كان ذاهباً لصلاة الفجر بالجامع. عصاه الغليظة تعرف الطريق. اعتاد عليه. تجنبه التعثر في الحجارة. بعض الأولاد الأشقياء ينتظرون مجيئه. يخزونه بعصي من الغاب ويضحكون كلما رأوه يقوس جسده مبتعداً عن عصيهم، يدفعون به إلي الشاطئ فتصطدم قدماه بالحجارة المتناثرة وينزلق إلي مياه النهر، يستدير إليهم مطوحاً بعصاه. يعرفون أنه لا يراهم. يتفادون ضرباته بسهولة. يهبط أخيراً إلي سلم الجامع. يتوضأ ويصلي. لم يأت أحد بعد للصلاة. يفضلون النوم. انحني يبحث عن حذائه. سطع الضوء فجأة باهراً أمام عينيه. حدق مرعوباً. بشاير الفجر تلوح في الأفق. هو الفجر كما تخيله دائماً. ونجوم متناثرة. والقمر، وقطع السحب تتحرك في نعومة. هو يبصر. بعد هذا العمر، لابد أنه يحلم. أغمض عينيه ودعك وجهه بيديه. ينظر في حذر من بين أصابعه. ويري ما رآه من قبل. أسند ظهره لجذع شجرة بجانب سلم الجامع. نظر إلي كفيه وقدميه وجلبابه، نهض. الأولاد لا يزالون في انتظاره. كان يرد ضرباتهم وينال منهم. أخذوا يتقهقرون أمامه. صاح واحد منهم: - ده بيشوف. جروا مبتعدين. مشي متمهلاً في الحواري والشوارع، وتوقف أمام الدكاكين المغلقة التي كان يتعامل معها، اقترب من بيته. رأي الملابس المغسولة منشورة علي حبل الغسيل تهتز مع الهواء. جلس علي مصطبة بيت قريب ينتظر طلعة الشمس ليراها وهي تبزغ في الأفق. وسطعت الشمس أخيراً. هو الوقت الذي اعتاد فيه أن يدخن الجوزة بالمقهي. مضي إليه. توقف أمام عربة فول وراح يتناول فطوره. انتبه صاحب العربة إلي أنه لا يتحسس الطبق كما يفعل عادة. قال: - يعني شايف الطبق النهاردة. - عرفته بقي خلاص. المقهي مفتوح الأبواب، والأصوات تأتي من الداخل، صعد درجتي السلم الخارجي. وقف بالباب ينظر هنا وهناك. عرفه من صوته. لم يتخيل أن يكون له هذا الوجه الكشر، شاربه الكثيف، وخاتم من الفضة باصبعه يزينه فص أزرق، يضع ساقاً فوق الأخري، ويلبس خفاً في قدميه. ويوماً كان وابنه في المقهي يشربان الشاي، فوجئ بالرجل الكشر يجذبه من صدر جلبابه ويرفعه عن المقعد ويصيح في غضب: - عارف أنك أعمي. انما توصل أنك توقع لي صينية الكنافة. انهال عليه بالضرب. هو لا يدافع عن نفسه خشية المزيد من الضرب وذراعاه حول رأسه. ابنه في العاشرة، يتشبث بجلبابه ويبكي. يهمس للرجل الكشر: - ابني معاي يا معلم. ما يصحش. - وبتعرف العيب. تدخل الزبائن وأبعداهما عن بعض. الآن يراه كما تخيله دائماً. وقف علي بعد خطوة منه وانهال عليه بالعصا، قفز الرجل الكشر مبتعداً. التقط مقعداً ليضربه به، تفاداه. واستمر يضربه. صاح الرجل الكشر. - إيه ده. حصل إيه؟ تقهقر مبتعداً عن ضرباته. صاح فجأة: - ده بيشوف. فر مذعوراً وتبعه باقي الزبائن. وقف لحظة يتأمل المقهي الخالي والمرايا علي الجدران، وشرب كوب ماء كان علي منضدة. وخرج. فتح باب بيته ودخل. جاءه صوت امرأته: - انت جيت؟ - أيوة جيت. - اقفل الباب كويس. سمع شخيرها وهو يدخل حجرة النوم. جلس علي مقعد بجوار السرير ينظر إليها خلال الناموسية. هو لم يرها من قبل، والآن يراها. كانت نائمة علي ظهرها. أنفها الضخم، وأسنانها البارزة، وصدرها الذابل. ربما أحست بنظراته. غمغمت: - بتبص علي إيه؟ قال يعني شايفني. تلبس قميص نوم خفيفا، كان مشموراً، ورأي عظام ظهرها البارزة ومؤخرتها العجفاء، وساقيها شديدتي النحول، كان يحس بها وهي بين ذراعيه، لم يتخيل أبداً أن تكون كما يراها الآن. فجأة أظلمت الحجرة. دعك عينيه مرة وأخري. جلس ساكناً يتحسس جانبي المقعد. ذهب بصره. هو حلم. صعد إلي السرير وتمدد بجوار امرأته.