«1» " إن حياة مثل حياة النبى "محمد"، وقوة كقوة تأمله وجهاده ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه، وشدة بأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان، وإيمانه بالظفر، وإعلاء كلمته، ورباطة جأشه، لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية.. إن كل ذلك أدلةٌّ على أنه لم يكن يُضمر خداعا أو يعيش على باطل، فهو فيلسوف وخطيب ورسول، ومُشرع وهادى الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب، ومؤسس دين، لا فرية به، وصور لا رُقيات، ومُنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة روحية في السماء تمتلئ بها الأفئدة، فأى رجل أدرك من العظمة ما أدرك، وأى إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ؟".. هذا نص مما كتب الفيلسوف الفرنسى "لامارتين"، عن نبى الإسلام. أما دائرة "المعارف البريطانية"، فكتبت عن الرسول الكريم نصا: "قليلون هم الرجال الذين أحدثوا في البشرية، الأثر العميق الدائم، الذي أحدثه محمد، لقد أحدث أثرا دينيا عميقا، لا يزال منذ دعا إليه حتى الآن، هو: الإيمان الحى والشريعة المتبعة لأكثر من سُبع سكان العالم ". هذا هو شأن أول مسلم وخاتم الأنبياء والمرسلين، في نظر فلاسفة ومثقفى الغرب المعتدلين، كانوا يرونه صاحب عقل رشيد وموسوعى، لا سيما أن كثيرا من آيات القرآن الكريم تحدثت عن "أولى الألباب"، أي ذوى العقول والأفهام الواسعة والمتوثبة التي تضيق بالأسقف المنخفضة والآفاق الضيقة، ورفعت من أقدارهم ووضعتهم في مصاف البشر الحقيقيين. "2" ولكن سرعان ما خلف النبى الكريم وصحابته الأطهار، خلفُ انتصروا للتخلف والرجعية، أرادوا فرض سياج من الظلام على أنوار العقول، صنعوا قضبانا حديدية للتفكير، لا يجوز الخروج عنها، واعتبروا كل من حاد عن قضبانهم "كافرا وملحدا وزنديقا ونزيلا مقيما في جهنم، لا يغادرها أبدا"، أما هم فسوف يضاجعون الحور العين في جنات النعيم، حيث يحتسون الخمر، ويطوف عليهم الولدان المخلدون. لقد تعرض عدد من فلاسفة المسلمين وعلمائهم الأفذاذ، ممن أنتجوا وتبحروا مبكرا في علوم وضعية، مثل: الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات، لاتهامات عنيفة بالإلحاد والزندقة والكفر، ممن جعلوا من أنفسهم "أوصياء على الأرض والسماء"، ووضعوا بعضهم في مرمى الاغتيال والتصفية الجسدية، فضلا عن إحراق ما أنتجته عقولهم من كتب ومراجع علمية، أفادت الغرب، ولم يستفد منها العرب المسلمون! "الرازي" و"الخوارزمي" و"الكندي" و"الفارابي" و"البيروني" و"ابن سينا"، و"ابن الهيثم"، و"ابن رشد" و"الجاحظ" و"الخيام"، و"ابن خلدون"، و"ابن طفيل"، وغيرهم نفر كثير، يمكن وصفهم بأنهم "نخبة متألقة، من الكواكب المتلألئة، في فضاءات الحضارة العربية، التي أشرقت بشموسها المعرفية الساطعة على الحضارة الغربية". لقد سطر هؤلاء المتقدمون أسماءهم بأحرف من نور، بإنجازاتهم العلمية الرائعة في الطب والفلسفة والفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك والهندسة والفقه وعلم الاجتماع والفنون والآداب، وكانوا أساتذة العالم، فكرا وفلسفة وحضارة، حتى إن عواصم كوكب الأرض، تسابقت، يوما ما، فيما بينها لإصدار باقات من الطوابع البريدية الجميلة لإحياء ذكراهم، فحلقوا فوق سحب القارات السبع، ونشروا رسالتهم المعبرة عن مشاعرهم الإنسانية الصادقة بين الشعوب والأمم على اختلاف ألسنتهم ودياناتهم، بينما كان بعض شيوخنا مستغرقين في تكفيرهم، تحت شعار: "أخرجوهم من قريتنا، إنهم أناس يفكرون"، تماما كما قال قوم لوط يوما عنه وعن أهله: "أخرجوا آل لوط من قريتنا، إنهم أناس يتطهرون"! "3" المؤسف حقا، أنه لا كرامة لنبى في قومه، فهؤلاء العلماء الأعلام، صدرت بحقهم سلسلة من "الأحكام التكفيرية"، بقرارات ونصوص متطابقة بالشكل والمضمون، مع قرارات "محاكم التفتيش"، التي كفرت يوما ما "جاليلو"، و"جيوردا"، و"نويرنو"، و"كوبرنيكس"، و"نيوتن"، و"ديكارت"، و"فولتير"، وحرمت قراءة كتبهم، وبالغت في مطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، فلا فرق بين تلك الأحكام التعسفية الجائرة، وبين الأحكام الارتجالية المتطرفة، التي ضللت الناس، وحرضتهم على قتل "الطبري"، وصلب "الحلاج"، وحبس "المعري"، وسفك دم "ابن حيان"، ونفى "ابن المنمر"، وحرق كتب "الغزالي" و"ابن رشد" و"الأصفهاني"، وتكفير "الفارابي" و"الرازي"، و"ابن سينا"، و"الكندي"، كما مات "السهروردي" مقتولا، ومُزقت أوصال "ابن المقفع"، وشُويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب، ومات "الجعد بن درهم" مذبوحا، وعُلقت رأس "أحمد بن نصر"، وداروا بها في الأزقّة، وخنقوا "لسان الدين بن الخطيب" وحرقوا جثته، وكفروا "ابن الفارض" وطاردوه في كل مكان، ووصفوا الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف "ابن سينا"، بأنه " إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، و" الملحد الزنديق القرمطي"، و" باطنى من الباطنية"، و"فيلسوف ملحد"، وقالوا عن الطبيب والعالم والفيلسوف "أبى بكر الرازى" إنه " من المجوس"، و"ضال مضلل"، ووصموا "الفارابى" بالكفر والزندقة، وقالوا عن عالم الرياضيات "الخوارزمى" إنه "وإن كان علمه صحيحا إلا إن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره". أما "الجاحظ" فوصفوه بأنه "سييء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب إليه البدع والضلالات، وكان زنديقا كذابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس"، وقالوا عن ابن الهيثم: "كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة"، وقالوا عن "نصير الدين الطوسي": "نصير الشرك والكفر والإلحاد"، كما اعتبروا "ابن بطوطة"، "مشركا كذابا"، وقالوا عن "الكندي": "إنه كان زنديقا ضالا". "4" والذي لا ريب فيه، أن كثيرا ممن ذكرتُهم آنفا تعرضوا لظلم شديد، من شيوخ كانوا يعادون الفلسفة ذبّا عن كراسيهم، التي نُصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، ووصم كل من لا يروق لهم بكل نقيصة، حتى لو بلغ الشطط حد رميهم بالزندقة والكفر وتحريض السلطان عليهم. لسنا هنا بصدد الدفاع عن هؤلاء العلماء الذين غادروا الدنيا منذ أكثر من ألف عام، وسجلوا أسماءهم في سجلات الأمجاد العلمية بحروف من نور، فمهما فعلنا فلن نضيف إليهم نصرا أو مجدا، بل نريد أن نؤكد أن كثيرًا من الدعوات التي استهدفت تكفير العلماء في الماضى والحاضر، تهدف في حقيقتها إلى تكريس الجهل والتخلف، ومصادرة محفزات الإبداع من المجتمع العربي، وحرمانه من حقوقه الإنسانية، بحيث يصبح غير قادر على مواجهة التحديات، وربما تدفعه إلى التقهقر والتراجع نحو العصور المتزمتة المتشددة المتصلبة، بالاتجاه الذي يرمى إلى كبح جماح حرية الفكر والعودة بها إلى حظيرة الفترة المظلمة، التي خسرنا فيها كل شيء تقريبا. ولا يجب أن ننسى أنه لم يخلُ عصر من العصور، من "مقاولى التكفير" الذين يوجهون سهام التكفير إلى كل من يبحث عن شعاع ضوء، في نفق شديد الإظلام، يبغون إيقاف عقارب الزمن، ويحاولون دفعها دفعا إلى الوراء، وتمجيد الماضى وتعظيمه، أيا كان حجمه وقدره، ويرفضون كل جديد، مهما تعاظم شأنه، يحملون في عقولهم وأفئدتهم "أسلحة تكفيرية"، لا تقل حدة عن أسلحة المتطرفين والإرهابيين الذين يقتلون الناس كل يوم باسم الأديان السماوية، رغم أنها جميعا تدعو وتحرض على حفظ النفس وصونها من كل سوء. "5" قد يتبادر إلى ذهنك عزيزى القارئ أحد سؤالين أو كليهما، هما: لماذا نطرح هذه القضية الآن؟ وهل نقصد من طرحه تشبيه الفئة الضالة التي تقتات من الإساءة إلى الإسلام في هذه الأيام، معتمدة فيما تكتب وتقول على بضاعة راكدة سابقة التجهيز في مراجع شيعية أو استشراقية، وضعها حاقدون على الإسلام ونبيه الكريم؟ والإجابة باختصار غير مُخل هي: أنه لم يعد مقبولا أن يرمى أي رام، كل من يُعمل عقله، ولا يسير في مواكب المقلدين، ب"الكفر والزندقة والإلحاد"، فالأيام أثبتت أن معظم من تم رميهم بهذه الاتهامات، خدموا الإسلام، والعقل الإسلامى والعربى والغربى، وهو ما لم يفعله ولن يفعله، المتربصون والمتنطعون ومن يقتاتون من الاتجار بالأديان، وفى الوقت ذاته، لا ينبغى لتلك الفئة الضالة التي تشتم الإسلام وتنال من ثوابته، بزعم "الدفاع عنه" والادعاء بأنهم "دعاة تنوير"، أن تشبه أنفسها بالفلاسفة والعلماء الأفذاذ الذين أثروا العقل الإنسانى بمنتجات فكرية أصلية خالصة، والذين لم يكونوا يوما "ناقلين أو سارقين لجهود غيرهم"، حيث لاتجوز المقارنة بين العلماء وبين العوالم.. لا يستويان مثلا.