شهدت الساحة الثقافية في تونس منذ بداية شهر جانفي الجاري حراكا ثقافيا غير معهود شمل حتي دور الثقافة التي كانت تغطّ في سبات طيلة السنة. فنظّمت المهرجانات والأمسيات الشعرية والعروض المسرحية والسينمائية، كلّ هذا في إطار الاحتفال بالذكري الثانية للثورة. وستستمرّ هذه التظاهرات حتي نهاية الشهر الجاري. بعدها، ستعود أغلب دور الثقافة التي عوّدتنا بعملها الموسمي إلي «الركشة». وستتشدّق وزارة الثقافة بالاهتمام الكبير الذي أولته لهذه الذكري وللثقافة بصفة عامة. وسيعود بعض المثقفين الذين ساهموا في إحياء هذه الاحتفالات إلي أبراجهم العاجية التي لم يعرفوا طريق النزول منها حتي بعد فرار بن علي. وسيواكب بعض الشباب هذه التظاهرات ويتحدثون عنها قليلا ثم ينسون الأمر. أمّا أهالي الجهات المهمّشة ثقافيا والتي لم تنل من الاهتمام سوي ندوة نُظّْمت للبحث في التنمية الثقافية بين الجهات في شهر ديسمبر الماضي لن يتسنّي لهم حتي مواكبة هذه الاحتفالات. فركضهم وراء الخبزة أهمّ خاصة في هذه الظروف القاسية التي غلت فيها المعيشة إضافة إلي أنّه لا يوجد ما قد يجلب اهتمامهم، فهم تعوّدوا منذ عهد بن علي علي مثل هذه الاحتفالات والبهرجة التي تشبه إلي حدّ كبير قوقعة فارغة. وفي الحقيقة مثل هذه الأعراس الثقافية لأبرز مثال علي أنّ وزارة الثقافة لم تقطع مع عاداتها في العهد النوفمبري. فالاحتفالات تجري كما كانت شكلا مع فارق طفيف في المضمون المقدّم وأسماء الضيوف (الفارق هنا تكاد لا تلاحظه). والسؤال المطروح هو هل أنّ الثورة التي تقوم في بلد ما ولا تشمل الجانب الثقافيّ هي ثورة كاملة؟ طيلة سنتين سمعنا من تداولوا علي رئاسة الوزارة يتحدّثون عن ضرورة تقريب المنتج الثقافي من المتقبّل وهو الشعب وعلي ضرورة مدّ جسور التواصل بين الفنان والمواطن وعن التنمية الثقافية بين الجهات. كلّ هذا الحديث هو مجرّد قناع ليغطّي حبّ الركود الفكري لدي المسؤولين. فالمشاكل التي يتحدّثون عنها حقيقية وموجودة لكنّها تتطلّب عقولا مفكّرة ومسؤولة للخروج بالبلاد من هذه الأزمة. وهي تتطلب بحثا معمّقا وجدّيا عن الحلول العمليّة السريعة. وكان الأجدر بوزارة الثقافة في خطوة أولي نحو الحل إزاحة المسامير الصدئة التي تمخر الحياة الثقافية بالبلد والتي تضع ألف عائق وعائق أمام المثقف الحقيقي الذي ينشد التغيير ويطمح إلي بناء ثقافة بديلة وشعبية. كان الأجدر بها أن تزيل من ساهم في تخريب العمل الثقافي طيلة عقود ومن انخرط في منظومة النظام الفاسد السابق الذي دجّن الأجيال وأنتج مجتمعا استهلاكيا يعيش علي فتات النظريات الغربية الحديثة في العمل الثقافي. لكنّ السيد الوزير اختار مكافأتهم بمنحهم ترقيات إلي رتبة مندوب جهوي للثقافة وهو سبب اندلاع الحركات الاحتجاجية بوزارة الثقافة في السنة الماضية. ثمّ أما كان الأجدر من المسؤولين البحث عن طرق احتفالية جديدة يصل عمقها وصداها إلي كلّ مواطن علي أرض تونس؟ في العاصمة علي سبيل الذكر لا الحصر سنشهد تظاهرة ثقافية شبابية واحدة تقريبا في شارع الحبيب بورقيبة يوم 10 جانفي الجاري وستظمّ نخبة من الشباب أصحاب الرؤية الشعرية الجديدة ومجموعة من الموسيقيين بمساهمة بيت الشعر والمندوبية الجهوية للثقافة. وستحشر بقية التظاهرات بدور الثقافة والمراكز الثقافية. إنّ مثل هذه الندرة في التظاهرات الثقافية في الشارع لتعكس عجز الوزارة علي التعاطي مع هذا الشكل الجديد للتنظيم الذي يعتبر في بلدان أخري ركيزة أساسية للعمل علي نسج الخيط الرابط بين المثقف والمواطن. وبعيدا عن هذا الجوّ الاحتفالي الخانق نجد الوزارة تتخبّط في مشاكل أخري. فهي اليوم علي مشارف مواجهة غضب المترشحين لمناظرة انتداب كتبة ثقافيين جرّاء التأخر في الإعلان عن النتائج الذي من المفترض أن يكون في أواخر شهر ديسمبر الماضي. وقد تعمّدت الوزارة التعتيم والغموض وعدم الوضوح في هذا الملف حسب ما أفادنا به بعض المترشّحين. كما فشلت الوزارة في تحسين ظروف العمل داخل مؤسساتها في المناطق الداخلية وفشلت في حمايتهم من الاعتداءات بالعنف المتكررة علي غرار ما حصل في السنة الماضية بولاية سليانة أين تمّ الاعتداء علي مدير دار الثقافة من قبل أنصار حركة النهضة. وحتي في المهرجانات الاخيرة الخاصة بالطفل كانت أشبه بنسخ متعددة لشريط واحد حيث تكرّرت نفس العروض تقريبا في كافة المهرجانات.وحدهم الشباب الذين بصدد خلق حركات فنية ثقافية جديدة علي غرار بعض التشكيليين الذين تحدّث عنهم السيد كمال.... في دراسة له وأبناء الحركة الشعرية الجديدة هم بؤرة الضوء في هذا المجال حيث أثبتوا أنهم مستقبل البلاد وبدؤوا يستحوذون علي اهتمام النقاد العرب والغرب علي السواء. وانطلاقا من هذا الحراك الثقافي الشبابي الجديد الذي أخذ في النضج والاكتمال إضافة إلي ما تملكه تونس من طاقات فنية مبدعة ساهمت هي الأخري في نحت الملامح الثقافية في تونس التي لم ينجح بن علي ولا من أتوا بعده في طمسها، نري أنّ المثقف التونسي قد مازال يلعب دوره ويتقدّم خطوة تلو الأخري بينما مازالت وزارة الثقافة لم تتعلم المشي بعد. وفي النهاية، إنّ المواطن التونسي لا يريد شهرا بعينه في السنة ليري كل هذا النشاط والحيوية في دور الثقافة وغيرها من المراكز الثقافية. وهو لا يريد تنميقا لواقع يدركه جيّدا. المواطن التونسي اليوم يريد ثقافة تكون حصنا لأبنائه ودرعا فكريا لهم ينأي بهم عن السقوط في متاهات الظلام والرجعية. ويريد بكل اختصار وزارة ثقافة ثورية تتماشي مع متطلبات الواقع الثوري الذي تعيشه البلاد. وإلي أن يحتقق كلّ ذلك نقول كلّ عام والمبدع التونسي يكتب، يرسم، يغني من أجل ثقافة بديلة تعبر عن الشعب وتنطق باسمه.