كل الإحصائيات تفيد بأن الأسرة المصرية تنفق أكثر من نصف دخلها على الطعام، والذي يتكون بالنسبة للملايين من الأسر من الأساسيات بالكاد وما يسد الرمق، وحيث تعتبر اللحوم بأحمرها وأبيضها وكافة الألوان من الرفاهيات التي لا يتم تناولها إلا في المناسبات. ولأن المذيع المرموق المغرم بالسيد الرئيس السيسي وجيش مصر العظيم يدرك تماما هذه الحقيقة، فلقد قرر أن يعكس للملايين من مشاهديه مدى تفاني الرئيس والجيش في خدمتنا نحن المواطنين عبر توفير كل ما يسيل له اللعاب بأرخص الأسعار، وذلك بناء على توجيهات السيد الرئيس طبعا التي سمعناها جميعا في آخر ندوة تثقيفية ألقاها أمام ضباط القوات المسلحة والتي تقضي أن الأسعار، "بنهاية هذا الشهر ستنخفض بفضل تدخل الدولة، والجيش". وفي ترجمة فورية للأوامر الصادرة من الرئيس السيسي، أعلن المذيع الألمعي البيان التالي في برنامجه قبل يومين: "حضرتك عايزه تطبخي ايه النهارده؟ فخذة ضاني. يا سلام على الفخدة الضاني في الصينية في الفرن، مع شوية رز وحاجات كده. حتلاقي فخدة ضاني. عايزة عكاوي، أو طاجن خضار باللحمة؟ حتلاقي عكاوي ولحمة ضاني. كل ده من مزارع الجيش اللي بتشتغل 48 ساعة في ال24 ساعة. من هنا ورايح، مش عايز أشوفك زعلان، أو حد يذلك ويبيع ويشتري فيك". ويمضي المذيع الذي يبلغ دخله السنوي عدة ملايين وبإمكانه شراء مطاعم بأكملها بكل ما تحتويه من فخد ضاني وعكاوي، بأن الجيش أيضا سيوفر الفراخ. أما المفاجأة الكبرى التي أتسعت لها عيناه وكادت تلمع من دموع الفرحة فكانت "عايزة كده شوية سمك و"جنبري"، حتلاقي سمك وجنب...." ويبدو أن المعد قد أخطره في سماعة الأذن بأن منافذ الجيش قد لا تحتوي "جنبري" لأن كده حيبقى زيادة شوية، ولكن المهم والمؤكد أنه ستتوافر الفخدة الضاني واللحوم الطازجة "مش لحوم مجمدة من 200 سنة، ومش ب120 ولا ب 90 ولا ب80 ولا ب 70. بأقولكم أهو ولا حتى ب 70." ورفض سيادة المذيع الكشف عن السعر الحقيقي لكي لا يفسد علينا فرحة المفاجأة، كما أن هذه الأسعار سر حربي تماما كما صفقات السلاح وكل ما يخص قواتنا المسلحة. لن أتحدث كيف فات مذيعنا الهمام أن تحول الجيش للاهتمام بتوفير اللحوم والخضروات أمر يثير الكثير من الاستغراب في وقت نواجه في الإرهاب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفي مطار شرم الشيخ، ولا مدى رخص هذه الطريقة للترويج لمجهودات القوات المسلحة لأنه سيرد بأن مثل هذا الخطاب غير موجه للمثقفين المتعجرفين من أمثالي الذين لا يشكون من غياب اللحوم والعكاوي والفراخ، بل للغالبية العظمى من المصريين الذين يمثل توفير الطعام لأسرهم هما كبيرا. ولكني سأدعوكم فقط لتذكر ما شهدناه في مصر قبل خمس سنوات في ثورة 25 يناير 2011، وكيف أننا لم نثور فقط لأن غالبية المصريين كانوا يشعرون بالجوع. الشعب ثار من أجل حقوقه وكرامته وحريته، وما هو أكثر بكثير من الفخدة الضاني والسمك والجنبري. وعندما أنهار الأمن لم تكن محلات الجزارة والسوبرماركت من أول الأهداف التي هاجمها المواطنين وسعوا لتحطيمها. الشعب ثار لأنه فاض ذرعا بالفساد وبنهب موارده، وتصرف المخلوع ونجليه وأسرته وكأن مصر عزبة يفعلون بها ما يشاءون ويورثون الحكم، وبعد أن ضقنا ذرعا بقمع الأجهزة الأمنية وتغولها وتعاملهم مع المواطنين على أنهم عبيد وهم الأسياد. نعم توفير الطعام احتياج أساسي لا غنى عنه، ولكن المواطن الذي يغريه موسى بالفخدة الضاني يريد أيضا أن يعلم أبناءه في مدارس لا تتجاوز فيها كثافة الفصول مائة تلميذ وتسقط مبانيها على رؤوسهم، ويوفر لهم خدمة صحية إنسانية، ومسكن مناسب، ومياه شرب نظيفة، وطرق مؤمنة لا تنتهي بقتل فلذات أكباده، وفرص عمل تستوعبهم بعد انتهاء تعليمهم. ثرنا لأننا كنا نريد أن نعبر عن آراءنا بحرية دون خوف أو قمع ولأننا لا نقل عن شعوب أخرى كثيرة قريبة نالت هذه الحقوق ألأساسية التي لا علاقة لها بمدى تقدمنا الاقتصادي، بل أن حرية الرأي ومحاسبة المسئولين هي التي ستحقق التقدم وتمنع الفساد. فاتني أن أشير أن المذيع كشف "على مسئوليته" عن سر عسكري آخر، وهي أن مهرجان القوات المسلحة للتخفيضات سيشمل أيضا "البيض." هذا كثير جدا جدا، وأكاد أبكي من فرط تأثري بتوافر البيض، والكثير من البيض. في الدول الغربية الغنية يستخدمون البيض والطماطم الفاسدة للتعبير عن الغضب والاحتجاج ويقومون بقذف كبار المسئولين بهما. هنا في مصر، وفي بلد الغالبية العظمى فيه هم من الفقراء، البديل المحلي الصنع للبيض هو الحجارة، او الطوب، ويقال باللغة الدارجة "زقلوه بالطوب". أما إذا كان البيض الذي ستبيعه القوات المسلحة رخيصا للغاية كما وعدنا السيد المذيع، فربما سنشهد في مصر نقلة حضارية تسمح لنا بالبدء في إلقاء البيض على المسئولين الذين نحتج على تصرفاتهم، ولن نقل في هذه الحالة عن أي دولة أوربية غنية. ما يصحش كده بجد.