خياران طرحتهما قيادات الإخوان على حكومتنا الانتقالية قبل فض اعتصامى رابعة والنهضة. إما إشعال حرب أهلية فى مصر يقودها جيش حر يحولها إلى سوريا جديدة، وإما الموافقة على عودة الجماعة للمشاركة فى الحكم بشروط يصعب قبولها. بصراحة لم يكن التهديد الأول يمثل خطورة حقيقية، لأنه كان مجرد طق حنك، كما يقول الشوام، يصدر من طرف جريح يعانى صدمة رهيبة تدفعه إلى رفض تصديق مأساته، والصراخ فى خصمه على طريقة (شيلوه من فوقى لحسن أموته). المشكلة الحقيقية الفعلية كانت فى السلطة الحمقاء ومؤسساتها الساذجة التى أصابها الرعب فصدقتهم، وتعاملت معهم بخوف أعقبه تهور شديد. رغم أن المنطق السليم البسيط كان يحتم عليها تجفيف اعتصامات الإخوان بمحاصرتها منذ البداية، وبمنع الدخول إليها، والسماح فقط بالخروج منها، وبتفتيش مداخلها بدقة لا تسمح بتسريب السلاح. هذا فضلا عن التخطيط بمهارة لتنفيذ اعتقال قانونى لقياداتهم التى تقوم بالتحريض على العنف، والتى تكرر دخولها وخروجها من اعتصامى رابعة والنهضة بمنتهى البساطة كما تدخل السكين وتخرج من الزبد. هذه بالطبع مسؤولية وزير داخلية الإخوان الذى استمر، بمنتهى الغرابة، وزير الداخلية ثورة (الشعب والجيش والشرطة) ضد حكم الإخوان! أعود وأكرر أن خيارات الإخوان وأنصارهم الإرهابيين كانت مجرد طق حنك، لأن الواقع يقول إن الجيش السورى (الحر) تم تكوينه بعد شهور من وصول الثورة الشعبية فى دمشق إلى ذروة اليأس كنتيجة طبيعية لتوريط الإخوان لنظام بشار، وإجباره على التعامل بمنتهى الإجرام مع المظاهرات السلمية، بنفس الطريقة الدموية التى تعامل بها القذافى مع شعبه. هذه هى النقطة الأولى التى تمثل فارقا جوهريا بين مصر (حاليا) وسوريا (بشار) فى الصراع الدائر بين السلطتين ضد تيارات الإسلام السياسى، لأن قيادة الجيش (الآن) فى مصر يثق بها الشعب بعد أن أعلنت أنها ستحميه (بغض النظر عن جرائم قياداته السابقة)، كما أن الشرطة (رغم عدم إعادة هيكلتها) رفعت نفس الشعار لكى تنتهز فرصة تاريخية للمصالحة ربما لن تتكرر لها مستقبلا. بينما قام الجيش (العلوى) فى سوريا بقتل الثوار وقمع المظاهرات السلمية بوحشية. النقطة الثانية البالغة الأهمية أن الشعب السورى، بعد تنامى صدامه مع نظام بشار الديكتاتورى، أسلم قيادة الثورة فى الطرقات إلى جماعة الإخوان السنية المسلحة، فقامت برفع مطالبه وصبغتها بشعاراتها الإسلامية، بينما غالبية الناس (الآن) فى مصر تمردت وسحبت الثقة من تلك الجماعة، بل ومن تيارات الإسلام السياسى كلها، فى مظاهرات 30 يونيو، بعد أن رفعتها إلى مقاعد الحكم وجربت فشلها فى إدارة الدولة، برلمانيا ورئاسيا، لمدة عامين، وذاقت مرارة استهانتها بمطالبها، وتغليبها مصلحة العشيرة والأنصار والتنظيم الدولى على حساب المصالح الشعبية والأمن القومى. لهذين السببين السابقين كنت متأكدا من استحالة تكرار السيناريو السورى فى مصر، وكان على الإدارة الانتقالية أن تثق فى نفسها، وشعبها، وتتأكد من ذلك بدلا من تعميق الأزمة، وتدويلها بطريقة لا يعلم مسارها إلا الله. المعضلة الآن تتلخص فى أن القوى الغربية، وعلى رأسها أمريكا، ستدعم الإخوان وتيارات الإسلام السياسى بمعركة دولية صاخبة، باعتبار أن انكسارهم يؤدى إلى انهيار مخطط تبعية الشرق العربى والإسلامى السنى لهم لعشرات السنوات القادمة، بعد تقسيمه إلى دويلات، وتوريطه فى حروب طائفية، هى الهدف الذى أنفقت أمريكا من أجله المليارات. فى نفس الوقت تدرك جماعة الإخوان وأنصارها الجهاديون أنهم يخوضون معركة للبقاء ضد الدولة المصرية وشعبها، وهى معركة دموية شرسة أرعبت المجتمع المصرى بكل طوائفه ودفعته إلى تفويض جيشه وشرطته ليبطشا بالخارجين على القانون حتى ولو قاما هما بانتهاك القانون! الأمر الذى قد يمهد إلى عودة الدولة البوليسية القديمة بقبضتها الغاشمة التى ثار عليها نفس الشعب فى 25 يناير! هذه الدائرة العبثية قادنا إليها (منذ البداية) غباء الإخوان فى إدارة الدولة، وسياستهم الإقصائية العنصرية، كما أوقعنا فيها (فى نهاية المطاف) تعامل السلطة الانتقالية بحماقة مع أزمة، لم تكن مستعصية على الحل، أساء إدارتها (وزير داخلية الإخوان)، وكان بإمكانه تجفيفها، قبل استفحالها، بوسائل أمنية غير دموية، بالسيطرة على الاعتصامات، واعتقال من يحرضون فيها على العنف، ومنع من يخرجون منها من العودة، للعمل على انكماشها، وعدم تسليحها، وتجنب تصعيدها وصولا إلى صدام سعت إليه قياداتها. هذه الرؤية بالطبع لا تبرر للبرادعى تسرعه فى تقديم استقالته، لأنه منح بمثاليته فرصة ذهبية لإدارة أوباما المتأخونة لتدويل الأزمة، لتحقيق مكاسب قد تخدم عودة الإخوان إلى الساحة السياسية، باستغلالها لسقوط ضحايا ريفيين سذج من أنصارها يموتون خلال تبادل إطلاق النار بين الشرطة والإرهابيين. فى هذه اللحظة الحرجة تكرر إدارة أوباما العياط الخطأ الذى مارسه عميلها مرسى العياط وإخوانه، فبدلا من مصارحة نفسها بانهيار مخططها إلى غير رجعة، وأن الحكمة تقتضى تجنب وقوفها ضد إرادة الشعب المصرى، وتبصير الإخوان بأن ما يقومون به من محاولة لهدم الدولة المصرية لن يعيدهم إلى الحكم، وأن تدويل الأزمة لن يؤدى إلى النموذج السورى، وذلك لوقوف غالبية المصريين خلف جيشهم، بل ربما يعصف بالعلاقات المصرية الأمريكية، ويدفع قيادة مصر الجديدة إلى نشر أشرعة مركبها فى بحار أخرى لترسو بها فى ميناء يحترم أصحابه إرادة شعبها. المهم الآن هو استمرار النضال السياسى كى لا تصبح عودة الدولة البوليسية هى الثمن الذى ندفعه للانتصار على الإرهاب، وكأنه كُتِبَ علينا أن نظل نلعب الكراسى الموسيقية.. بين الدولة البوليسية والدولة الدينية!