أخيرا جاء القطار، ونهض هريدي عبدالعال من مكانه علي الرصيف، ورفع الشوال الهائل الذي يحوي كل ما معه من هدايا لأسرته القابعة في زاوية مهجورة من زوايا الصعيد. وقذف به داخل القطار، ورفع ذيل جلبابه بين أسنانه وأمسك بنافذة القطار وراح يجري معه، وسقطت فردة حذائه الممزق تحت العجلات وخطر له أن يترك القطار ليجري خلف (الفردة) ولكنه طرد هذا الخاطر بعد أن وجد نفسه فجأة وبطريقة ما داخل القطار، والشوال الضخم بين يديه يحاول عبثا أن يجد له ولنفسه مكانا بين مئات من أمثاله افترشوا أرضية العربة المظلمة وراحوا يتحدثون ويهرشون غير ملقين بالا إلي الذين يدوسون فوقهم بالاقدام. ووجد هريدي لنفسه مكانا وسط هذا الزحام وفتح الشوال ليري بنفسه أن الهدايا لم تمس. ولكن الغضب استبد به عندما اكتشف أن زر الشمام قد أصيب بضربة في جنبه وأن كيس السكر قد انفرط، وزجاجة المزيج قد سالت فلطخت كل شيء. وطوي هريدي الشوال ووضعه تحت جنبه عندما بدأ القطار يتحرك نحو الصعيد.و خطر له أن ينام، فإن أمامه أكثر من عشر ساعات حتي يصل القطار إلي طما، ومن هناك سوف يركب الحلزونة الي ميت الحلاجي، وبعدها يستطيع السير علي قدميه الي حيث يشاء. ولكن حديث المسافرين وهرشهم ونداءات باعة القازوزة واللب والبيض والسميط وكذلك الهدايا التي في الشوال، والجنيهات العشرين التي في جيبه، كل ذلك طرد النوم عن عينيه، فظل ساهرا يرقب أعمدة التلغراف وهي تجري مسرعة في الطريق المضاد وكأنها أطفال مذعورة تجري مهرولة في طلب الأمان. وغاب هريدي تماما عن كل ما حوله، وتذكر اليوم الذي جاء فيه الي القاهرة، أول مرة، حدث هذا منذ عام، كان الوقت ظهرا والمكان محطة مصر، والزحام علي أشده وعربات كثيرة في عدد جميع الحلزونات التي تمر علي ميت الحلاجي في عام كامل.. تجري في كل الاتجاهات ومركبات حديدية تحدث ضجيجا يصم الآذان وباعة شمام وبطيخ وورق، وخلق كثيرون أكثر من كل الذين يسكنون الصعيد، ورائحة غير ذكية، والناس مجهدون صفر الوجوه، مرضي جميعا بالسعال ولكنهم في ملابس نظيفة وأحذية جديدة، ومع بعضهم نساء بيض جميلات، ونظر هريدي الي قدميه العاريتين المتورمتين وجلبابه الممزق، وتذكر صابحة زوجته، وتمني لو كان له حذاء وجلباب وامرأة جميلة مثل هؤلاء الناس. ورفع هريدي الشوال علي كتفه وأمسك في يده بورقة مطوية وسار في الطريق. وقبل أن يقطع مسافة طويلة استوقف افنديا كان يعبر الميدان مثله، وأبرز له الورقة المطوية فألقي الافندي نظرة عليها ثم أشار عليه أن يمضي الي الأمام ثم الي اليمين ثم الي الشمال ثم.. أشياء كثيرة معقدة لم يفهم هريدي منها حرفا، حتي الورقة التي تحمل العنوان لم يحصل عليها هريدي فقد أخذها الأفندي وجري فجأة وبأقصي سرعة خلف حلزونة ضخمة كانت تجري مسرعة ولم يلبث أن أصبح الافندي داخلها، وغابت العربة مع العنوان عن الأنظار. وهكذا عثر هريدي علي الشيخ أحمد مروان متعهد الأنفار بعد أربعة أيام، قضي ثلاثة منها في قسم الموسكي.. ولم يدر هريدي السبب في هذا، كماأنه لم يدر أيضا السبب في انهم تركوه، المهم انهم عندما أخذوه سألوه عن اسمه ومقر اقامته وصناعته، وكان هريدي صادقا فلم يذكر سوي أنه يملك جسما قويا كالثور يستطيع أن يهدم به حائطا، أويجر حلزونة، أو يصرع به رجلا من رجال المدينة الصفر الوجوه. واهتز القطار فجأة، وكانت الهزة قوية أيقظت هريدي من أحلامه ودفعت بكثير من الجالسين الي الوقوف ليروا من النوافذ حقيقة الأمر. وهتف بعضهم: تصليح.. فيه تصليح في السكة.. وهتف البعض الآخر: - يا مستعجل عطلك الله ثم خيم الهدوء من جديد.. وتوقف القطار قليلا قبل أن يسير وعاد هريدي يذكر تلك الأيام منذ عام كيف أنه ظل عاطلا بلا عمل عدة أسابيع. ثم أخذه المعلم مروان ليعمل في عمارة، وكان العمل سهلا، يحمل علي كتفه خمسين طوبة ويصعد بها علي سقالة وثبا كالبهلوانات الي الدور الخامس ثم يعود، وعند كل مساء كانوا ينقدونه ريالا كاملا وصرف هريدي الريال في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني وبقية أيام الاسبوع وعندما أخذ يقتصد توقف العمل في العمارة، ولم يعد البناء في حاجة الي مزيد من الطوب. وهكذا مضت أسابيع أخري وهو بلا عمل وأحيانا بلا طعام، أما المأوي فمضمون، في الساحة التي يملكها المعلم مروان في حضن الجبل عند الدراسة، وهكذا عرف هريدي الدراسة والأزهر والعباسية أيضا حيث كان يعمل في العمارة، وعرف كثيرا من بلدياته في المقهي التي يجتمعون بها كل مساء يدخنون المعسل ويشربون أقداح الشاي الأسود.. ويلعبون الطاولة. وأحيانا يأكلون العيش القمح من الفول. ودخل هريدي في عمل جديد وخرج منه الي عمل آخر، وفي كل يوم تنشق الأرض عن عمارة ضخمة، ثم تنتهي لتقوم بجوارها أو في حي آخر بعيد عمارة مثلها وهريدي يحمل الطوب علي كتفه ويغني وهو يتأرجح علي السقالة ويشرب أكواب الشاي في فترة الغداء، وينام في الليل علي الرملة، كم هي بادرة لذيذة في الليالي الحارة أعظم بكثير من الأرض الساخنة الصلبة التي كان يفترضها في الصعيد. وتنهد هريدي في عمق، وهو يسترجع في ذاكرته تلك الليالي البعيدة، وارتجف بدنه كله عندما تذكر.. كيف خطر له ذات مساء هو جالس علي الرمل أن يترك زوجته وأسرته الي الأبد وأن يخلص رقبته من تلك العلاقة التي تجعله يدور مجهدا حول نفسه كالثور الكبير.. وتذكر كيف استبد به هذا الخاطر حتي أقلقه، وكيف استقر رأيه ذات مساء، وهو يجلس وحيدا علي الرملة وأصابعه تعبت في بطن الكثيب البارد علي ألا يعود الي الصعيد، أف لهذه الحياة التي يعيشها الناس هناك، حيث الظلام والنساء اللاتي في شكل غربان الجو، والعيش الذي ينافس الطوب، أما هو ففي مصر.. أم المدائن كلها.. هنا الفول المدمس بكثرة والعيش لين يبتلعه الناس في قريته بهادة، وفي ميت الحلاجي، وفي طما.. هنا الناس يبدون أكثر بهجة وأشد نظافة وأصواتهم أكثر رقة وجيوبهم عامرة. وعجب هريدي ليلتها لأن الناس هنا أشد غفلة من الذين هناك، انهم هنا يقطعون الوقت فيما لا فائدة فيه، انهم يذهبون الي الخلاء، وإلي الملاهي وإلي النهر. وهو لا يعرف طعما لهذا كله، ولو أن الناس هنا أصحاب فطنة حقا لقضوا الوقت كله في الأكل؟ الأكل هنا متوافر والناس لا يعرفون قيمته، ولو أن كل هذه الكميات الضخمة من الفول والطعمية والباذنجان المخلل في الصعيد لأتي الناس عليها في لحظة، ولكنه أحيانا يري أصحاب الدكاكين وهم يلقون ببعض فضلات هذه الأشياء في الطريق. واهتز القطار من جديد، وتمهل في سيره قليلا ووقف بعض الركاب ووقع البعض الآخر، وجري بعضهم نحو النافذة، وهتفوا. المنيا. وداس النازلون والصاعدون علي الجالسين، وتململ رجل كان يفترش الأرض بجوار هريدي وأبدي تبرمه من هذا الحذاء الضخم القذر الذي انحشر في فمه، وصاح رجل عجوز كان يتمدد تحت كرسي: استحملوا بعض يا خلايق. دي كلها ساعتين والعمر كله يومين. ومصمص بعض الجالسين شفاههم في اعجاب، وهتف أحدهم: - ربنا يفوتها علي خير وتحرك القطار من جديد في طريقه الي أسيوط، وعاد هريدي الي ذكرياته في مصر، الي هذا الخاطر الغريب الذي استبد به بعض الوقت في ضرورة هجر أسرته وزوجته، والصعيد كله، ثم تذكر ما حدث بعد ذلك. وكان قد بدد كل اما اقتصده. ولماذا يقتصد. انه الآن ينوي أن يفعل ذلك. ولكن خاطرا ملحا ظل يطرق خلايا مخه بانتظام وفي قسوة شديدة وجوع مسعور نحو المرأة يأكل كيانه ويكاد يحيله الي شعلة. وهمس ليلتها في أذن بلال، الصعيدي الزنجي الذي جاء الي مصر منذ خمسة أعوام، همس له برغبته الجنونية، انه لم يكن يحس هذا الاحساس من قبل في الصعيد، ربما لأن زوجته كانت في شكل الغراب، عجفاء مثل عود الحطب، وربما هو الطعام اللذيذ الذي حرك في نفسه هذا الغول الرهيب.. وقاده بلال في ذلك الصباح الي الجبل بجوار المشرحة، حيث بعض النساء الممتلئات الملطخات الوجوه بكل ما في الوجود من هوان. وفي وجوههن بثور غريبة، ومن ملابسهن تفوح رائحة غريبة. ولكنهن أجمل بكثير من التي تنتظره في بهاده مع نصف دستة من الأطفال. ولن ينسي هريدي ما حدث، ضربه بعض الرجال ضربا مبرحا حتي كادوا يقتلونه وسلبوا منه الريال الذي كان معه، ومع انه قوي في حجم الثور والآخرين ضعاف كالذباب، إلا أنهم كانوا يتحركون بسرعة عجيبة، ويضربونه في وجهه وعلي رأسه في مهارة وكأنها طبقا لخطة وكان يود لو يمسك بأحدهم ولكنهم لم يمكنوه وعندما تركوه لم يستطع أن يفتح عينيه. وعندما فتح عينيه وجد نفسه داخل حلقة من الجنود السود مثل بلال وفي أيديهم كرابيج. واهتز القطار فجأة، وقام بعض الناس ووقع البعض الآخر، ورفع هريدي يده يتحسس قفاه وظهره، صحيح أن الألم زال ولكن آثار الضرب المبرح بالكرابيج مازالت في مكانها هناك وكأنها حدثت بالأمس. وابتسم هريدي في خبث شديد ومضي وقت طويل قبل أن يسير القطار، وسأل هريدي جاره عن الساعة، وسأل الجار رجلا آخر، وسأل الجار الآخر جارا آخر، ثم جاء الجواب من بعيد، من رجل كان يجلس في آخر العربة. وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل والحر يكتم الأنفاس، ورائحة الرجال مختلطة برائحة الشمام برائحة البطيخ برائحة المزيج. وعاد هريدي يهرش في قفاه وفي ظهره وفي رأسه تتلاطم الأفكار والذكريات متزاحمة يأخذ بعضها برقاب بعض، والمشاهد تتري أمامه كأعمدة التلغراف التي تجري مذعورة علي الطريق المضاد والتي أخفاها الظلام عن عينيه. وعاد هريدي يذكر كيف نام في الساحة عشرة أيام بعد.. »العلقة« لم يستطع أن يبرحها، وكيف طرد عن نفسه خاطر الانفصال عن أسرته وزوجته وعن الصعيد، ثم عاد الي العمل من جديد، من عمارة الي أخري حتي جاءه المعلم ذات يوم وقاده الي معلم أخري. فسلمه لرجل نظيف لا يبدو مثل الآخرين قالوا له إنه مهندس وإن عمله سيكون بعد ذلك الحفر في الرمال دون أن يحمل طوبا أو يتسلق عمائر.. شيء لا فائدة فيه ولكنه سيتقاضي أجرا كبيرا.. ثلاثين قرشا في اليوم، وسيعمل بلا انقطاع. وفي جوف الصحراء بعد الهرم راح يضرب الفأس في جوف الأرض.. عمل مريح، وفيه نوع من الاستقرار وهؤلاء البلهاء يدفعون الأجر، وهو لا يفهم معني لكل هذا العمل التافه، الحفر في الرمال.. ربما جاءه الحظ الذي أصاب بعض الناس من قبل. أن بعض الناس في المدينة لا يعملون شيئا ويتقاضون أجرا كبيرا. والأفندي الذي يعمل معه يجلس فقط علي الكرسي خلف مكتب كبير وفي الظل لا يحفر الأرض ولا يحمل الطوب، ورغم ذلك فيبدو أنه يتقاضي أجرا كبيرا، لأنه يدخن السجائر في علبة، ويشرب الشاي والقهوة، ويدفع أحيانا بقشيشا سخيا لهؤلاء الذين يحفرون، والمعلم مروان مقاول الأنفار، انه لا يفعل شيئا هو الآخر، إلا الجلوس علي المقهي ولعب الطاولة وتدخين المعسل، ومع ذلك فهو يتقاضي أجرا كبيرا، أتاح له أن يبني عمارة في مصر، ويشتري عشرة أفدنة في طما ويتزوج أربع نساء.. انه الحظ لابد اذن قد هبط عليه هو الآخر، والا؟ فما معني كل هذا النعيم الذي يرفل فيه.. الحفر في الرمال خمس ساعات والأجر ثلاثون قرشا ولا توجد هنا بطالة كما هو الحال في شغل العمارات ويبدو انها لن تكون.. لأن الصحراء عريضة طويلة، والحفر فيها يستغرق الدهر كله.. وتذكر هريدي كيف مرت الشهور رتيبة هينة حتي حدث شيء عجيب.. منذ اسبوع واحد.. وكان هريدي يضرب الفأس في الرمل في بطء ممل فليست هناك رقابة، الأفندي في المنزل والريس في القهوة، والصحراء لن تتصدع اذا تأخر العمل فيها قليلا أو سار فيها في بطء شديد، وعاد هريدي الي الضرب بالفأس في باطن الصحراء، ثم مضي وحده يسرع في العمل ويرفع الفأس الي أعلي في نشاط ويضرب في الأرض بقسوة، لا يدري لماذا؟ ربما لأنه تذكر زوجته وأمه التي تركها تموت في الصعيد ولكنه توقف فجأة عن العمل، فقد غاصت الفأس في الرمل، وعبثا حاول أن ينزعها دون جدوي واستطاع أخيرا عندما استعان ببعض الرجال. وخلف الفأس في الأرض فجوة كبيرة مظلمة سوداء كقلب المعلم مروان، وانحني هريدي ينظر داخلها في بلاهة ثم قفز من شدة الرعب.. كان هناك شيء أشبه بالحجرة، وجثث كثيرة ممددة وكأنها نائمة، وأواني طبخ وأشياء أخري كثيرة من بينها أرغفة خبز تبدو تماما مثل خبز الصعيد. وامتقع لون هريدي وهو يفكر في هذا الأمر أن هذا الذي يراه لابد مقبرة هائلة، وهؤلاء موتي منذ زمن بعيد.. وتذكر كلمات الشيخ الدسوقي واعظ القرية التي يرددها في المسجد كل يوم جمعة، وهي أن الأرض تخفي تحتها جثث ملايين الخلق منذ يأجوج ومأجوج. وهريدي لا يدري متي كان يأجوج ومأجوج هذا، ولكن لابد أنهم ظهروا منذ زمن بعيد يضرب في بطن التاريخ الي غور سحيق. واصفر لون هريدي عندما خطر له أنه ربما كان هؤلاء القوم من »المساخيط« الذين سخطهم الله لضلالهم. وتذكر ثانية كلمات الشيخ دسوقي حيث كان يقول ان الله كان يسخط القوم الظالمين، وأنه سيسخط العالم قريبا بكل ما فيه ومن فيه، اذن كان الشيخ دسوقي يقصد أن العالم كله سيتحول الي شيء من هذا القبيل وخطر له أيضاأن هؤلاء القوم ربما يمتون الي الأفندي المهندس بصلة قرابة، وأن الغرض من حفر الصحراء كان هو العثور عليهم، المهم أن هريدي انتهي من هذه الخواطر جميعا بأن صاح وبلاوعي: - يا رجال، يا رجالة، يا رجالة.. وهرع الرجالة إليه وتوقف العمل في كل مكان إلا عند هريدي، ونزل هريدي من الفتحة الي الداخل، كانت الرائحة عفنة قوية، والناس ينامون في هدوء تبدو علي وجوههم راحة السنين الطويلة. ونظر هريدي اليهم في اشفاق وذعر.. وفي حسد أيضا.. صحيح أن الدسوقي كان صادقا حينما كان يقول: لا تأتي الراحة إلا مع الموت.. وراح هريدي يذرع أرض الحجرة المظلمة بحثا عن شيء، لم يكن هناك سوي أحجار في أحجام مختلفة.. وفجأة عثر علي شيء لامع لابد انه كنز، وعندما وضعه في جيبه، كانت الفتحة قد اتسعت أكثر، وأصبح في وسع الرجال أن يروه. وجاء الريس بعد ساعة، وجاء المهندس بعد ساعات، وتوقف العمل في ذلك المساء، ونام هريدي بجوار الفتحة تحت الحراسة، كانت المنطقة قد تحولت كلها الي نهار بفعل الأنوار التي جلبها المهندس، والمكان كله طوقه الجند المسلحون، واغتم هريدي لهذه النهاية السيئة، لابد أن هذا الذي عثر عليه كنز تملكه الحكومة، أو مقبرة تضم رفات أحد أجداد رجال الحكومة،. وسهر هريدي الليل بطوله يفكر في الأقوال التي سيدلي بها، انه لا يقصد هذا العمل علي الاطلاق.. والافندي المهندس هو الذي أمره بذلك وعند الفجر سقط هريدي نائما من الاعياء. وعندما جاء الصباح أيقظوه، وقادوه الي خيمة نصبها الجند بسرعة، ودس يده في جيبه وأخرج القطعة الصفراء وألقي بها في الرمل وداس عليها بقدميه. ودخل هريدي الي الخيمة.. كان هناك ضابط صغير السن، والأفندي المهندس وأفندية مثله بعضهم يلتقط مناظر، وبعضهم يدون شيئا علي ورقة، لابد أنهم رجال النيابة.. وهمَّ هريدي بأن ينحني علي حذاء المهندس يستعطفه ويستحلفه بكل مقدس أن يتركه، ولكن صوتا رتيبا هادئا جاءه من الخلف من الضابط الجالس في الخيمة: - أنت اللي دخلت مقبرة فرعون في الأول - أنا مظلوم والله العظيم يا بيه ولم يلتفت الضابط الي هذا الاستعطاف وسأله: - كانت الساعة كام - والله العظيم مظلوم يا بيه، احنا ناس غلابة ما معناش ساعات. وضحك الناس الجالسون، لابد أنهم يسخرون منه، وهكذا الناس يضحكون دائما من كل ما يصيب الاخرين من شرور، وانتهي التحقيق بسرعة، وخرج من الخيمة دون أن يمسه أذي، وبجوار الفتحة قضي هريدي خمسة أيام طوال مسح خلالها كل الصحراء المحيطة بالمقبرة، بحثا عن القطعة الصفراء التي ألقي بها، وأول أمس نقدوه الأجر كاملا ومكافأة عشرة جنيهات، وقالوا له اذهب اذا شئت.. هؤلاء البلهاء. وذهب هريدي وهو لايصدق، واشتري الشمام وأقة الأرز وكيس السكر وعاد الي طما وها هو القطار يقف فيها الآن والنازلون والصاعدون لن يدوسوا عليه.. انه سينزل معهم وسيدوس هو أيضا علي الآخرين.. وتحسس هريدي الجنيهات العشرين التي في جيبه. وفتح الشوال من جديد ليري ما فيه كان كل شيء مكانه، حتي نسخة الجريدة التي تحمل صورته عند الفتحة والتي اشتراها بقرش صاغ لتتفرج عليها زوجته وكل الرجال في بهادة.. وهبط هريدي الي الرصيف، وقبل أن يترك الرصيف كان القطار قد تحرك.. ونظر هريدي الي قدميه كانت عاريتين تماما، لقد نسي »الفردة« الثانية داخل القطار، أما الفردة الأولي فقد سقطت منه تحت العجلات عند بداية الرحلة. وخطر له أن يجري وراء القطار ليأتي بالفردة. ولكن القطار كان قد اختفي مع »الفردة« في الظلام.. ورفع هريدي الشوال علي كتفه، وعلي تراب الأرض الطيبة غاص هريدي بأصابع قدميه الضخمتين.. ومضي مسرعا في الطريق الي.. طما!