صدر هذا الأسبوع، كتاب جديد للباحث التونسي نور الدين عرباوي، يحمل عناون "نهاية البورقيبية". يقع الكتاب في 212 صفحة من الحجم المتوسّط، موزّعة على ستة عشر فصلا. فكرة التأليف – كما يرويها المؤلف في التقديم– جاءته خلال أيام الثّورة، عندما "كانت الحملة على الأحزاب السياسية لتشويهها وتبخيس دورها وتأليب الرأي العام عليها، ومحاولة عزلها عن الثورة وعزل الثورة عنها..... كانت الثورة مستهدفة كلّها. من ثمّ انبثقت الفكرة. أدركت ضرورة تبيان دور الأحزاب وكلّ مَحَامِل الوعي السياسي، من نقابات ومنظمات ووسائل إعلام، لأنّ في ذلك دفاعا عن الثورة". في الفصل الأوّل من الكتاب "الثورة التونسية: الإبتكار والمفاجأة" يتناول المؤلف الجانب التاريخيّ من "عظمة دور تونس وإنجازاتها". فهي البلد الذي عرف أوّل جامعة إسلامية (الزيتونة)، وأوّل بلد إسلامي يلغي الرقّ، وأوّل بلد عربي يسنّ دستورا في عشرينيات القرن الماضي، ويشهد ميلاد أوّل منظمة عربية لحقوق الإنسان في منتصف السبعينيات، وها هو اليوم يهدي "للعرب والمسلمين أوّل ثورات القرن" ما فجّر طاقات التحرّر "في منطقة خطط الإستعمار ولا يزال، لإدامة استبداد شعوبها". وقعت هذه الثّورة "في المكان الذي لا ينتظرها فيه أحد" وأسقطت خلال أيام معدودات، دولة الرعب والإضطهاد التي بناها زين العابدين بن علي خلال ثلاثة وعشرين عاما. تناول اعرباوي في الفصل الثاني من كتابه (جانفي: شهر الدورة التاريخية) أهمية شهر جانفي في التحركات الشعبية التي عرفتها دولة الإستقلال التونسية، حتى سقوط حكم بن علي يوم 14 جانفي 2011. وأكّد أنّ نكبة التونسيين بشخص بن علي لم تبدأ بتاريخ تولّيه الرئاسة في نوفمبر 1987، وإنّما في جانفي 1978 عندما تولّى كمسؤول أمني، قمع التحركات النقابية. ثورة أم انتفاضة يبحث المؤلف ما طرحه بعض الدارسين عما عرفته تونس هل هو ثورة أم انتفاضة؟ لأنّ الناظر إلى النتيجة السياسية يؤكّد حصول ثورة، والمتأمّل في قصر مدّة التحركات وعفويتها، ينحو إلى اعتبارها انتفاضة. وقال إنّ حكومة الغنوشي التي خلفت بن علي في الحكم، أنكرت إضفاء صفتي الثورة والإنتفاضة معا "وهذا موقف ليس مستغربا من حكومة كانت مهمتها إجهاض الثّورة". ص 25.ثم يحكّم في ذلك معيارين اثنين: طبيعة الوعي وحجم الإنجاز. ويركّز عرباوي على قيمة الحرية التي أشعلت نار الثورة في تونس "وإن بدت الثورية خافتة في البداية"، وكذلك ما رفعه المحتجون من شعارات كانت واضحة في التعبير عن إرادة الإطاحة بالنظام من خلال شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". أمّا عن الإنجاز، فيؤكد المؤلف أنّ حجمه هو الذي أعطى لما جرى صفة الثورة، إضافة إلى تداعياته في تفجير الثورات العربية الموالية. يوميات الثّورة يرى المؤلف أنّ ما يتهدّد الثورة في تونس، ليس فقط أعداؤها، ولكن أيضا الفهم المتجزّئ لها. لذلك، يتابع يوميات الثورة وتطوّراتها، ويبحث في الأسباب التي حوّلت احتجاج فرد (عملية انتحار البوعزيزي) إلى ثورة شعبية أطاحت بطاغية دموي. ويؤكد أنّ ثورة تونس كانت "نهاية طبيعية لانفصال الدولة عن المجتمع، وانفصال السلطة عن الشعب". فقد كان شعارها المركزي "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو ما اقتبسته الثورات التالية من بعد. وتناول دور المعارضة في إسقاط نظام بن علي، ويقسّمها إلى شقين: الإسلاميون، وأساسا حركة النهضة، وتيارات اليسار. ويتحدّث عمّا لاقاه الإسلاميون من نظام بن علي، إذ قتل منهم العشرات، وسجن وشرّد في المنافي عشرات الآلاف. كما لم يفلت من استبداده اليسار، ما جعل المعارضين يجتمعون في مبادرة 18 اكتوبر سنة 2005. ويرى المؤلف أنّ غياب الأحزاب السياسية عن قيادة الثورة كان إيجابيا، لأنّ ذلك جمع التونسيين حولها، وفوّت على بن علي وكذلك القوى الدولية محاصرتها وضربها. الإعلام والثورة في تناوله دور الإعلام، تحدّث المؤلف عن استماتة بن علي في السيطرة عليه والتحكم في المعلومة التي يتلقاها التونسيون، مستعملا في ذلك كل الوسائل المتاحة، بإحكام سيطرته على وسائل الإعلام التونسية، وإنفاقه السخي لشراء أبواق له في الخارج. وتمكّن خلال سنوات حكمه الأولى من ملاحقة معارضيه، الإسلاميين واليساريين، وخنق أصواتهم. لكن المعادلة تغيّرت بعد ذلك، عندما انتشرت الفضائيات، والمواقع الإخبارية الإلكترونية التي تجاوزت الحواجز التقليدية، ودخلت كلّ بيت. ويشيد صاحب الكتاب بالدور الذي قامت به قناة "الجزيرة" القطرية، ويقول إنّها كانت "طرفا في المعارك الإعلامية ضد بن علي" وأنّ دورها بلغ درجة المشاركة في قيادة الثورة" من خلال تغطيتها لأحداثها. ويبحث المؤلف في الأسباب النفسية والإجتماعية للثورة، مستندا إلى عدد من الدراسات والبحوث العلمية التي تناولت شخصية وسلوك التونسيين وصحّتهم النفسية، خلال السنوات الأخيرة لحكم بن علي. من ذلك العنف الموجّه للذات (معدّل عشرة آلاف محاولة انتحار سنويا)، وكذلك العنف اللفظي الذي خلصت إحدى الدراسات إلى اعتباره إحدى سمات الشخصية القاعدية للتونسيين، وأن أكثر من 88 بالمائة من شباب تونس، يستعمل العنف اللفظي، وأنّ تطبيع المجتمع مع العنف اللفظي والمادي أصبح يهدّد ممتلكات المجتمع الرمزية والمادية. ويخلص المؤلف إلى خطورة "حجم الشقاء الذي أوقع فيه بن علي التونسيين: فنصفهم يعاني من الأمراض النفسية، والملايين منهم يتردّدون على المحاكم، وعدد كبير منهم يعيشون في أسر مفكّكة وتتلقّفهم شبكات المخدرات". ويشير إلى ما انتهت إليه دراسة اجتماعية، من أنّ بن علي الذي اجتهد في منع التونسيين من ممارسة حياة سياسية طبيعية، فإنّ هؤلاء عاشوا السياسة متخفّين، ولكن بدون تأطير حزبي، ولم يمنعهم القهر من متابعتها والتأثر برموزها. ص 109 - 110. يرى عرباوي أنّ البورقيبية تضمّ مرحلتي حكم الأب المؤسس بورقيبة، وبن علي الذي قام بإنقاذ حكم كان على وشك السّقوط. ويعرض لسياسة بورقيبة الذي "نزع من الشعب حريته ونازعه هويته" إذ عزل تونس عن محيطها الثقافي ومسارها التاريخي، ومارس ما كان يسمّيه "تحديثا" بمحاربة المقدّس، فدعا إلى إفطار رمضان في الستينيات من القرن الماضي، وحارب حجاب المرأة، وأغلق جامعة الزيتونة، وهمّش اللغة العربية وثقافتها في البرامج التعليمية، ودعا العرب إلى الإعتراف بالكيان الصهيوني في خطاب له بأريحا سنة 1965. وواصل بن علي ذلك من بعده، ووظّف في ذلك أطرافا من اليسار الإستئصالي، في إطار خطة تجفيف منابع التديّن. لقد "دمّر الدولة ومسخ الهوية ولوّث الثقافة ونهب الثّروة". نهاية البورقيبية يطرح عرباوي سؤالا مهما: ضد من كانت الثورة؟ وينطلق في جوابه، من شعارات الثورة، ليغوص في عمق الواقع التونسي الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وما عرفه من اختلال خطير بين جهات البلاد، وفشل في سياسة التنمية، وفساد في الإدارة، وقهر سياسي مارسه الحكم من خلال أدوات الدولة والحزب الحاكم. ثم توّج هذا المسار، بسيطرة عائلة الطرابلسية، أصهار بن علي، على قدرات البلاد الإقتصادية، وكذلك سلطتها السياسية. كما يتعرّض المؤلف إلى المؤسسة العسكرية، ويقول إنّ التونسيين يولون لجيشهم احتراما كبيرا، لأنّه حافظ على عدم التدخل في الحياة السياسية، فكان محل تقدير الشعب، عندما نزلت وحداته إلى الشوارع، وردّ الجيش على احترام أبناء الثورة له، عندما رفض قصف مدينة القصرين، وحمى التونسيين من بطش بوليس بن علي أيّام الثورة. لكن خطر إجهاض الثورة كان قائما، من خلال محمد الغنوشي الذي لم يمانع من عودة بن علي إلى السلطة. غير أنّ اعتصامي القصبة الأوّل والثاني، أسقطا حكومة الغنوشي، وحكومة السبسي، وفرض قرار انتخاب مجلس تأسيسي. وتحدّث عرباوي عن الثورة المضادة، التي نشط فيها رموز الحزب الحاكم سابقا، وكذلك المتنفّذون والمتمعّشون من مناخات الفساد، من خلال إغراق الثورة بالمطلبية، وتدمير الإقتصاد وتهجير رأس المال بمختلف الوسائل، وإثارة العصبيات القبلية والجهويّة، ونشر الفوضى. ويرى عرباوي أنّ تونس الممكنة: تونس ما بعد البورقيبية، تقتضي التأسيس لديمقراطية تقوم على حرية الفرد، لأنّه لا يمكن لتنمية أن تنجح بدونها. ويدعو إلى جمهورية تقوم على شرعية شعبية، تستند فيها الدولة إلى مؤسسات. ويتحدث عن موقع حركة "النهضة" في تونس الممكنة، فيعتبرها الطرف السياسي الذي لا يمكن الإستغناء عنه لبناء مستقبل البلاد. ويعتبر "النهضة" مؤهّلة لتقود التجربة الديمقراطية، وكذلك الحركة الفكرية. ويختم المؤلّف بالتأكيد على أنّ ثورة تونس، وفّرت فرصة بناء قاعدة جغرافية يمكن أن تمنعها التوازنات الدولية من أن تتحول إلى دولة عظمى، ولكنها لن تمنعها من تأسيس قاعدة استشراف جديدة لشعوب المنطقة.