان: مباراة بتروجت مهمة للزمالك لاستعادة الانتصارات قبل نهائى الكأس    نابولي يهزم كالياري بهدفين ويحصد لقب الدوري الإيطالي    تعرف على نتائج المصريين فى اليوم الثانى لبطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    نصائح لتجنب الارتجاع المريئي، و7 أطعمة تساعد على تخفيف أعراضه    ارتفاع حالات الحصبة في الولايات المتحدة وسط مخاوف من انتشار واسع    أخبار × 24 ساعة.. حصاد 3.1 مليون فدان قمح وتوريد أكثر من 3.2 مليون طن    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    بحضور انتصار السيسي، "القومي لذوي الهمم" ينظم احتفالية "معًا نقدر"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماما أمريكا: لماذا تقتلين أطفالك؟!

نصف عقل الإنسان العربى يحب أمريكا ونصف عقله الآخر يكرهها، لذلك نكيل لها السِّباب، لكن ما إن ندلف إلى غُرَف النوم حتى ندير ريموت التليفزيون لنشاهد فيلما أمريكيا عن المغامرات العاطفية لنساء أى مسلسل ساخن أوضاحك!!

ماذا يحدث لك عندما تنظر إلى السماء فتجد بين السحاب أنثى عارمة الجمال تمتطى حصاناً أشهب، وتنتقل بسرعة من سحابة إلى أخرى. وكلما زادت سرعة الحصان ازداد جمال المرأة إلى ما فوق التصور؟
ماذا يحدث عندما تمتلئ عيون الرجال بالشهوة بينما هم واقفون معك يراقبون جمال هذه المرأة وهو يزداد، ويفكر كل منهم أن يصعد إليها ليبنى كوخاً من قطرات مياه السحاب ويدخل مع المرأة فى عناق ساخن؟

وماذا يحدث عندما تمتلئ رؤوس النساء بأفكار خيالية متضاربة، خيال يقول لامرأة ما: «إنك أكثر جمالاً من تلك المرأة، فلماذا تركب هى حصان السحاب بينما أنت تقفين على الأرض؟»، وخيال آخر فى رأس امرأة أخرى يقول لها: «إن المرأة التى تركب حصان السحاب هى التى ستسرق منك زوجك وهى التى ستجعله أكثر سعادة».. هذه الأنثى التى تمتطى حصان السحاب الأشهب هى التى تسرق خيال الرجال والنساء فى أمريكا. وهى التى تجعل من «بوش» رئيساً للولايات المتحدة، وهى التى جعلت غيره يفشل فى الانتخابات، وهى التى جعلت «ريجان» أو كلينتون يحكم أى منهما أمريكا لمدة ثمانى سنوات، وهى تجعل كل من فى أمريكا مشغولاً بالصعود إلى أحضانها.. فإن كان المشغول بها رجلاً فهو يحلم بالزواج منها.. وإن كان المشغول بها امرأة فهى تحلم بإزاحتها عن مكانها، وأن تستمتع بما تستمتع به هذه المرأة فى السماء.. هذه المرأة اسمها «الحرية الخاصة والحياة المرفّهة».

وهذه «المرأة» تجنًد كل أدوات العمل الاقتصادى والسياسى من أجل أن تبقى لها مكانتها فوق عرش خيال الأمريكيين.. والحياة هناك هى رحلة التنافس الحاد للصعود إلى قوقعة الحياة مع هذه المرأة.. وفى هذه الرحلة تدهس كل مايقف فى طريقها، وتفعل مايمكن أن يراه العالم شراً، لكن أمريكا نفسها تعتبر هذا «الشر» لوناً من الذكاء الخارق.

هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أشهد عنوان المؤتمر الغريب الذى شهدته «دهاليز» واشنطن.

اسم المؤتمر: «لماذا يكره العالم الثالث أمريكا»؟ والمؤتمر ينعقد بواسطة الجمعية العالمية للطب النفسى بالاشتراك مع الجمعية الأمريكية للطب النفسى.. والجريدة الأمريكية تشير إلى اسم النجم الأساسى المتحدث فى المؤتمر. إنه صديقى الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس.. وعندما يوجد إنسان فى الغربة فإن كل صداقاته تجلو وتلمع. وانبثقت فى رأسى رحلات النقاش.. بينى وبين د.أحمد عكاشة على مدى أربعين عاماً. فمنذ أن عبر البحر المتوسط إلى إنجلترا وهو يسبح فى عالم الفهم العميق لسلوك الإنسان ومشاعره. ومنذ أن عاد فى عام 5691 إلى القاهرة وهو يبشّر بالضبط الكيميائى لعلاقة الإنسان بنفسه وبالعالم. وبوجود د. أحمد عكاشة على ساحة الطب النفسى العربى انتهت مشكلة تاريخية وهى اعتبار كل من يشكو من إرهاق نفسى إنساناً قريباً من الجنون. قاد احمد عكاشة حركة هادئة من العلم ليزيل عن أعيننا هذا الجهل الشديد تجاه المرض النفسىّ. صار من حق الإنسان أن يقول: «عندى اكتئاب»، أو أن يقول «أعصابى متوترة»، أو أن يقول: «أنا غير مستريح».. و تواعدنا على اللقاء فى آخر أيام المؤتمر ، وعدت إلى واقعى حيث أوجد فى منزل « فاطيما» التركية الحسناء. كانت صداقتى مع «فاطيما» قد صارت أكثر عمقاً؛ فقد اتفقنا عملياً على أننى صديق لا يجرؤ على أن يلمس آفاق العناق مع امرأة دون زواج. و قبلت تلك الحقيقة بمودّة عميقة . لاحظتُ أنها تملك لوحة منسوخة من رسم «سلفادور دالى»، وهذه اللوحة عينها توجد منها نسخة حقيقية بتوقيع سلفادور دالى نفسه فى منزل الدكتور أحمد عكاشة. «سلفادور دالى» حياة عجيبة، رحل أخيراً إلى الموت بعد إصرار عميق على الحياة. كان هناك حوار ذات مساء فى روما حول هذا الرجل مع واحد من كبار صنّاع الفن فى مصر هو د.مصطفى عبد المعطى الذى قضى خمس سنوات من حياته فى إسبانيا. وفى أيام تواجده هناك قضى وقتاً مع هذا الرجل الذى كان يملك أغرب هواية على ظهر الأرض، وهى أن يجمع الشبان والبنات ليرقصوا عراة فى حوض السباحة الخاص بقصره. وكان يلبّى رغبات فتاة فى الثانية والعشرين تشبه «جالا» التى عاش هذا الرسام ليحبها وحدها، ولكن عندما أصابتها الشيخوخة لم يجد مفراً من البحث عن صورتها فى شابة صغيرة السن.

قلت لفاطيما: أنا ذاهب إلى لقاء واحد من أكبر علماء العالم العربى. أضافت: يحسن أن تدعوه عندنا على الغداء.

ضحكت قائلاً: أنا لا أملك حق دعوة إنسان فى منزلك، فهذا منزلك وليس منزلى. قالت فاطيما بلون من الزهق: سأجعلك تدفع كل تكاليف الغداء.

قلت: سنناقش مع الدكتور أحمد عكاشة بحثه الذى ألقاه فى مؤتمر الطب النفسى وناقش فيه الإجابة عن أغرب سؤال هو «لماذا يكره العالم الثالث أمريكا؟»

قالت: بما أنى نصف أمريكية ونصف تركية فدع نصفى التركى يعرف لماذا يكره النصف الأمريكى.. ولأن أحمد عكاشة يعرف ثنايا حياتى الخاصة فقد استوعب وجود «فاطيما» معى دون تعليق. فالطفل فى داخلى يمكنه أن يلعب، والمراهق فى أعماقى يمكنه أن يشتاق، ولكن الناضج فى داخلى أيضاً يقيم سياجاً من حديد ضد الأخطاء.

قلت: لماذا يكره العالم الثالث أمريكا يا دكتور أحمد؟

قال د.أحمد: أنت قلت لى تعليقاً من مقاتل فلسطينى عندما داهم مشاة البحرية مدينة بيروت فى السبعينيات؛ قال المقاتل « هرب الأمريكيون من بيروت عندما شعروا أننا نستعمل خوذات جنود المشاة الأمريكيين كمطافئ للسجائر.وتذكر أيضاً محاولتهم رشوة عبد الناصر بمائة ألف دولار، وكيف كلّف عبد الناصر الضابط المكلَّف بقبض الرشوة وقام بعملية حساب للدولارات وأصر على أنها تنقص مائتى دولار ؛ فدفعها حامل الرشوة من جيبه، وأقام بها برج القاهرة كخازوق أنيق يشهد أن البطل العربى غير قابل للرشوة، وصار هذا البرج مركز الاتصالات بشبكات السفارات المصرية فى الخارج، وبعد دخول عصر الإنترنت والتواصل الإلكترونى ، صار هذا البرج رمزا لمدينة القاهرة ، وأنت أيضا تعلم ماذا فعلت الصين فى عام 6691 مع وفد مصرى ووفد آخر لدولة عربية أخرى ذهب إلى هناك؟ أنت كنت تشهد معى ما قاله لنا أحد أعضاء الوفد.

قلت: لقد جمعوا أعقاب سجائر الوفد المصرى، وكانت فى معظمها سجائر أمريكية الصنع وكانوا قد اشتروها من الأسواق الحرة بالمطارات، فقد كانت السجائر الأجنبية ممنوعة فى القاهرة. جمع الصينيون هذه البقايا وقالوا للوفد المصرى: «إذا أردتم تحدى أمريكا فلا تستعملوا بضائعها، وإذا استعملتم بضائعها فلماذا تغضبون عندما تذهب نقودكم إلى مصانع تموّل إسرائيل بالسلاح؟»، وقالوا للوفد العربى الآخر: «ليس عليكم جناح فى استعمال أىّ شئ أمريكى، لأنكم ببساطة تنفّذون تعليمات السفير الأمريكى بدقة». وثار الوفد العربى الآخر لأن قيادته كانت تمعن فى العداء الخطابى لأمريكا.

قال لى د. أحمد عكاشة: وما أروع الأفلام التى تحب أن تشاهدها؟

قلت: الأفلام الأمريكية خصوصاً من إنتاج وإخراج إيليا كازان.

قال: وماذا تقول عندما يمرض شخص بمرض خطير ولا يجد الثقة الكاملة فى العلاج فى أىّ عاصمة عربية.

قلت: أقول له: ''ولماذا لا تذهب إلى أمريكا''.

قال: ولماذا أنت هنا فى نيويورك؟

قلت: لأن نيويورك تكاد أنت تكون عاصمة العالم، ففيها الأمم المتحدة، وفيها جاليات أجنبية بتعداد شعوب العالم.

قال: وبماذا تسمّى كل ذلك؟ وهل يمكن أن تلخّص كل إجاباتك السابقة فى كلمة واحدة؟

قلت ضاحكاً: «ماما أمريكا» لماذا تقتلين أطفالك من أبناء العالم الثالث؟

ضحك د. أحمد عكاشة قائلاً: وأنا أسمّيها «الثنائية الوجدانية». وهذه الثنائية الوجدانية هى التى تحكم علاقة أعماق العالم الثالث بأمريكا. أنت تعرف أن هناك مسافة كبيرة بين ''الشعب الأمريكى« وبين» السياسة الأمريكية''. الشعب الأمريكى شعب لا تاريخ له وإنه مكوّن من إنجليز وألمان وأسبان وعرب وبولنديين وروس وفرنسيين. وعندها كنت أحاضر فى هذا المؤتمر كنت ألقى محاضراتى تحت عنوان «الديناميكية النفسية للشعور المعادى لأمريكا فى البلاد النامية»، و أركز على إحساس القهر لرجل الشارع فى أىّ بلد من بلدان العالم. إن رجل الشارع يحلم بأن أمريكا يمكنها أن تصنع الكثير له، ولكنها لا تفعل إلا عكس ما يتمناه. نحن فى مصر مثلاً، كنا نحلم أيام الحرب العالمية الثانية بأن ينتصر الألمان على الإنجليز، ليس لأننا كنا نحب نازية هتلر، ولكن لأننا كنا نعانى من الاحتلال الإنجليزى، ولأن بريطانيا كانت وراء تقسيم فلسطين.. وبعد أن قامت ثورة يوليو 2591 كانت أنظار الثورة فى مصر تتجه إلى أمريكا. وكانت الثورة تضع العلماء الذين تعلّموا فى أمريكا فى مقدمة الصفوف. وتأكد ذلك بعد حرب 6591. فعندما واجهت مصر العدوان الثلاثى شعرتْ بالامتنان لأمريكا لأنها لم تعترض على الإنذار السوفياتى لكل من إنجلترا وفرنسا، بل قام الجنرال أيزنهاور بتوجيه اللوم إلى إيدن رئيس وزراء إنجلترا فى تلك الفترة، وبعتاب فرنسا بعنف. ولكن لم نكن نعلم ماذا فى جعبة أمريكا. كنا نعلم فقط أنها لا تستعمر بقواعد وجنود احتلال. صحيح أنها كانت تعرض سياسة الأحلاف، ولكنها كانت تقبل رفضنا لهذه الأحلاف على مضض، إلى أن أخطأت خطأ فاحشاً وهو سحب تمويل السد العالى. وجاء الدب الروسى بذكاء قديم ليجد قدماً على المياه الدافئة. فالروس لا يحتاجون إلى الشرق الأوسط من أجل بتروله، ولكن من أجل أن يتم التبادل التجارى معه، لأن الشرق الأوسط يمكنه أن يصدّر للروس وأن يستورد منهم، وفى هذا خنق غير مرئى للاقتصاد الأوروبى والأمريكى واليابانى. فمن يملك السوق فى الشرق الأوسط يمكنه أن يتحكم فى العالم كله. لذلك حاولت أمريكا أن تحتفظ طوال خمسة وسبعين عاما بتشتت العالم العربى. وقد عانت أمريكا كثيراً من جمال عبد الناصر، لكنها تسللت إليه من بين أصابع الأخطاء التى وقع فيها. لقد احتضنت أمريكا كل عدوّ لجمال عبد الناصر، وركّزت جهدها على استغلال الدين الإسلامى. أنت تعرف وأنا أعرف أن جمال عبد الناصر هو الذى أصدر الأوامر لتنقية التراث من الخزعبلات. هو أول من طبع «صحيح البخارى» و«صحيح مسلم»، وهو أول من طبع تفسيراً للقرآن الكريم قامت به جماعة من العلماء الكبار لا دخل للهوى أو للإسرائيليات فيه. ورغم ذلك حاول الذين يلبسون ثياب التخلف أن يستمدوا القوة من الولايات المتحدة. وفرحت بهم الولايات المتحدة كثيراً. لقد أقامت لهم شركات تدّر الملايين. وحينما حان الوقت وتولى السادات الحكم، كان السادات فى حالة قلق من تيار الثورة العربية، لذلك ترك للذين يرتدون ثياب الإسلام الفرصة ليهاجموا إنجازات جمال عبد الناصر ويتّهموه بالإلحاد، وكانوا فى الوقت نفسه يلعنون الولايات المتحدة لأنها رمز الفجوة فى العالم المعاصر، لكنهم يتعاونون معها عمليًّاً. وعندما قويت شوكة التطرف، لم يجد التطرف أمامه من عدو إلا السادات فاغتاله، وكان هذا فجيعة بالنسبة لأمريكا. ولكن أمريكا لا تستغنى عن المتطرفين، لأنهم يتجهون بالمنطقة إلى حالة دفاع عن النفس ضد عدو من الداخل، فلا تفكر المنطقة فى الاعتماد على نفسها أو البحث عن صداقات استعمارية.

قلت للدكتور أحمد: هل تريد أن تقول إن نصف عقل الإنسان العربى يحب أمريكا ونصف عقله الآخر يكرهها؟

قال: المسألة أعمق من أن تكون مجرد نصف العقل هنا ونصف العقل هناك. إن نصف الوجدان مع أمريكا ونصف الوجدان ضد أمريكا. إننا نتوحد مع الذى يبهرنا بتقدمه العلمى، ونعترف لأمريكا بالسيادة، ولكن عندما تتصرف أمريكا بما يضمن مصالحها فإننا نكيل لها السِّباب ونقول إنها سبب المشاكل دائماً، ونحلم بأن «الإيدز» لابد أن يقضى عليها، ونقول إنها مجتمع منحلّ، ثم يدلف كل منا إلى حجرة نومه ليدير ريموت الفيديو بحثا عن مسلسل أمريكى.

أقول للدكتور أحمد: هل تعنى أننا يجب أن نصوم عن إنتاج أمريكا ونفطم أنفسنا منها؟
قال د. أحمد: هذا أمر يجب أن تمارسه بوعى لا على أساس أنه تضحية، ولكن على أساس أنه مسئولية فردية ومسئولية عامة. إننا نرى أصابعهم وراء تأييد التطرف. ولقد قرأنا جميعاً عشرات التصريحات الأمريكية التى تدين الحروب ، ولكن بما أن الذين يموتون فى هذه الحرب ليسوا أمريكيين، فما المانع من بيع السلاح سرًّا إلى المتقاتلين ؟ هم واقعيون بلون قاسٍ من الواقعية. ولا يملكون أىّ مُثُل عليا فى التعامل اليومى السياسى. فعندما يتحدث سياسى عربى مع سياسى أمريكى، فإن السياسى العربى يتحدث عن الحق والعدل وضرورة إزالة الاضطهاد الذى يعانى منه العرب فى الأرض المحتلة. لكن السياسى الأمريكى يتحدث عن الأحلاف والعلاقات الاستراتيجية وعن الإسرائيليين وكأنهم بشر. أما الفلسطينيون والمصريون والسوريون والعراقيون، فهم أشياء أو كائنات أقل من البشر. وهناك خلاف عميقً بين إدراك السياسى الأمريكى للواقع العربى، وبين إدراك الإنسان العربى للواقع الأمريكى. هم يقيسون الأمور بقوة النيران ،وبالدولارات التى يمكن بها شراء اتجاهات سياسية، ونحن نقيس الأمور بالقيم. وهم يؤمنون أن القوة يمكن أن تهزم القيم. إن القوة والمال هما عصب الإدراك الأمريكى؛ ولا يكفون عن تمويل المتحاربين بالأفكار التى تضمن استمرار القتال، وبالمال الذى يضمن وضع المنطقة كلها فى حالة توتر، فيتجه الجميع إلى البيت الأبيض يطلبون منه السلامة. أنها سياسة ذات وجهين، وجه براق، ووجه قذر. وذلك ما يجعل إنسان العالم الثالث يحس بالكراهية لأمريكا.

قلت: وكل فترة يبيعون لنا وهم الخلاف بينهم وبين إسرائيل ، أو أن أفكار أى رئيس أمريكى تتباعد عن أفكار الصهيونية ، لكنه فى انتظار الولاية الثانية ليغير من وجه المنطقة، ثم نفاجأ بألا تغير يذكر فى حرارة العلاقة الإسرائيلية الأمريكية.

ضحك د.أحمد عكاشة بعمق: لقد تعوّدنا أن نقول إن إسرائيل وحّدت نفسها مع أمريكا. ولكن العكس هو الصحيح. الصحيح أن أمريكا هى التى توحّد نفسها مع إسرائيل. فإسرائيل هى حلم أمريكا الذى لا تعلن عنه. إن أمريكا أبادت جنساً هو الهنود الحمر، وإسرائيل تدمّر جنساً هو العرب، لقد اعتبر الأمريكيون أنفسهم روّاداً استكشفوا قارة هى أمريكا، وأبادوا سكانها الأصليين. ويقوم الإسرائيليون بالدعاية لأنفسهم كروّاد جاءوا بمنارة الحضارة الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط. ثم إن الأمريكيين ينظرون بضغينة إلى كل الحضارات القديمة سواء كانت حضارة الصين أم الهند أم مصر القديمة أم حضارة الإسلام، لأن هذه الحضارات تعنى «التاريخ»، وأمريكا تعلم أنها بلا تاريخ.

قلت: ولكن الزمن يجرى بالتمرد العربى ، سعيا وراء التحرر فماذا ستفعل أمريكا؟

قال د.أحمد عكاشة: إن أمريكا قادرة على أن تقلب نفسها فى الهواء، وتعيد ترتيب إدارتها بما يضمن مصالحها. إنها إذا ما شعرت أن مصالحها مهددة فهى تعترف بالخطر. إن الواقعية لا تخشى سوى العزلة الدولية .

قالت فاطيما: إنه الغرور وعدم النضج والتعامل بمنطق الصفقة. إنها تكسب من الشرق الأوسط أضعاف ما يكسبه منها الشرق الأوسط.

أسأل: ألن ينتهى هذا الكيان الشرير الكاره لبقية العالم؟

وضحكنا على هذا الأمل البعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.