جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تتصدر تصنيف التايمز العالمى للجامعات الناشئة لعام 2024 وتحقق نجاحات محلية وإقليمية ودولية    سعر الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024 مقابل الجنيه المصري ختام التعاملات البنكية    «خطة النواب» توافق على اعتماد إضافي للموازنة الحالية بقيمة 320 مليار جنيه    هيئة الاستثمار تتيح استخراج شهادة عدم الالتباس وحجز الاسم التجاري إلكترونياً    عقب تعرض مروحيته لحادث.. التليفزيون الإيراني: مصير رئيس البلاد مجهول (تفاصيل)    الدفاع الروسية: مقتل نحو 1900 عسكري أوكراني خلال الساعات ال24 الماضية    رمضان صبحي يقود تشكيل بيراميدز في مواجهة الإسماعيلي بالدوري    توجيهات البنك المركزي السعودي بشأن مواعيد عمل البنوك خلال عيد الأضحى 2024    اليوم في ختامي نوادي المسرح.. عرض «سوء تفاهم» و«هاللو فوبيا» بقصر ثقافة روض الفرج    الأربعاء.. عرض فيلمي «فن القلة» و«فن العرايس» بمركز الثقافة السينمائية    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    عاجل.. براءة متهم من قتل سيد وزة ب "أحداث عنف عابدين"    تسلق السور.. حبس عاطل شرع في سرقة جهاز تكييف من مستشفى في الجيزة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    إهداء درع معلومات الوزراء إلى رئيس جامعة القاهرة    عاطف أبو سيف: إسرائيل تعمدت نفينا خارج التاريخ    مصطفى قمر يتألق بأغانيه في حفل زفاف نجلة سامح يسري.. صور    «يا ترى إيه الأغنية القادمة».. محمد رمضان يشوق جمهوره لأغنيته الجديدة    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    الجبالى مازحا: "الأغلبية سقفت لنفسها كما فعلت المعارض وهذا توازن"    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    وزير الصحة: تقديم القطاع الخاص للخدمات الصحية لا يحمل المواطن أعباء جديدة    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    موعد انعقاد لجنة قيد الصحفيين تحت التمرين    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرحة
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 08 - 2010

الشارع قصير واسع يتجنب الكثيرون السير فيه‏,‏ ربما لما يوحي به من شؤم علي ناصية أحد طرفيه مبني المحكمة‏,‏ واجهته العريضة بأعمدتها الضخمة المتوازية‏,‏ وميزان العدالة المنقوش فوقها تلقي الرهبة في النفوس‏, إضافة إلي العديد من أحكام الإعدام التي أصدرتها‏,‏ ومع كل حكم يتعالي الصراخ والعويل أمامها‏,‏ يحاول أهل المتهم الانتظار بردهة المبني المكسوة بالرخام‏,‏ غير أن الحراس يدفعونهم إلي الرصيف‏.‏
الطرف الآخر من الشارع به سجن المحافظة‏,‏ يشغل ناصية كاملة‏,‏ أسواره مرتفعة‏,‏ يمتد فوقها سلك شائك في شكل لولبي‏,‏ علقت به خرق كالحة وأوراق جرائد أصفر لونها‏,‏ بامتداد السور تنتصب أكشاك الحراسة تتألق بنوافذها خوذ الحراس‏.‏
كانوا يجهزون في السجن متهما بالقتل لحضور محاكمته‏,‏ حلقوا ذقنه وشعر رأسه‏,‏ وألبسوه بدلة سجن نظيفة‏,‏ نبه عليه أمين المخزن أن يحافظ عليها ويعيدها بمجرد رجوعه‏,‏ وبحث له عن حذاء مقاسه‏,‏ قيدوا قدميه بسلسلة تسمح بخطوة قصيرة‏,‏ وحين أراد الحارس أن يضع القيد في يديه خلف ظهره همس له المتهم في رجاء أن يتركهما أمامه‏,‏ نظر إليه الحارس مغمغما‏.‏
ليه ؟
علشان أعرف أدخن سيجارة في السكة
وفين السجاير؟
معاي علبة كاملة؟
وأشار إلي جيبه
جبتها منين؟
اشتريتها من الكانتين‏.‏
ممنوع أكثر من سيجارتين‏,‏ وبعيد عن السجن‏.‏
قيد يديه من أمام واتجها إلي البوابة حيث ينتظرهما حارس آخر انضم إليهما‏.‏
مد المتهم رأسه خارج البوابة قبل أن يعبرها ونظر في الاتجاهين‏,‏ خرج وسار بين الحارسين وعلي كتف كل منهما بندقيته‏.‏
يمتد الشارع في استقامة‏,‏ نظيفا وخاليا من المارة‏,‏ علي جانبيه أشجار مورقة كثيفة الأغصان‏,‏ والشمس تسطع من بداية النهار شديدة الحرارة‏,‏ يتفادي المتهم النظر نحوها‏,‏ يمسح أنفه من لحظة لأخري بظهر يده‏,‏ والسلسلة بقدميه تحتك بالأرض في صوت مكتوم‏,‏ أبدي رغبته في سيجارة وافق أحد الحارسين بإيماءة من رأسه‏,‏ تمهلا حتي أشعل السيجارة ومد العلبة إليهما‏,‏ رفضا‏,‏ وواصلوا السير‏.‏
مروا بعربة ترحيلات تقف عند نهاية سور السجن‏,‏ حارس يجلس بسلاحه علي مقعد بمؤخرتها‏,‏ وآخر في الكابينة‏,‏ هم ليسوا في حاجة إليها‏,‏ المحكمة علي بعد عشرين مترا‏,‏ حمامتان علي سطح العربة تنقران ما تساقط فوقها من أوراق الشجرة‏,‏ تبادل الحراس كلاما بالإشارة لا يفهمها غيرهم‏.‏
الشمس تغمر واجهة المحكمة‏,‏ نسوة يلبسن الأسود تجمعن بجانب درجات السلم‏,‏ ورجال قعدوا متلاصقين علي الرصيف بالجانب الآخر‏,‏ كانوا يرقبون الثلاثة القادمين وقد توسطوا الشارع‏,‏ سرت حركة خفيفة بين النسوة‏,‏ تقدمن معا نصف خطوة‏,‏ انسلت من بينهن امرأة‏,‏ سوت طرحتها حول رأسها وعبرت الشارع إلي الصيف المقابل حيث تكاثفت الأشجار‏.‏
الثلاثة يتقدمون في خطوة متمهلة‏,‏ أخذ المتهم نفسا من السيجارة ونظر إليها‏,‏ أخذ نفسا آخر ورماها‏,‏ لمح المرأة حين عبرت الشارع‏,‏ راح يرقبها وهي تتقدم في اتجاههم متوارية بالأشجار‏,‏ حين أصبحت في مرمي بصره أبطأ من خطوته همهم وظلت عيناه علي المرأة‏.‏
تقدمت النسوة أمام المحكمة نصف خطوة أخري وتوقفن غادرت المرأة الرصيف وسارت نحو الثلاثة بخطوة واسعة انكمش المتهم منحنيا‏,‏ التفت الحارسان إليه‏,‏ مدا يديهما نحو ابطيه ليرفعاه من انحناءته‏,‏ همهم متأوها مبتعدا عن ذراعيهما الممدودتين‏,‏ في لحظة كانت المرأة أمامهم‏,‏ دست يدها في فتحة جانبية بالجلباب‏,‏ استلت ساطورا تألق بشدة في ضوء الشمس‏,‏ رفع المتهم ذراعيه ليحمي رأسه‏,‏ هوي الساطور فوقهما وتناثر الدم علي جلباب المرأة‏,‏ قبضت علي شعر رأسه‏,‏ شدته إليها‏,‏ بصقت في وجهه ورفعت الساطور برك أحد الحارسين‏:‏ سدد بندقيته إلي المرأة واطلقها‏,‏ تأوهت المرأة في صوت مرتفع‏,‏ استدارت‏,‏ رمقته بنظرة حائرة غمغمت‏:‏ ليه؟ ده قتل جوزي‏.‏
افلتت رأس المتهم بعد الطلقة الثانية‏,‏ سقطت علي ركبتيها‏,‏ تحسست صدرها بيد مرتعشة وتأوهت علي جنبها‏,‏ انحسر الجلباب عن ساقها‏,‏ تحاملت علي كوعها وغطتها بذيل الجلباب‏,‏ استرخت في رقدتها
المتهم‏-‏ وكان قاعدا‏-‏ تأوه محدقا نحوها‏:‏
هي مراته‏.‏ آه مراته‏.‏ عايزة تقتلني
‏:‏ عيناه هنا وهناك تستقران علي وجه الحارس
دراعي‏.‏ شوف‏.‏ ساطور‏.‏ عايزة تقتلني‏.‏
رفع ذراعيه‏.‏ إحداهما تنزف‏.‏ تتساقط قطرات الدم من كم السترة‏.‏
مراته‏.‏ أيوه مراته‏.‏
يضحك لاهثا أخرج بيد مرتعشة علبة السجائر عجزت أصابعه عن سحب السيجارة‏,‏ جذبها بشفتيه‏,‏ رمي‏:‏ العلبة بين ساقيه‏,‏ ضحك مرة أخري‏.‏
آه كانت حاتقتلني‏.‏
القادمون من عند المحكمة توقفوا حين أشار لهم الحارس تقدم واحد منهم وناوله جريدة مطوية‏,‏ فرد الحارس أوراقها علي المرأة‏.‏
انطلقت الحمامتان من علي سطح العربة‏,‏ حلقتا فوق الواقفين وسط الشارع وابتعدتا‏.‏
نقود معدنية
أفرجوا عنه أخيرا
ثلاث سنوات وسبعة أشهر لا يصدق أنه أصبح في الخارج‏,‏ تتعثر خطواته الأولي مبتعدا‏,‏ يتوقع بين لحظة وأخري أن يسمع نداء بعودته التفت وراءه وعيناه تطرفان في مواجهة الشمس الساطعة‏,‏ الأسوار العالية‏,‏ باب المعتقل الصغير موارب‏,‏ الحارس هناك يبول جنب السور‏,‏ ثم دخل وأغلق الباب مد في خطوته ليلحق بالحارس الذي يرافقه إلي الإدارة لينهي أوراقه‏,‏ سأله الحارس‏:‏
أعطوك كام؟
أعطوني؟
حاتعمل عبيط‏.‏ قبضت كام؟
مد يده في جيب السترة وأخرجها‏,‏ أوراق نقدية مكرمشة وقطع معدنية‏,‏ عدها الحارس بطرف إصبعه وهي في‏:‏ كفه‏.‏
كده مضبوط‏,‏ سليم‏,‏ مكافأة نهاية الخدمة‏.‏
ضحك سحب الأوراق النقدية‏,‏ ألقي نظرة علي القطع المعدنية ونكشها بإصبعه‏.‏
كفاية عليك‏,‏ سندوتش‏,‏ علبة سجائر وتذكرة المترو لبيتك‏,‏ ويتبقي كمان‏.‏
يده لاتزال ممدودة بالنقود المعدنية‏,‏ رمقه الحارس متعجبا‏.‏
حطها في جيبك‏.‏
أعاد النقود إلي جيبه‏,‏ سقطت بعض القطع في الرمال‏,‏ نظر إليها ساكنا‏,‏ انحني الحارس‏,‏ التقطها وأعادها إليه‏!‏ غمغم كأنما يكلم نفسه‏:‏ ويعطوني فلوس‏.‏
رفع صوته‏:‏ وليه؟
التفت الحارس‏:‏ بتسأل عن إيه؟
يعطوني فلوس؟
حاجة تمشي بها حالك يومين لغاية ما تروح شغلك عندهم نظر كل سنة بمبلغ‏..‏ غيرك اللي قعد عشرة أو عشرين سنة يخرج برزمة‏.‏
في الإدارة أنهوا أوراقه سريعا‏,‏ قعد علي دكة خشبية خارج الباب‏,‏ تذهب وتأتي يضم قدميه تحت الدكة محدقا في وجوههم عندما يقتربون منه‏.‏
خرج الحارس بيده أوراق‏,‏ أعطاه واحدة منها‏,‏ أشار إلي ختم في نهايتها‏.‏
دي تحافظ عليها‏.‏ البراءة‏.‏ حطها في جيبك‏.‏
خرجا‏,‏ قال الحارس‏:‏
أومأ صامتا‏,‏ قال الحارس‏:‏
وتلاقي مراتك في الشباك مستنية طبخت الحمام والخضار‏,‏ وبعد الأكل تشرب الشاي‏,‏ وبعد الشاي‏,‏ يعني‏.‏
ما تعرفش أني خارج النهاردة‏.‏
ما تعرفش؟ آه صحيح لا جوابات ولا زيارات‏,‏ كام سنة؟ ثلاثة؟‏.‏
وسبع شهور‏.‏
بسيطة مفيش زي الزمن يجري بسرعة ولا تحس به‏,‏ بيتك في حلوان؟
آه‏.‏
عليك بالمترو‏,‏ كان فيه مترو أيامك‏,‏ موش كده؟
‏:‏ أوما مرة أخري قال الحارس‏:‏
تمشي لآخر الشارع وتسأل‏,‏ يدلوك علي المحطة‏.‏
ومضي
لافتات ضخمة علي جانبي الشارع‏,‏ اعلانات عن الوجبات السريعة‏,‏ أنواعها الكثيرة‏,‏ وافواه مفتوحة توشك أن تقضم‏,‏ هي نفسها منذ كان يمشي في الشوارع من قبل‏,‏ لم يتغير شيء ثلاث سنوات وسبعة شهور ولا يتغير شيء الثقل الشديد في رأسه‏,‏ ربما كان المشي يتعبه‏,‏ يقف من وقت لآخر مستندا بظهره للجدار‏,‏ وحين تتضح الرؤية يمضي‏,‏ كما أخذوه فجأة أفرجوا عنه فجأة‏,‏ ولا يعرف السبب سأل واحد منهم مرة‏.‏
أنا هنا ليه؟
‏..‏ يعني موش عارف يا ابن‏....‏
نالته صفعة قوية‏..‏ سكت
كانوا يسألونه‏:‏ تبع مين؟
هو لا يتبع أحدا‏,‏ وقال لهم‏:‏
أنا في حالي‏,‏ طول عمري في حالي‏.‏
ويوما كانوا يتأهبون لضربه‏,‏ هو منكفيء بعد أن عروا ظهره‏,‏ وجاءته الفكرة‏,‏ لمعت كالبرق‏,‏ صاح بصوت‏:‏ مرتجف‏.‏
انتم قصدكم واحد غيري‏,‏ أنا اسمي مسعد‏,‏ العريان‏,‏ راجعوا الاسم تاني‏.‏
تبادلوا النظرات وضحكوا‏,‏ فسأل الذي بيده الخيزرانة‏:‏
بتقول اسمك إيه؟
مسعد‏.‏ مسعد العريان‏.‏
والثاني اسمه إيه؟
شوفوه في الورق‏,‏ أنا جيت غلط‏.‏
أكيد غلط‏.‏
نظراته حائرة علي وجوههم الضاحكة لم يتحمسوا لضربه وتركوه‏.‏
اليوم بعيد كان يقف علي الرصيف منتظرا مرور المظاهرة حتي يعبر الشارع إلي الجانب الآخر ويمضي إلي عمله‏,‏ في يده كيس صغير به سندوتش طعمية يحس بسخونتها ويخشي أن تبرد‏,‏ يهتفون في صياح ويلوحون بلافتات‏,‏ حاول أن يقرأ ما بها‏,‏ غير أنها كانت تخفق وتتمايل‏,‏ تأهب لعبور الشارع وقد كادت المظاهرة أن تبتعد‏,‏ ورجال الشرطة وراءهم‏,‏ تقهقر مفسحا لهم‏,‏ غير أنهم أمسكوا به وبآخرين كانوا في مؤخرة المظاهرة‏,‏ استسلم لأيديهم غير فاهم‏,‏ دفعوا به إلي صندوق السيارة التي كانت تتبعهم‏.‏
الزحام شديد في محطة المترو‏,‏ وقف بعيدا يرقب نوافذ التذاكر حتي تخلو ويتقدم‏,‏ طلب التذكرة‏,‏ مد يده بما في جيبه من نقود معدنية داخل فتحة النافذة‏,‏ أخذ الموظف قطعة وأعطاه التذكرة‏.‏
كاد يستدير ليبتعد حين ناداه الموظف‏:‏
الباقي‏.‏
عاد إلي النافذة وأخذ الباقي
وقف علي الرصيف مقاعد خالية بجوار الحائط رمقها مترددا وظل في وقفته مد يده في جيبه‏,‏ سحب المنديل ليمسح أنفه‏,‏ تساقطت بعض قطع النقود المعدنية علي بلاط الرصيف في صوت مسموع‏,‏ انكمش مبتعدا خطوة‏,‏ قطعة منها كانت تتدحرج أخذت قوسا وعادت لتستقر بجوار الأخري‏,‏ ملتفتة إليه‏,‏ يتبادل معها النظرات‏,‏ وماذا لو انحني ليلتقطها؟ ظل في وقفته سحب غلام يده من قبضة امرأة كانت تمر بالواقفين‏.‏
قرفص الولد أمام النقود المبعثرة‏,‏ راح يجمعها في يده‏,‏ تلفت حوله‏,‏ ووقف‏,‏ نظر كل منهما إلي الآخر‏,‏ واستدار الولد ولحق بالمرأة‏.‏
نزل في محطته ظل واقفا حتي تحرك المترو وابتعد‏.‏
بيته غير بعيد‏,‏ لمحة وهو في منتصف الشارع‏,‏ الشرفة كما هي‏,‏ وفوطة علي حبل الغسيل‏,‏ تعلقها امرأته لتجف‏.‏
ويمضي اليوم
البيت علي الطريق الزراعي خارج البلدة‏,‏ من دور واحد‏,‏ يرتفع عن الأرض بثلاث درجات‏,‏ أمامه مساحة خالية من الأرض المستوية بعرض مترين‏,‏ يحيط بها سور متوسط الارتفاع‏,‏ يستر القاعدين داخله‏,‏ ويسمح لهم بالاتكاء عليه والنظر إلي الخارج‏.‏
البيت في شيخوخته مثل صاحبه‏,‏ هو ناظر المدرسة الابتدائية‏,‏ قضي سنوات عمله بها لم يغيرها إلي مدرسة أخري‏,‏ والآن يقترب من الستين‏,‏ سنتان ويخرج إلي المعاش‏,‏ يصعد درجات السلم الثلاث في بطء خشية أن ينزلق‏,‏ وحين ينهض من قعدته يستند إلي ما يكون بجواره حتي يصلب عوده‏,‏ وفي الشارع يسير دائما علي جانب الطريق بعيدا عن الذاهب والآتي‏,‏ تفزعه الضجة فيقف منتظرا منطويا علي نفسه كأنما يخشي أن يناله رذاذها‏.‏
البيت هو الآخر فقد الكثير من بهائه‏,‏ شجرتا الورد الصغيرتان وكانتا علي الجانبين داخل السور‏,‏ تهشمت فروعهما‏,‏ لم يبق منهما غير نصف الساق جافا أشبه بالوتد‏,‏ وعريش الصاج‏,‏ وكان فيما مضي يمتد مائلا من السقف ليظل المكان داخل السور‏,‏ حيث تجلس العائلة مع ضيوفها ساعة العصر‏,‏ أكله الصدأ وتدلي ما تبقي منه يتأرجح مع هبوب الريح في صوت كالأنين‏.‏
فاضل أفندي ناظر المدرسة‏,‏ يغادرها بعد الظهر بقليل‏,‏ في طريقه إلي البيت يميل إلي مقهي يفضله عن المقاهي الأخري‏,‏ له ركن يقعد فيه‏,‏ يخليه صبي المقهي بمجرد رؤيته داخلا‏,‏ ويضع الطاولة أمامه‏,‏ اللعبة الوحيدة التي يعشقها‏,‏ ويأتي دائما إلي منضدته من يلعب معه‏,‏ ويتجمع آخرون للمشاهدة‏,‏ ويكون الرهان علي المشروبات يلعب دورين أو ثلاثة ويغادر إلي البيت حيث تنتظره ابنته وقد أعدت الغذاء‏,‏ بعدها ينام قيلولته التي تطول حتي المغرب‏,‏ يلبس جلبابا نظيفا مكويا والسترة ويمضي إلي المقهي‏,‏ يستقر في ركنه يلعب الطاولة‏,‏ تطول قعدته إلي ما بعد منتصف الليل‏.‏
زوجته ماتت من سنوات تركت له زبيدة في الثالثة عشر من عمرها‏,‏ أخرجها من المدرسة بعد شهادة الابتدائية لترعي البيت‏,‏ والآن بلغت الخامسة والعشرين‏,‏ تقدم لها ثلاثة يطلبون يدها‏,‏ أحدهم تاجر مواش‏.‏ الثاني‏:‏ جزار والثالث صاحب مخبز‏,‏ رفضهم فاضل أفندي‏,‏ كان يريد لها زوجا متعلما ويقول‏:‏ لسه صغيرة‏.‏
المدرسون الشباب بالمدرسة كانوا أربعة‏,‏ كلهم عزاب‏,‏ كان يمكن أن يتقدم لها واحد منهم‏,‏ غير أن الأربعة كانوا غير راضين عن سلوك فاضل أفندي‏,‏ يسهر في مقهي متهالك لا يقعد به غير العربجية والشيالين ويلاعبهم الطاولة أيضا كلمه زميل له أكثر من مرة‏:‏
لا تؤاخدني يا فاضل أفندي حكاية لعبك الطاولة في القهوة؟
وأيه كمان؟
عندك بنت عروسة‏.‏
يستمع فاضل أفندي إليه قليلا‏,‏ ثم يتركه في وقفته ويمضي‏.‏
صاحبات زبيدة وكن في عمرها أو أصغر قليلا‏,‏ تزوجن وأصبح لكل منهن البيت والولد‏,‏ تذهب أحيانا لزيارتهن‏,‏ تلعب مع الأولاد‏,‏ وتلقي نظرة علي ما في البيت من أجهزة وأدوات‏,‏ طقم الملاعق في علبته القطيفة‏,‏ أطقم الصيني بأحجامها المختلفة ونقوشها الرقيقة‏,‏ صاحبة البيت تحتفظ بها ولا تستخدمها‏,‏ هناك أطباق وملاعق أخري للاستعمال‏,‏ تعود زبيدة من الزيارة وبسمة خافتة علي وجهها‏,‏ وعيناها لا تريان غير قدميها‏,‏ تحس حين تصل إلي بيتها بجسمها ثقيل‏,‏ تنام مبكرا‏,‏ لا تنتظر عودة أبيها‏.‏
شغل البيت قليل لا يتعبها‏,‏ تكنس وتنفض ملاءتي السريرين وترتب فرشتها‏,‏ وتأخذ حمامها‏,‏ تقعد أمام المرأة‏:‏ تمشط شعرها الطويل في ضفيرة‏,‏ ترفعها في شكل كعكة بمؤخرة رأسها‏:‏
حلوة‏:‏
تلقي بالضفيرة علي صدرها تضحك‏:‏
وكده كمان حلوة‏.‏
تطول قعدتها أمام المرآة تقول‏:‏
والنبي يا زبيدة حلوة طول عمرك‏.‏ كلمة المرحومة أمي‏.‏
قبل أن تتفرغ للتليفزيون تلقي نظرة علي صندوقها‏,‏ صندوق كبير من الخشب بلمعة بني‏,‏ كان يوما لأمها‏,‏ لا تغلقه بالقفل حتي لا تلفت نظر أبيها إليه‏,‏ تمسح غبارا خفيفا علي غطائه قطع قماش مطوية داخله‏,‏ ست قطع‏:‏ تخرجها وتعيد ترتيبها‏:‏
ست حتت بست فساتين كفاية‏.‏
وأربع جلابيب بيت مشجرة‏,‏ وقمصان داخلية قصيرة بحمالات رفيعة مثل التي تشاهدها في التليفزيون ستنام‏:‏ بها بعد أن تخلع جلبابها‏,‏ قطع الملابس الأخري في أكياسها‏.‏
فضيحة‏.‏
لا تصدق أنها ستجرؤ يوما علي لبسها صغيرة ومحبوكة تود لو تخرج واحدا منها تراه وتتحسسه‏,‏ تضحك‏,‏ تعيدها إلي الصندوق ثلاث مشاط صغيرة من العظم بلون أزرق وبني وبرتقالي‏,‏ تعلق الواحد منهم في شعرها من الخلف‏,‏ عقدان من الخرز‏,‏ غويشتان من الذهب كانا لأمها‏,‏ أربع فوط وجه بحجم متوسط واثنتان كبيرتان للاستحمام‏,‏ بعد أن تستحم تلف جسمها بالفوطة وتخرج من الحمام إلي حجرة النوم‏,‏ حيث تركت ملابسها علي السرير‏,‏ قدماها مبللتان تمشي علي أطراف أصابعها‏,‏ الفوطة ناعمة علي جسمها‏,‏ تكاد تنزلق عن ظهرها‏,‏ وتراه ممددا علي السرير‏,‏ يلتفت إليها ينهض مبهورا متكئا علي كوعه‏,‏ يتأهب للانقضاض عليها‏..‏ تضحك أيه يا زبيدة رحت فين؟
علبة صغيرة بها طقم أكواب حافتها بلون مذهب‏,‏ وطقم ملاعق‏,‏ طقم الصيني تنوي شراءه حين يتوفر معها ثمنه‏,‏ شاكر البائع الذي يمر علي البيوت حاملا بقجته الضخمة علي ظهره‏,‏ توصيه دائما بما تريد‏,‏ حين كلمته‏:‏ عن طقم الصيني قال لها‏:‏
انوي وأنا تحت أمرك‏,‏ عندي طقم مفيش بعد كده في جماله‏.‏
تدخر ما يعطيه لها أبوها من مصروف لشراء لب وسوداني وأشياءها الأخري وتوفر من مصروف البيت‏,‏ هو لا يحاسبها‏,‏ ولا يطلب شيئا معينا‏,‏ مرات من حين لآخر يقول‏:‏
نفسي في الملوخية‏.‏
أو يقول مداعبا‏:‏
سمعت أن فيه ناس بتاكل سمك مقلي‏.‏
الشغل الثقيل في البيت تتركه لجارة لهم تأتي مرة في الأسبوع ابنها في المدرسة عند أبيها‏,‏ توصيه به كلما قابلته‏,‏ يقول أبوها حين يصبحان وحدهما‏:‏ ابنها عقله زلط لا يفرق بين الألف واللام‏,‏ انما بينجح‏,‏ أعمل أيه بس‏.‏
تلتقط كيس اللب من البوفيه وتتربع علي الكنبة امام التليفزيون‏.‏
يعود فاضل أفندي من المقهي في الليل‏,‏ وتكون البيوت اغلقت أبوابها ونوافذها‏,‏ يجد ابنته مستغرقة في النوم‏:‏ علي الكنبة ورأسها مائلا علي المسند والتليفزيون مفتوحا‏,‏ يغلقه‏,‏ تعتدل في قعدتها‏,‏ تنظر هنا وهناك‏.‏
أعمل لك العشا‏.‏
أكلت‏.‏
أكلت أيه؟
سندوتشات فول وطعمية في القهوة‏.‏
يدخل حجرته تتبعه آلام الظهر لا تسمح له بالانحناء يجلس علي طرف سريره‏,‏ تنحني وتخلع الحذاء‏:‏ والشراب‏.‏
الشراب ريحته فاحت‏,‏ لابسه من يومين‏,‏ وقلت لك كفاية يوم علي الشراب‏.‏
تخرج تملأ وعاء كبيرا بالماء الدافيء‏,‏ تذيب به قدرا من الملح‏,‏ ويكون خلع ملابسه وارتدي جلباب النوم الخفيف‏.‏
تعود بالوعاء الممتليء تتربع أمامه‏,‏ تدعك قدميه مرات‏,‏ وتتركهما قليلا في الوعاء‏,‏ يرمقها في انحناءتها‏,‏ نفس كتفي أمها وعنقها النحيل والشعر الطويل‏,‏ يتحسسه بطرف اصابعه‏,‏ تخرج قدميه‏,‏ تجففهما بفوطة علي كتفها‏.‏
يسترخي في الفراش متنهدا‏,‏ تغلق باب حجرته وراءها‏.‏
تطفيء اللمبة في الصالة وتشعل السهاري‏.‏
تدخل حجرتها‏,‏ تترك بابها مواربا فربما ناداها في الليل‏.‏
تتمدد علي السرير‏,‏ يمر الوقت ولا تشعر بالنعاس‏,‏ الثقب الواسع في الركن قرب السقف‏,‏ تحدق إليه كلما جافاها النوم‏,‏ وتقول إنها نسيت أن تكوي قميص أبيها‏.‏
آه نسيت‏.‏ وتغفو‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.