حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا الاحترام والضمان للمحاماة؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 07 - 2010

في هذه الحلقة الثانية من سلسلة مقالات الأستاذ رجائي عطية عن العلاقة بين المحامين والقضاة‏,‏ وضرورة توفير الضمانات اللازمة للمحامي حتي ينجح في أداء مهمته ورسالته‏. يشرح الكاتب كيف أن هذه الضمانات لازمة نظرا لأن المحامي يتعرض لمخاطر كثيرة‏ . وهو ما سوف ينعكس بالضرورة علي موكله‏,‏ ويشير إلي أن ثمة مواجهات ساخنة وقعت وأوردتها المدونات‏,‏ ويقدم الأستاذ رجائي عطية أمثلة من القوانين المختلفة للمواد التي تحدثت عن الضمانات المقررة للمحامين‏,‏ وإلي المقال‏:‏
لا تنطوي الضمانة المطلوبة للمحامين في أدائهم لأعمالهم علي أدني مبالغة‏,‏ بل هي ضمانة حقيقية ولازمة وواجبه لحمايتهم حماية تحمي العدالة ذاتها‏,‏ لأن فروسية المحاماة وشجاعتها ونجدتها وقدرتها علي المناضلة من أجل الحق الذي تسعي إليه أو لدرء الخطر الذي تتحاشاه رهينة بما يتوفر للمحامي من سعة في الأداء وحماية تسبغ عليه فيها‏,‏ لأن المرتجف الخائف المتوجس لا يقدر علي الأداء ناهيك عن أن يقدر علي خوض الصعب‏,‏ ويدل تاريخ المحاماة وما تعرض ويتعرض له المحامون قديما وحديثا‏,‏ علي أن هذه الحصانة لازمة لزوما يجاوز في ضرورته الحصانة المسبغة علي القاضي‏..‏ فالقاضي متحصن علي منصته العالية‏,‏ متوج الهامة بمنصبه المرموق وبنصوص عقابية تحميه من أي تجاوز أو إهانة‏,‏ وبحصانة تقيه من أي إجراء إلا بإذن مجلس القضاء الأعلي‏,‏ آمن بالاستقلال المتوفر له‏,‏ وبالسلطة التي تؤمنه وتردع كل من تسول له نفسه أن يتطاول علي مقامه أو علي قدسية رسالته‏!‏
بينما المحامي في مناضلته أعزل‏,‏ إلا من علمه وثقافته وملكاته وموهبته وقدرته ورغبته الصادقة في أداء رسالته‏,‏ بيد أن هذه السمات والقدرات ذاتها هي هي التي يمكن أن تجر علي المحامي المشاكل وتجلب إليه الأخطار وتعرضه في حريته ومصيره بل وحياته إلي ما لا تحمد عقباه‏!!‏ وأخطر مما يحل بالمحامي إذا اغتيل دوره وتعرض للخطر أو أصابه الأذي وهو يؤدي رسالته‏,‏ أن ذلك ينعكس بالضرورة وحتما علي موكله الذي ينهض بعبئه‏,‏ ومن هنا يغدو التجني علي المحامي تجنيا علي العدالة ذاتها‏!‏
اقبضوا عليه
كان فوكيه المدعي العام الفرنسي يمثل الاتهام في محاكمة ماري أنطوانيت إبان الثورة الفرنسية قبل أن تلتهمه هو ذاته مقصلة الثورة‏!..‏ في المحاكمة كان يصب جام غضبه علي القصر وأهله‏,‏ وعلي الملكة التي أخذ يتهمها بنهر سيال من المخازي‏,‏ بيد أنه فوجئ بمحاميها لاغارد يبدي مرافعة رائعة‏,‏ تفند وتدحض كل المزاعم والافتراءات‏,‏ ولم يكتف بذلك وإنما ختم مرافعته بمآثر أخذ يحصيها للملكة في حصول الشعب علي حريته‏..‏ لم يطق فوكيه الصبر‏,‏ ولم يستطع التحكم في أعصابه أو الالتفات إلي الاحترام الواجب للدفاع‏,‏ فنهض محموما ليأمر الحرس بإلقاء القبض علي المحامي الذي ترافع وأجاد ولم ترهبه يد الثورة الباطشة‏!‏
قد كان ذلك كفيلا بأن يردع ترونسون المحامي التالي للدفاع عن الملكة‏,‏ وأن يستمد الحذر والحكمة من رأس الذئب الطائر‏,‏ إلا أن رسالة المحاماة المالئة لصفحة وجدانه المتغلغلة في أعماق ضميره‏,‏ قد دعته لأن يبذل ويبدي دفاعه‏,‏ ولا يجفل أو يخاف العاقبة‏,‏ فمضي في مرافعته يرد اتهامات فوكيه بقوة وعنف‏,‏ فما إن انتهي حتي كان الحرس يطبق عليه بأمر فوكيه أسوة بزميله الذي سبق‏!!‏
حدث هذا التغول والافتئات علي المحاميين‏,‏ مع أن أحدا منهما لم يرتكب جريمة تأديبية أو جنائية‏,‏ أو يسب خصما أو مدعيا أو شاهدا‏,‏ أو يقذف في حق أحد من هؤلاء‏..‏ كانت المرافعتان محض تفنيد بالحجة والمنطق والبيان لما قاله المدعي العام‏,‏ ومع ذلك لم يتسع الصدر لمقارعة حجة وبيان الدفاع‏,‏ فأمر المدعي العام تحت نظر المحكمة بالقبض تباعا علي المحاميين في صلف بالغ‏..‏ كان قد سبق إلي المقصلة مالزيرب وأسرته و دي سيز لأنهما اجترآ علي الدفاع بجدية عن الملك لويس السادس عشر الذي أعدم بالمقصلة منذ تسعة أشهر‏!!‏
في محكمة الثورة‏!‏
معظم حادثات التجني علي المحامين‏,‏ تحدث كما رأينا في المحاكم الاستثنائية التي لا يباشرها قضاة ولا يحدها دستور أو قانون‏,‏ ومع ذلك فليس يندر أن تحدث في سواها من المحاكم العادية‏,‏ لأن ظروف الدعاوي والمرافعات وما يلابسها من سخونة واحتدام فضلا عن بشرية رجل السلطة أو النيابة أو القضاء‏,‏ واعتياده وهو بشر‏!‏ علي ممارسة السلطة اعتيادا قد يقلل في صفحة وجدانه إحساسه بوطأتها علي الآخرين‏!..‏ أما في المحاكم الاستثنائية فإن شوكة السلطة تغدو هي كل وجدان قاضيها المتحكمة في سلوكه وتعامله مع الخصوم ومع دفاعهم‏..‏ لا يكاد ينجو أحد من رذاذ هذه الممارسة بصورة أو بأخري‏!!‏
في محاكمة إبراهيم عبد الهادي باشا المحامي والوزير ورئيس الوزراء‏,‏ الذي قضي بإعدامه مرتين ونجا منهما‏..‏ الأولي خلال ثورة‏1919‏ بتهمة قتله ضباط وجنود الاحتلال والثانية في محاكمته في سبتمبر‏1953‏ أمام محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح آنذاك عبد اللطيف البغدادي‏..‏ حضر معه الأستاذان الكبيران الجليلان مصطفي مرعي وعلي أيوب‏..‏ بيد أن قائد الجناح رئيس المحكمة فاجأ المتهم رغم جسامة التهم المسندة إليه‏,‏ بأنه لا يجوز أن يحضر معه إلا محام واحد‏,‏ ثم يصد الأستاذ علي أيوب المحامي صدا عنيفا غليظا حين حاول أن يبدي وجهة نظره‏,‏ فيضطر إبراهيم عبد الهادي اضطرارا إلي الاكتفاء بالأستاذ مصطفي مرعي‏,‏ وتصرف المحكمة الأستاذ علي أيوب رغم اعتراضه واعتراض زميله مصطفي مرعي ورغبة المتهم الذي بدا بلا حول ولا قوة أمام ما يجري في محاكمة غاب فيها القانون‏!!‏
ذهب المحامي الجليل علي أيوب‏,‏ ولكنه لم يتردد في أن يرسل إلي محكمة الثورة برقية نصها‏:‏
أرجو أن ينال إبراهيم عبد الهادي في محاكمته أمام محكمة الثورة نفس العدالة التي لقيها من المحكمة العسكرية البريطانية عندما حاكمته في ثورة‏1919!!‏
بيد أن مفاجآت المحكمة لم تتوقف عند صرف أحد المحاميين‏,‏ فتعنتت تعنتا لافتا مع الأستاذ مصطفي مرعي وأفسحت المجال علي الواسع لاعتراض سقيم واضح التهافت علي وكالته وحضوره مع المتهم‏..‏ وتتصاعد المناوءات فيوجه رئيس المحكمة نظر مصطفي مرعي فارس المحاماة حين أثار أن الدعوي أحيلت بلا أي تحقيق إلي أنه يبدو أنه غائب عن ذهنه أنه أمام محكمة ثورة‏,‏ ثم يقفي فيقول له في جفاء وغلظة‏:‏ اختصر وأوجز في كلامك‏,‏ لا بد أن تفهم أن هذه هي محكمة ثورة ولابد أن نبسط الإجراءات والمسألة مش مسألة مماطلة‏!!..‏ وأنه سوف يعقد الجلسة سرية‏,‏ وعبثا تذهب كل محاولات مصطفي مرعي لإيضاح أن الدعاوي لا تحال إلي المحكمة بغير تحقيق‏,‏ فيمضي رئيس الجلسة في تعنته حتي اضطر مصطفي مرعي للتنحي مقرونا بعبارات بليغة أبان فيها وهو يلمح إلي علم الثورة المرفرف علي المحكمة‏,‏ أنه قد صار عاجزا تماما عن تأدية واجبه وعمله‏,‏ وأنه مضطر للتنحي والأسي يمزق قلبه‏,‏ فلا يتمهل رئيس الجلسة لحظة‏,‏ ويبادره فورا دون أن يتداول مع عضوية‏:‏ قررت المحكمة قبول تنحي الأستاذ مصطفي مرعي وللمتهم أن يختار من يري للدفاع عنه‏!!..‏ ولكن لم يتح للمتهم قط من يدافع عنه‏!!‏
عبدالناصر قال لا‏!‏
لم يكن مقصودي‏,‏ ولا كان هدف السطور السابقة تقييم الثورة الفرنسية‏,‏ أو تقييم الثورة المصرية ولا رواية أحداث قضية محاكمة ماري انطوانيت‏,‏ أو مآل محاكمة إبراهيم عبد الهادي فموضوع البحث محدود بحدوده وهي المكابدات والمخاطرات التي يتعرض لها المحامون‏,‏ أما المحاكمة ذاتها ونتيجتها ومآلها فشيء آخر يخرج عن حدود البحث‏..‏ ومن المعروف أن حكم المحكمة صدر بإعدام إبراهيم عبد الهادي‏,‏ ولكن قائد الثورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وقف بقوة ضد هذه العقوبة‏,‏ وتمكن حين عرض الحكم علي مجلس قيادة الثورة من كسر الإجماع المطلوب للمصادقة علي الإعدام‏,‏ فصوت ضد حكم الإعدام وكسر الإجماع اللازم وحمي الرجل من الإعدام‏,‏ وذكر للرجل سابقة بلائه والحكم بإعدامه في ثورة‏1919,‏ بل إن الرئيس السادات الذي كان عضو يمين ذات المحكمة التي قضت بالإعدام‏,‏ عاد بعد ربع قرن وإبان فترة رئاسته فكرم إبراهيم عبد الهادي تكريما خاصا طيره إلي مصر والعالم‏..‏ أعود فأقول إن هذا خارج نطاق ما أنقب فيه حول رسالة المحاماة ولكنني أردت فقط الإيماء إلي المخاطر التي يتعرض لها المحامون‏,‏ والمكابدات التي يكابدونها‏,‏ فليس مرامي هنا ولا يتسع المجال لتقييم نظم حكم أو تقييم ثورات أو حتي رواية تفاصيل وتضاعيف المحاكمات‏!‏
يروي عبد العزيز باشا فهمي شيخ المحامين والقضاة‏,‏ وأحد الثلاثة الذين قابلوا المعتمد البريطاني مطالبين بحق مصر في إيفاد وفد إلي مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلالها‏,‏ وأحد زعماء الوفد الكبار قبل أن يختلف وآخرون مع سعد زغلول‏,‏ وأول رئيس لمحكمة النقض المصرية عام‏1931‏ وزير الحقانية الأسبق‏,‏ والوزير عدة مرات‏,‏ وثاني رئيس لحزب الأحرار الدستوريين‏,‏ وعضو مجمع اللغة العربية‏,‏ وإحدي فلتات زمانه‏..‏ يروي في هذه حياتي فصلا عن صداقته الحميمة وزمالة عمره لأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل‏,‏ ويروي فيما يرويه وقد تزاملا معا بمكتب واحد في المحاماة لماذا ترك أحمد لطفي السيد المحاماة كارها‏,‏ واشتغل بالسياسة والصحافة راغبا‏..‏ وكيف شكا إليه أنه يسمع من بعض المحتكين بالعمل فحش القول وهجره‏,‏ وأنه يجد من بعض القضاة غلظة‏!!‏
في ذلك الزمن بمصر في أواخر القرن‏19‏ وأوائل القرن العشرين‏,‏ كانت الهوة واسعة بين المحامين والقضاة‏,‏ أو قل بين بعض المحامين وبعض القضاة‏,‏ فلم يكن كل المحامين علي شاكلة واحدة وتأهيل واحد‏,‏ ولا كان القضاة كذلك‏..‏ فحين أنشئت المحاكم الأهلية سنة‏1884‏ التي وافقت أحكام قوانينها في مجملها أحكام القوانين بالمحاكم المختلطة التي أنشئت سنة‏1875‏ لم يكن الفقه القانوني قد بلغ بعد مبلغا ملائما في مصر‏,‏ إذ لم يكن فيها من متخرجي الحقوق ما يكفي لمناصب القضاء والنيابة ناهيك بالمحاماة‏.‏ ولهذا قضت الضرورة بأخذ كثير من القضاة بطريق الاستثناء‏,‏ كما أن المحامين أمام المحاكم الأهلية كانوا في جملتهم من النبهاء الذين لم يدرسوا القوانين الحديثة‏,‏ بل إن إبراهيم الهلباوي أشهر المحامين طرا لم يكن حاملا لإجازة الحقوق‏,‏ وبقي الأمر علي ذلك حتي صدر قانون المحاماة الذي اشترط فيه أن يكون المحامي حاصلا علي ليسانس الحقوق أو شهادة عالية معادلة من مدرسة أجنبية‏!..‏ منذ ذلك الحين بدأ تيار ذوي الشهادات القانونية يغمر القضاء والمحاماة‏,‏ مما ترتب عليه تقارب العقليات بين القضاة والمحامين‏!‏
غصص هي المحاماة
علي أن التقارب الذي كان‏,‏ والانتماء إلي معهد واحد‏,‏ لم يحل دون سخونة مواجهات وقعت‏,‏ تتناقلها الألسن والروايات‏,‏ وأوردتها بعض المدونات‏..‏ يصب معظمها فيما يمكن أن يتعرض له المحامي من مكابدة وخطر وهو يؤدي رسالته‏,‏ عبر عن ذلك فارس المحاماة الأستاذ الجليل مصطفي مرعي في عبارته الشهيرة‏:‏ غصص هي المحاماة‏!!..‏ كان ذلك إثر موقف محتدم بينه وبين المستشار الجليل محمود عبد اللطيف رئيس استئناف القاهرة فيما بعد‏,‏ ويفصل بينهما في التخرج عامان‏..‏ فمصطفي مرعي خريج‏1923‏ ومحمود عبد اللطيف خريج‏..1925‏ فلما أن أعيدت الجلسة إلي الانعقاد بعد هدوء النفوس أبي مصطفي مرعي إلا أن يبدأ حديثه بقوله‏:‏ غصص هي المحاماة‏!!‏
قد بلغ الجموح أحيانا مايوري بنذير شؤم لوجود المحاماة ذاتها‏,‏ وتدخلت الحكمة في أحيان أخري لاحتواء مايمكن أن يحدث من تداعيات تؤثر سلبا علي العدالة نفسها‏..‏ ففي واقعة شهيرة تداعت في سبتمبر‏1946,‏ حدث اعتداء من جانب الأستاذ رئيس محكمة مصر الابتدائية علي الأساتذة المحامين‏:‏ أحمد حسين المحامي رئيس حزب مصر الفتاة‏,‏ وعزيز فهمي المحامي وابن عبد السلام فهمي جمعة باشا وأحد زعماء الطليعة الوفدية‏,‏ وعبد الحميد عبد المقصود المحامي المعروف‏,‏ فتفجر الموقف في نقابة المحامين واجتمعت الجمعية العمومية في اجتماع حاشد‏,‏ بيد أن الأستاذ رئيس المحكمة ومعه كبار رجال القضاء والنيابة بادروا إلي دار نقابة المحامين حيث أظهر الأستاذ رئيس المحكمة أسفه وإعرابه عن تقديره واحترامه لحضرات الزملاء المحامين‏..‏ وفي قرار الجمعية العمومية أوردت أن المحاماة عنصر أساسي في النظام القضائي‏,‏ وأن العدالة لا يمكن أن تتحقق تماما إلا بتعاون عناصر النظام القضائي كله وتبادل الاحترام والتقدير بين القضاء والمحاماة‏,‏ وأن كل اعتداء علي كرامة المحامين أو حقوقهم وكل حد من قيامهم بواجب الدفاع فيه إخلال خطير بالعدالة لن تقبله الجمعية العمومية‏!‏
إزاء المخاطر التي يتعرض لها المحامون‏,‏ وما يمكن أن يصيب العدالة ذاتها إذا قعدت المحاماة خوفا أو اتقاء عن أداء واجب الدفاع بالجدية والذمة والشجاعة والأمانة‏,‏ عنيت المدونات التشريعية تباعا‏,‏ سواء في قوانين المحاماة المتعاقبة‏,‏ أو في قوانين المرافعات والإجراءات الجنائية والعقوبات‏,‏ بإقامة حواجز صد تقي المحامين من غائلة أي تجاوز أو جموح في ممارسة السلطة‏,‏ وتوفر لهم الأمان اللازم لأداء رسالة المحاماة التي هي أحد أضلاع العدالة وأركانها الركينة‏!.‏
التشريعات كثيرة‏..‏ ولكن‏!!‏
تضافرت تشريعات عديدة في سعيها لتوفير الضمانة الواجبة للمحامين حتي يستطيعوا أن يؤدوا رسالتهم في أمان‏,‏ ويسهموا في إرساء العدالة علي موازينها الصحيحة‏...‏ هذه الضمانة ليست محاباة لمهنة دون مهنة‏,‏ وإنما هي ضرورة لا محيص عنها‏,‏ وهي رعاية وحماية للعدالة ذاتها‏..‏
يستطيع المهني أن يؤدي مهمته متي دان له العلم والخبرة بتخصصه بالطب إذا كان طبيبا فذلك يكفيه للتشخيص وتحديد العلاج‏,‏ وبالهندسة إذا كان مهندسا فذلك يكفيه لإفراغ التصميم ومتابعة التنفيذ وهكذا‏,‏ أما المحامي فلا يكفيه العلم بالقانون وفروعه‏,‏ ولا تكفيه الموهبة وهي شرط لازم‏,‏ وإنما يتوجب عليه أن يكون موسوعي الثقافة والمعرفة‏,‏ لأن رسالته قائمة علي الإقناع‏,‏ يتغيا به التأثير في وجدان‏,‏ والوصول إلي غاية معقودة بعقل وفهم وضمير سواه‏,‏ وهذه الغاية حصاد ما توفره الموهبة ويدلي به العلم وتضافره الثقافة والمعرفة مجدول ذلك كله في عبارة مسبوكة وشحنة محسوبة لإقناع المتلقي‏.‏ وما لم يصل المحامي إلي هذا الإقناع‏,‏ فإن مهمته تخفق في الوصول إلي غايتها‏..‏ لذلك فإن المحامي لا يمكن أن يكون من الأوساط أو الخاملين‏,‏ وإنما هو شعلة نابهة متوقدة متيقظة‏,‏ موهوبة ملهمة‏,‏ مزودة بزاد من العلوم والمعارف لا ينفد‏,‏ مستعدة علي الدوام لخوض الصعب وتحقيق الغاية مهما بذلت في سبيلها ما دامت تستهدف الحق والعدل والإنصاف‏.‏
لذلك فإن فروسية الكلمة‏,‏ ليست محض رصف لحروف‏,‏ أو عبارات‏,‏ ولا هي محض مباهاة أو طنطنة‏..‏ لا تتحقق للكلمة هذه الفروسية ما لم تكن تعبيرا عن حاصل واقع وقائم في وجدان وحنايا ملقيها‏,‏ مقرونا باستعداد للبذل والنضال والكفاح من أجل تحقيق معانيها‏:‏ في عالم الواقع لا في عالم الخيال‏,‏ في عالم الفعل لا في عالم التفاخر والتباهي والتيه بالكلمات بغض النظر عن قيمتها وما تترجم عنه في عالم الواقع والفعل والعمل والسلوك‏.‏
لا مغالاة إذن في أن المحاماة رسالة الحق ونصيره وصوته‏,‏ والمحامون هم فرسان هذه الرسالة‏,‏ الحاملون لأمانتها‏,‏ الناهضون بها‏,‏ الباذلون بصدق وأمانة ومضاء وإخلاص في محرابها‏..‏ يحتضنون في ضمائرهم أوجاع وآلام وهموم الناس‏,‏ يخوضون الغمار ويجتازون الصعاب للقيام برسالتهم النبيلة‏..‏ قوامها الحجة والبيان والبرهان‏,‏ ورايتها الحق والعدل والحرية‏.‏
هذه الرسالة الضخمة‏,‏ تستلزم استلزام وجوب أن توفر للمحامي وللمحاماة الحصانة والحماية الكافية‏,‏ حصانة المحامي وحمايته في أداء رسالته وحمل أمانته‏,‏ هي حصانة وحماية للعدالة ذاتها‏,‏ لأن النهوض بها عبء جسيم‏,‏ ولأن غايتها غاية سامقة يجب أن يتوفر لحملة رايتها ما يقدرون به أن يؤدوا الرسالة في أمان بلا وجل ولا خوف ولا إعاقة ولا مصادرة‏!!‏
ضمانات في القانون
ومع ذلك فإن الباحث عن الضمانات المقررة في القانون للمحاماة‏,‏ مضطر للبحث والتفتيش في كثير من المدونات التشريعية لجمع ما تفرق في هذه التشريعات المختلفة‏..‏ هذا التفرق أو الشتات يوري بأن المشرع لم يصدر في هذه القضية الخطيرة عن نظرة كلية شاملة‏,‏ وإنما صدرت النصوص فرادي‏,‏ وبعضها ربما صدر في ولادة عسرة لأن الوعي بقيمة وأثر المحاماة علي العدالة ذاتها لم يصل بعد إلي النضج الكافي‏,‏ وربما قاومته عقول قصيرة النظر تحسب الأمر محض مكاسب تعطي لفئة فيغلب من ثم علي هذا النظر القصير منطق المنح دون أن يعي أو يدرك الأخطار الهائلة التي تحيط بالعدالة إذا ما افتقد المحامي سياجا يحميه لينهض برسالته ويؤدي أمانته الثقيلة بلا وجل ولا خوف‏!‏
في تاريخ طويل بدأه الأسلاف‏,‏ حملت قوانين المحاماة المتعاقبة ما يلفت الانتباه إلي ما توجبه مساهمة المحاماة في تحقيق العدالة‏,‏ وأورد نص المادة‏1‏ من قانون المحاماة‏1983/17‏ أن المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم‏,‏ وأوردت ذات المادة‏,‏ أن مهنة المحاماة يمارسها المحامون وحدهم في استقلال لا سلطان عليهم في ذلك إلا ضمائرهم وأحكام القانون‏.‏
فماذا أوردت المدونة التشريعية المصرية ضمانا لذلك ؟‏!‏
نصت المادة‏49‏ من قانون المحاماة‏1983/17‏ علي أن يعامل المحامي من المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها بالاحترام الواجب للمهنة‏.‏
وهذا الاحترام الواجب‏,‏ لا يصل إلي غايته مالم تتضافر معه حماية تسبغ علي المحامي حال قيامه بواجبه وأمانته‏,‏ فلا جدوي من ترك واجب الاحترام للآخرين يبذلونه متي شاءوا أويضنون به متي أرادوا‏..‏ يزيد هذه المخاطر احتمالا‏,‏ أن المحامي يتعامل مع سلطات درج شاغلوها علي ممارسة السلطة بما تعطيه هذه الممارسة من اعتياد الخلود والارتياح إليها وحب ممارستها بما قد يؤدي إلي تجاوزات ينبغي أن يؤمن المحامي من غائلتها إذا تجاوزت أو اشتطت‏!‏
لذلك نصت الفقرة الثانية من المادة‏49‏ سالفة الذكر‏,‏ علي أنه‏:‏ واستثناء من الأحكام الخاصة بنظام الجلسات والجرائم التي تقع فيها المنصوص عليها في قانون المرافعات والإجراءات الجنائية إذا وقع من المحامي أثناء وجوده بالجلسة لأداء واجبه أو بسببه إخلال بنظام الجلسة أو أي أمر يستدعي محاسبته نقابيا أو جنائيا‏,‏ يأمر رئيس الجلسة بتحرير مذكرة بما حدث ويحيلها إلي النيابة العامة ويخطر النقابة الفرعية المختصة بذلك‏.‏
فلا تجيز هذه المادة ونقلتها بنصها المادة‏590‏ من تعليمات النيابة العامة‏(‏ الكتاب الأول‏)‏ لا تجيز للقاضي أن يعامل المحامي الحاضر أمامه بما قد تعامل به جرائم الجلسات‏,‏ وكل ما له هو أن يحرر مذكرة تحال إلي النيابة العامة مع إخطار نقابة المحامين الفرعية بذلك‏.‏
ويقتضينا الإنصاف أن نشير إلي أن قانون الإجراءات الجنائية رقم‏1950/150‏ لم يهمل هذه الحصانة‏,‏ فبعد أن تحدثت المادتان‏244,243‏ عن جرائم الجلسات والسلطات المعطاة للمحاكم فيها برفع الدعوي والحكم فيها فورا في الجلسة‏,‏ استثناء من مبدأ عدم جواز الجمع بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم‏,‏ أوردت المادة‏245‏ من ذلك القانون أنه‏:‏ استثناء من الأحكام المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشا مخلا بالنظام‏,‏ أو ما يستدعي مؤاخذته جنائيا يحرر رئيس الجلسة محضرا بما حدث‏.‏ وللمحكمة أن تقرر إحالة المحامي إلي النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته جنائيا وإلي رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبيا‏.‏ وفي الحالتين لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضوا في الهيئة التي تنظر الدعوي‏.‏
وتأمينا للمحامي من أي جنوح في معاملته‏,‏ نصت المادة‏50‏ من قانون المحاماة علي أنه‏:‏ في الحالات المبينة بالمادة السابقة‏(‏ المادة‏49‏ محاماة‏)‏ لا يجوز القبض علي المحامي أو حبسه احتياطيا‏,‏ ولا ترفع الدعوي الجنائية فيها إلا بأمر من النائب العام أو من ينوب عنه من المحامين العامين الأول‏.‏
بهذه النصوص أخرج المشرع ما عساه يصدر من المحامي مخالفا لقانون وتقاليد المحاماة
أو المدونة الجنائية من عداد الاختصاص المقرر للمحاكم في جرائم الجلسات‏.‏
وجوهر هذا الاستثناء الذي قرره الشارع في شأن جرائم الجلسة التي قد تقع أو تنسب إلي محام أنه لم يخول المحكمة سلطة التحقيق أو الحكم فيها‏,‏ وإنما قصر سلطتها علي مجرد الإحالة إلي النيابة العامة لإجراء التحقيق‏,‏ فلا يجوز للمحكمة أن تحقق مع المحامي الحاضر أمامها أو تتخذ إزاءه أي إجراء من الإجراءات التحفظية‏,‏ وغاية هذا واضحة هي توفير مظلة الأمان الواجب للمحامي وهو ينهض برسالته بالجلسة‏,‏ ومع ذلك فإنه رغم وضوح وصراحة النصوص لا تزال بعض النفوس قاصرة عن بلوغ الغاية وعن إعطاء هذه النصوص حقها الواجب من الاحترام والإعمال‏,‏ فتنفجر من وقت لآخر تصرفات شاردة تخلخل العدالة ذاتها وتصيب الأداء في محرابها بما يستوجب أن تقرن القاعدة التي أوردتها النصوص بجزاء واجب الإعمال علي مخالفتها‏.‏

‏Email:[email protected]
‏www.ragaiattia.com‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.