يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: كان التعليم مجانيًا ممتعًا، وبالتدريج أصبح غير مجاني بسبب الدروس الخصوصية، ثم أصبح لا علاقة له بالتعليم، إذ أصبح التعليم الآن هو اكتساب مقدرة اجتياز الامتحانات. هذه العبارة ليست مجرّد نقد عابر لنظام التعليم، بل هي قراءة فلسفية صادمة لحالة التحوّل التي أصابت العملية التعليمية في العالم العربي، وربما في العالم بأسره. إنها تلخّص ببصيرة المفكر المتجذّر في التجربة مأساة تراجيدية بدأت بحلم وانتهت إلى محاكاة باردة: من التعليم كرحلة إلى التعليم كوسيلة، ومن المتعة إلى الأداء، ومن اكتساب المعنى إلى اصطياد الدرجات. في سنوات ما بعد الاستقلال، أو ما يسميه البعض الحقبة الجمهورية الأولى، كان التعليم مشروعًا وطنيًا، بل مشروعًا وجوديًا. كانت المدرسة مصنعًا للوعي، والمعلّم حامل رسالة، والكتاب بوابة إلى اتساع الذات. لكن مع تراكم التحولات الاجتماعية والاقتصادية، بدأت هذه المنظومة تتحول تدريجيًا إلى ما يُعرف في علم الاجتماع التربوي بظاهرة تشيؤ التعليم أو (Educational Commodification). لم تعد المدرسة مكانًا للبحث والتكوين، بل صارت مصنعًا لإنتاج إجابات نمطية، وتصنيف المتعلمين وفق مقاييس كمية جامدة. عبد الوهاب المسيري لا يهاجم الامتحان كمفهوم، بل يحذّر من تفريغ التعليم من روحه. فالخطر ليس أن تصبح للامتحانات سلطة، بل أن تُصبح هي الغاية والهدف، فيغدو التعليم كله تدريبًا على اجتيازها، لا طريقًا إلى ما بعدها. يتحوّل الطالب من كائن يسأل، يفكر، يشكّ، يستكشف، إلى كائن يُبرمج على أنماط محددة من الاستجابات. يتحوّل المعلّم من مُلهِم إلى مُدرّب، وتتحوّل الحصّة من فسحة فكرية إلى تكرار آلي لخطوات الحل. في هذا النموذج المشوّه، تصبح المعرفة مُختزلة إلى مهارات تقنية. تصبح كل مادة -من الفلسفة إلى الأدب، ومن الفيزياء إلى التاريخ- ليست بابًا للتفكير، بل كُتيّبًا صغيرًا يحتوي ما يجب أن يُقال، وما يُفترض أن يُحفظ.
وهكذا، يتخرج الطالب وهو يجيد الصياغة، لكنه لا يجيد التساؤل، يحفظ النظريات لكنه لا يعرف كيف يستخدمها خارج قاعة الامتحان، يُكرر دون أن يُدرك، ويُنجز دون أن يتحقق. ما يشير إليه عبد الوهاب المسيري هنا أعمق من مجرد خلل مؤسسي. إنه أزمة في فلسفة التعليم ذاتها. فحين يُفصل التعليم عن هدفه الإنساني، يتحول إلى صناعة بيروقراطية لا تُنتج عقلًا ناقدًا، بل عاملًا مطيعًا، ينتظر التوجيهات وينفذها دون احتجاج. وحين يُختزل العقل البشري في قدرته على حفظ النموذج والإجابة على السؤال، نفقد أعظم ما في الإنسان: قدرته على الدهشة، والتساؤل، ورفض القوالب الجاهزة. إن الخطورة الأكبر لا تكمن في غياب الموارد، بل في غياب المعنى. فالتعليم، كما يراه المسيري، هو أداة لبناء إنسان متكامل، لا مجرد موظف ناجح. إنه وسيلة لتكوين الوعي، لترسيخ الأخلاق، وللارتقاء بالروح والعقل. وإذا لم يتحقّق هذا، فكل الشهادات التي نحملها، وكل الدرجات التي نحصل عليها، ليست سوى أوراق صامتة لا تنطق بالمعرفة، ولا تحرّك العقل، ولا تُبني بها حضارة. فلنتأمل: كم من طالب حاز أعلى الدرجات، لكنه لا يملك رأيًا في أي قضية؟ كم من خريج جامعة لا يستطيع صياغة جملة متماسكة من دون الرجوع إلى نموذج محفوظ؟ كم من معلم صار مجرّد موظف، يشرح ما يُطلب منه دون أن يضيف معنى؟ وكم من مادة أصبحت طقسًا روتينيًا يُمارس كما تُمارس الطقوس في المجتمعات التقليدية: بلا وعي، بلا سؤال، بلا هدف؟ إن التعليم الذي لا يُغيّر طريقة تفكيرنا، ولا يحرّك فينا حسّ التساؤل، ولا يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، ليس تعليمًا بل تدريبًا مؤقتًا. وإن العقل الذي لا يتعلم كيف يُفكر، سيقضي عمره يردد ما يُملى عليه. وإذا أردنا أن نعيد للتعليم روحه، علينا أن نعيد إليه وظيفته: أن يكون ممرًا لتكوين الذات، لا جسرًا للعبور فقط. أن نُعلّم أبناءنا كيف يعيشون ككائنات حرة مفكرة، لا كأدوات تنتظر الأوامر. أن نُدرّبهم على الصبر لا السرعة، على الفهم لا الحفظ، على التأمل لا الاستجابة الفورية. إنها ليست مسألة تطوير مناهج فقط، بل تطوير نظرتنا إلى الإنسان نفسه. هل نريده مخلوقًا ناجحًا في الامتحان؟ أم إنسانًا يحمل مشروعًا فكريًا وأخلاقيًا؟ دروس النجاح والتميز (2) دروس النجاح والتميز! (1) عبد الوهاب المسيري، في جملته البسيطة، لا يطرح سؤالًا عن التعليم فحسب، بل يطرح سؤالًا عن مصير الإنسان المعاصر: هل ما زلنا نُربّي بشرًا، أم نصنع منتجات بشرية قابلة للتوظيف؟ ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا