عوامل كثيرة أحاطت بأزمة طنطا التي تحولت بسببها من مشاجرة بين محام وعضو نيابة لتصبح أزمة تمسك بتلابيب ثالوث العدالة بمصر بل تحيط بمعصم مصر وتتهددها في سلامة أمنها ومفاصل المجتمع. يحسن بنا أن نحرر بعض المسائل مما يعلق بها في آتون التوتر الذي تصاعدت حرارته مع مراحل الأزمة أهمها أننا - أبناء مهنة المحاماة - لسنا في أزمة مع القضاء ولن نكون، وحرصنا علي استقلال القضاء المصري حرصاً أكيداً في كل المحطات التي بدت فيها محاولات للنيل من استقلاله قديماً وحديثاً، واستمعت من شيوخ أجلاء في المؤسسة القضائية من الذين يجلسون علي منصة القضاء في شموخ وإباء كيف استقبلتهم نقابة المحامين عندما طالتهم مذبحة القضاء في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وكنا معهم في معركة تعديل قانون السلطة القضائية، كنا دائماً في حضن وحماية القضاء المصري من تغول السلطة التنفيذية علي حريات الأفراد، حتي في ظل الطوارئ، فالذي ينصف المعتقلين هم القضاة بإهدار قرارات الاعتقال طالما قامت علي غير أسباب جدية، والذي ينصف الأحرار من كل محاولات التلفيق والبهتان هم القضاة، ولا أظن أن أسباب إحالة المدنيين إلي القضاء الاستثنائي والعسكري بعيدة عن «عدل القضاء» وإنصافه الأبرياء، كل هذا الحديث من نافلة القول نسوقه في هذا المنعطف التاريخي حتي لا ننسي في زحمة الغضب عملاً بقول الله سبحانه «ولا تنسوا الفضل بينكم»، ولم يزل القضاء المصري هو خط الدفاع الحقيقي للحريات العامة وأي عثرات تعترض مسيرته أو تلحق بعض أبنائه لا تنال من احترامه وضرورة التأكيد علي هيبته. لا يفوت العقلاء في الوطن أن النيل من هيبة القضاء إخلال باستقرار المجتمع، لذلك فالحرص علي ضرورة استمرار هذه الهيبة هو ضمانة أكيدة لاتزان المجتمع. الحقيقة الثانية أن الصدمة التي أعقبت قرار محكمة جنح مستأنف الأحد الماضي لم تكن بسبب القرار بقدر ما كانت احتجاجاً علي كل الزيف والخداع الذي مارسه نقابيون قياديون في نقابة المحامين بإعلانات متكررة عن تفاهمات ومفاوضات انتهت بإعلان واضح لا لبس فيه أن الأزمة قد انتهت قبل جلسة الاستئناف، ووصل الأمر إلي تسويق إشاعة سرت كالنار في الهشيم ليلة الجلسة، أن النائب العام أمر بإطلاق المحاميين!! لقد كنت أشفق علي القضاء قبل المحامين وأسرتي الزميلين المحبوسين من مثل هذه المعلومات التي تنبأت مقدماً بإطلاق الزميلين المحبوسين، لأن هذا لا يعني سوي معني واحد، أن القضاء المصري فعلاً موجه وهو ما لا يقبله أحد يبتغي العدل والحيدة، فتأثر قاضٍ بمناخ التوتر شيء وقبوله التوجيه شيء آخر خاصة إذا كانت محكمة استئنافية من ثلاثة قضاة. الحقيقة الثالثة أن المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحريتهم، ويمارس مهنة المحاماة المحامون وحدهم في استقلال ولا سلطان عليهم في ذلك إلا ضمائرهم وأحكام القانون، هذه هي الثقافة التي ينبغي أن تسود في المجتمع المصري بصفة عامة وفي أوساط القضاة وأعضاء النيابة العامة، ولا ينبغي أن تكون صورة المحامي علي غير هذا الوضع، هكذا ينبغي أن يتعلم أعضاء النيابة والقضاة في معهد الدراسات القضائية وهم في مقتبل اشتغالهم فيشبون علي احترام المحامي ومهنة المحاماة، فلقد استمعنا من بعض رجال القضاء خلال الأزمة عبارات وأوصاف تنال من مهنة المحاماة وتحط من قدر المحامي في عيون الناس، فإذا فقد المحامي اعتباره وهيبته في عين موكله والمواطنين فقد اختل توازن المجتمع أيضاً، وقد فرضت الأزمة ضرورة فتح هذا الملف وإثارته بكل وضوح، لأن المحامين لن يقبلوا بعد اليوم أي إهانات أثناء وبسبب تأدية مهنتهم أو أن يعاملوا معاملة غير لائقة سواء في مخافر الشرطة وأقسامها أو سرايا النيابات أو قاعات المحاكم. بقي أن نشير إلي نقاط محددة في طريق إحتواء الأزمة وتخفيف آثارها، وإذا كنا لسنا في مقام بعثرة الجهود داخل نقابة المحامين أو إثارة مشكلات داخلية نقابية، إلا أننا في ذات الوقت نعتقد أن نقيب المحامين أخرج ما لديه وفشل في الوصول لنتائج إيجابية، فإنني أقدم مقترحات محددة وشديدة الوضوح لاستيعاب ما فات وتدارك ما هو آت: النقطة الأولي: ضرورة إسناد الملف القانوني لمن لديه القدرة علي التعامل المهني اللازم مع قضية محاكمة الزميلين إيهاب ساعي الدين ومصطفي فتوح بعيداً عن التوترات السياسية أو المعالجات النقابية أو المزايدات الانتخابية، وفي هذا الصدد أشير لضرورة إسناد الملف والمرافعة والمدافعة للأستاذ الكبير رجائي عطية، بأن يكون وحده ودون غيره المترافع ويبقي حضور الآخرين وقفاً علي الانضمام، فقد استمعنا في الجلسات السابقة لخطب نقابية رنانة لا تعني بالطلبات القانونية الصارمة مع خالص التقدير بالطبع لكل من اهتم وحضر. النقطة الثانية: ضرورة التعامل مع واقعة تعدي عضو النيابة باسم أبوالروس أيضاً بطريقة قانونية احترافية بمراجعة الشكوي المقدمة ضده عن الواقعة وقت حصولها واستدراكها بمتابعات ومذكرات قانونية مزيدة تعني بضرورة التحقيق في هذه الواقعة احتراماً للعدالة في أنقي صورها وحفظاً للحقوق ودعماً لفكرة عدم تحصن أي شخص بحصانة تحميه من المساءلة، وأن عضو النيابة هو بشر يصيب ويخطئ، وفي هذا الصدد لا بأس من معالجات نقابية وسياسية تدفع في ذات الاتجاه أن يصدر في النهاية تصرف في شأن واقعة تعدي عضو النيابة ضد المحامي باعتبارها الواقعة التي تمثل في حقيقتها خروجاً علي الشرعية قبل تعدي المحامي عليه. النقطة الثالثة: أن يشكل وفد بعضه من داخل مجلس نقابة المحامين احتراماً للشرعية وبعضه من الرموز خارج مجلس نقابة المحامين يجري تفاهمات مع مجلس القضاء الأعلي خاصة وقد توسده المستشار سري صيام بما يملكه من رصيد وطني واحترام شديد في الأوساط القانونية والقضائية أو مع المستشار عبدالمجيد محمود- النائب العام- باعتباره صاحب الدعوي العمومية، مع مراعاة أن هذه الاتصالات أو التفاهمات القصد منها نزع فتيل التوتر وإعادة الأمور إلي ما كانت عليه قبل الأزمة، ووضع ضوابط للعلاقة بين المحامين من جهة وأعضاء النيابة والقضاة من جهة أخري، ودعم التعليمات العامة للنيابة العامة بضرورة احترام المحامي أثناء وبسبب تأديته عمله. هذه خطوات لازمة للإحاطة بالأزمة والبناء عليها لاحقاً لضبط العلاقة بين أركان العدالة، فالمحامون أحد أضلاعها شاء من شاء وأبي من أبي.