هاني درويشيحكي الصديق ناصر أمين أحد أهم الناشطين في مجال حقوق الإنسان الرافضين لعقوبة الإعدام أن تلك العقوبة الأخيرة غالبا ماتتطلب مقتضايتها تعقيدا إجرائيا في العلاقة بين ثلاثي القضاة، حيث تشترط إجماعا تاما بين أعضاء المنصة. ويترتب على عدم رسوخ الحكم في قناعة أي منهم ترجيحا لإلغائها، بمعني أخر أكثر إجرائية، يتطلب حكم الإعدام ليس مجرد إتفاق عادي على أن القرائن والأدلة كافية لتطبيقها بل شيئ أقرب للقناعة التامة الجمعية بين ثلاثة قضاة خاضوا سجالات ومداولات طويلة في محاولة إغلاق كافة ثغرات الشك في قرار يتعلق بحياة إنسان.هذا على مستوى الثقافة القضائية والقانونية الراسخة، وهو ما يحيلنا فورا إلى تأمل مجريات عدد الأحكام الأخيرة بالإعدام بوصفها إما تعبيرا عن حجم التغيرات العنيفة التي أصابت المجتمع المصري، كونه يسجل أعلى درجات العنف غير المسبوقة والتي أدت إلى كم الأحكام الأخيرة بالإعدام والتي تظهر بتواتر مثير للإنتباه في الصحف بشكل يومي، أو تشير الأحكام نفسها إلى مايمكن تسميته بقرار سري متواطأ عليه بإعادة "هيبة القانون" كشكل من أشكال "السيادة"، وتأمل الظاهرة يحيل إلى خلط عمدي بين المفهومين.منذ شهرين أو يزيد صدر في القاهرة أكبر حكم جماعي بالإعدام في تاريخ القضاء المصري. طال الحكم أفراد عصابتين مستأجرتين لحسم خلاف على قطعة أرض متنازع عليها في صحراء البحيرة، وكانت العصابتان قد تبادلتا إطلاق النار في معركة حقيقية لإثبات سيادة جمعيتين أهليتين يتزعمهما قاضيان، الأمر الذي أدى إلى مذبحة راح ضحيتها نحو ستة أشخاص من الجانبين. أصدرت المحكمة حكما بالإعدام على نحو 24 فردا من العصابتين، وهو الرقم الذي أدخل القضية في حساب موسوعة القضاء المصري لأحكام الإعدام.الأزمة هي في أن قرارات المحكمة لم تتضمن عقويات بنفس مستوى الردع للمسؤولين عن "الكراء" والتحريض من كبار رجال الأعمال. بمعنى آخر، جاء الحكم المغلظ والمدهش منقوصا في إستيفائه أركان الجريمة. فقد أثبتت تحريات النيابة والقرائن عدم انتماء المسلحين إلى المنطقة المتنازع عليها، أي أن العصابتان محمولتان لتنفيذ مشيئة أطراف أخرى، وهو ما كان يتطلب توسيع الإتهام ومن ثم الجزاء وفقا لتلك القرينة ليشمل من قام بالتحريض وشراء من يمكن توصيفهم بالبلطجية المأجورين. لكن المحكمة إرتأت المعاقبة العنيفة لأصابع الجريمة لا لليد الحقيقية المنفذة لها.أعتبر آخرون أن الحكم يحمل رسالة سياسية مبطنة موجهة إلى حيتان سرقة الأراضي، وهذا النشاط اللصوصي الأخير هو أكثر الأنشطة إثارة للقلق وفقا لمنطق الأمن العام. فقد أدت سياسات توزيع أراضي الدولة على المتنفذين من رجال النظام بأسعار مخفضة إلى مارثون صحراوي بين الأثقال المتباينة للفساد المنظم، الأمر الذي أدى الى ظهور رجال أعمال كبار على صفحات الحوادث كقادة ميليشيات مسلحة تصادموا في لحظة إنحسار مساحة "كعكة أراضي الدولة"، أو بمعنى أخر إحتكموا لمنطق الرشاشات عند تضارب الإرادات. الدولة من جانبها وجدت عبر قضائها وسيلة للردع غير المباشر.مستوى آخر لميكانيزم "الردع بالإعدام" يظهر هذه المرة في القضايا التي تشوبها حالة "الرأي العام". فقاتل هبة ونادين (هبة العقاد ابنة المطربة ليلى غفران) نال حكما بالإعدام قبل إسبوعين لينضم إلى قاتل عائلة مصر الجديدة الذي ذبح عائلته بعد خسارة أمواله في البورصة. وفيما يخص الأول تحديدا كانت أشرطة معاينة النيابة لموقع الحادث قد تسربت إلى موقع اليو-تيوب وأظهرت تلقين الإعترافات للمتهم على يد رجال النيابة. وبغض النظر عن هذه الواقعة الإستثنائية والتاريخية التي أخرجت معاينة النيابة إلى علن الفضاء الإفتراضي، فإن قناعة القضاة على مايبدو لم تهتز أمام الفيديو المجاني و"عته" المتهم البادي للعيان في كل المقابلات التلفزيونية والصور الصحافية، ناهيك عن إعدامات متفرقة يجري التهليل بها صحفيا وتلفزيونيا لقضايا أقل جماهيرية.وحتى بإفتراض أن المتابعة الصحافية والتلفزيونية المكثفة لأحكام الإعدام قد تكون مسؤولة عن هذا الشعورالجديد ب"الحسم الإعدامي"، فإن تركيز الميديا في حد ذاته يحمل رسالة مضمرة بأن سيف القانون الباتر يعمل على أكمل وجه، وهو مالا ينفي ضمنيا وجود هذا الشبح لسلطة باتت تمعن التأكيد على حزمها.ويرتبط بتلك النشوة الغامرة بإستعادة "حسم العدالة" مشروع القانون الذي قدمه قبل شهرين عضو بمجلس الشعب المصري يسمح بإذاعة أحكام الإعدام في المغتصب تلفزيونيا كوسيلة لتحقيق الردع الإستباقي، وهو المشروع الذي لم تجد مؤسسة الأزهر غضاضة في الإفتاء بإستحلاله متحالفة في ذلك مع قطاع واسع من نواب الإخوان المسلمين ونواب الوطني الأخلاقيين الذين كادوا يمررون القانون في ظل مباركة جماهيرية عبرت عنها برامج التوك شو.من جانبها تؤكد تقارير المنظمات الحقوقية إصدار55 حكما بالإعدام حتى الشهر الماضي. وبالنظر لتقرير منظمة العفو الدولية عن أحكام الإعدام الصادرة في مصر نجد أن أرقام هذه الأحكام ارتفع بمعدل كبير في الفترة الأخيرة؛ حيث ذكر التقرير أنه في الفترة من 1996 وحتى 2001 كان متوسط الأحكام الصادرة بالإعدام 76 حكما سنويا، ثم انخفض الرقم ليصل في عام 2007 إلى 40 حكما فقط، لكن المفاجأة كانت في معاودته الارتفاع خلال العام الجاري ليصل إلى أكثر ما يزيد عن الستين حكما.تاريخيا كانت أحكام الإعدام تكاد تكون منحصرة في قضايا التجسس وقضايا الشرف، لكن الملاحظ في قرارت إعدام النصف الأول من هذا العام تغليبها لطابع تغليظ العقوبة وجماعية الحكم، وهذه النقطة الأخيرة لاتقف عند حدود قضية الأراضي الشهيرة بل تجاوزتها لقضيتين أخيرتين، إحداهما إعدام 11 متهما في سيناء بعد إعتدائهم المسلح على أسرة أدت الى مقتل عائلها وإصابة أفراد الأسرة وسرقة السيارة، والثانية إعدام سبعة في حادثة ثأر عائلي أودت بحياة 12 شخصاً، ويلاحظ في الجريمة الأولى أن الإعتداء المسلح كان بغرض السرقة بالإكراه، لكن حساسية سيناء الحدودية وإستخدام سلاح للإستيلاء على سيارة ربما استفز الحاسة الأمنية أكثر مما ترتب على القضية إجرائيا من سرقة وقتل وإصابات ، وهو مايحيلنا أيضا إلى ذلك الحس الردعي المفرط أكثر من مفهوم تطبيق روح القانون.وتنزامن هذه الأحكام الجماعية بالإعدام مع جدل يدور على صفحات الجرائد المصرية بين من يعتبرون أن الإعدام قصاص شرعي أمر به الله ولا يجوز منعه، ونشطاء يطالبون بإلغائه كما يحدث في أوروبا، مؤكدين أنه لم يثبت مطلقا أن من شأن عقوبة الإعدام ردع الجريمة على نحو أكثر فعالية من العقوبات الأخرى، فضلا عن أنها تضفي الوحشية على كل من يشاركون في تنفيذها، وأنها، لكونها عقوبة نهائية لا رجعة فيها، فإن ذلك يهدر حق الضحايا في الحصول على الإنصاف إذا ما أُدينوا عن طريق الخطأ، بل ويهدر قدرة النظام القضائي بأسره على إصلاح الأخطاء.تظلل تلك القسوة الردعية مظلتان كبيرتان من المناخ العام حول القانون وتطبيقه في مصر. الأولى هي الصراع بين الدولة نفسها ومؤسسة القضاء فيما يعرف بمعركة القضاة، حيث أرهصت المواجهة بين دعاة إستقلال القضاة من القضاة القريبين أيديولوجيا من جماعة الإخوان المسلمين والدولة ممثلة في وزارة العدل، حالة من إلتصاق السلطة القضائية أكثر بالمتطلبات السياسية المباشرة، فيما أشاع القضاة المتأسلمون مفهوما للردع القانوني أقرب للعدالة الإلهية منه للعدالة الوضعية. وفي هذا الصراع المحتدم بين الجانبين إهتزت صورة السلطة القضائية نفسها عند قطاع واسع من المصريين، وبدا أن القانون لا يطبّق بحذافيره إلا على الضعفاء ومن صادفه الدور في حركة تطهير النظام الموسمية لسمعته، كما أدى هذا الإستقطاب الفظيع بين طرفين يحتكران العدالة إلى مزيد من الشك في مفهوم العدالة نفسه.المظلة الثانية في هذا التناقض العام هي التداخل العنيف بين السلطة القضائية والسلطة الخامسة، أي الصحافة والتلفزيون. وأخيرا بات القضاة والمستشارون والمحامون فقرة ثابتة في معظم التغطيات الصحافية، أدى ذلك إلى تقليد "المحاكمات الهوائية" التي تحول القضايا القانونية إلى إستعراض خطابي مبارياتي على الهواء، بحيث تحولت القضايا الهامة إلى ما يشبه الإستفتاءات الجماهيرية لتعود تلك الوسائل الإعلامية لتشكل ضغطا على مسار العدالة المحكمية، أكبر تطبيق لهذه الحالة يتواصل الآن بلا إنقطاع في قضية هشام طلعت مصطفى المحكوم عليه بالإعدام في قضية قتل المطربة سوزان تميم. فبمجرد نطق المستشار قنصوة بحكم الإعدام وتصديق المفتي على الحكم، وفيما يمنع القانون المصري بنصوص حازمة التعليق على الأحكام القضائية، جرت حملة تأهيل للرأي العام لإستقبال قبول الطعن في حكم الإعدام على يد هيئة دفاع المتهم المدان. ساعات متواصلة من التفنيد للحكم والتشكيك بمصداقيته جرت على الهواء وبالتزامن بين ثلاث قنوات يملكها رجال أعمال مصريون، بل وعلى التلفزيون الرسمي المصري. أوركسترا كاملة من وصلات "الردح" و"نهش السمعة" قام بها أصدقاء رجل الأعمال المدان في حق المطربة القتيلة، الأمر الذي دفع مراقبون إلى التأكيد على تبلور مايمكن تسميته ب"لوبي رجال الأعمال" الذي يتعامل مع الحكم على أنه حكم ضد الطبقة بمجملها.يلعب هذا التعنيف القانوني والإفراط في التأكيد على هيمنة القانون بأحكام الإعدام المتتالية بشكل مباشر على تنفيذ مشيئة الدولة كمحتكرة للقتل بمسوغات قانونية. وتمعن الدولة وأجهزتها في إشاعة الخوف لدى الجموع. لكن هؤلاء الأخيرون تحديدا يدركون إنتقائية الضحية ونسبية القانون، وهما العاملان اللذان يجعلان من الرسالة رسما كاريكاتيرا لاهيا، ربما يرعب الناس من المقصلة لكنه لن يمنعهم عن الإبتسام وهم ينظرون إليها، أو على الأقل لن يتشفى القضاة حتى في الأحلام - عند سماعهم صرخات ندم ضحاياهم.