شخصية استثنائية أضافت للكثيرين وأثرت فيهم، شخصية أصابها تمرد العصر ولكن في الحقيقة هو تمرد في منتهى العقل، وتشابكت في أفكارها العلم والأدب والدين، وقطعت رحلة خاصة من الشك إلى اليقين، إنه الفيلسوف الطبيب مصطفى محمود، الذي حاول أن يتمرد بفكره فاضُطهد فسرح بخياله إلى ما هو أبعد؛ وهو البحث عن المعنى وما وراء الأشياء. سيرته: فى مثل هذا اليوم من عام 1921، وُلد الدكتور مصطفى محمود، الذى درس الطب بجامعة مصرية ليتخرج فى عام 1953 كمتخصص فى الأمراض الصدرية، إلا أن حبه للكتابة وجهه للتفرغ لها فى العام 1960. وخلال مسيرته الطويلة، ألّف "محمود" العديد من الكتب التى أثارت جدلاً كثيرًا حولها، ووصل مجموع مؤلفاته إلى نحو 89 كتابًا متنوعًا ما بين الثقافة والفلسفة والعلم والدين والسياسة، إلى جانب الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات. تميز أسلوب الطبيب الأديب بالسهولة والجاذبية والبساطة، وهو الأمر الذى ساهم إلى حد كبير فى صناعة شعبية هائلة ل"محمود"، زادت تلك الشعبية إلى مستويات قياسية عقب تقديمه لبرنامجه الشهير "العلم والإيمان". مواقفه الإنسانية: انغمس مصطفى محمود في شئون الناس وشغلته مشكلاتهم، ولم يكن في معزل عنهم، وعرف كيف يبدأ ويساعد أناسًا أرهقتهم الظروف، فأنشأ لهم جمعية ومسجد مصطفى محمود، التي يقول عنها: "أقمت مستشفى لعلاج المرضى بالمجان باستخدام أحدث الأجهزة، ولكن كل هذا لم يرضني، لم أشبع من تقديم الخير للفقراء في مصر، وكنت دائمًا أُحس أن الفقير الحقيقي في بلدنا موجود في الواحات؛ حيث لا يوجد دعم ولا توجد حكومة ودفعني هذا إلى التحرك نحوهم". فى عام 1979 أنشا محمود مسجده المعروف ب"مسجد مصطفى محمود" ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تعالج ذوي الدخل المحدود. وكانت الجمعية التابعة له عندما تطلب أسرة من الأسر المصرية البسيطة قرضًا، وبدلًا من أن تقرضهم الأموال، كانت تقدم لهم أدوات إنتاج كالآلات اللازمه للزراعة؛ ومن ثم فإن هذه الأسرة ستعمل وبذلك تقل البطالة إلى حد ما من جهة وتجني الأسرة الربح من جهة أخرى. أفكاره: "الله والإنسان" حين صدر كتاب بهذا العنوان حدثت ضجّة كبيرة، فالبعض قد اعتبر كاتبه كاتب موهوب سيسير على طريق الفكر والعلم، والبعض رأى أنه كاتب ملحد. وكان مصطفى محمود لديه تفسير لتضارب الآراء التي حدثت على هذا الكتاب، فيقول: "بعد أن تخطيت مرحلة الشك ووصلت إلى الإيمان واليقين واجهت أخطائي بشجاعة لإيماني بأن الاعتراف بالخطأ صدق مع النفس وإيمانًا بهذه المبادئ، وكان إصراري الشديد على أن يُحذف هذا الكتاب بعد ذلك من مجموعة أعمالي الأدبية والكتابية، ولكن كنت أحدّث نفسي، كم أمر بكل هذه التجارب الصعبة دون أن أقّصها على الناس ليستفيدوا منها ويتجنبوا الأخطاء". وأكمل محمود: "جاءتني الفكرة في إعادة طباعة كتاب الله والإنسان ولكن بعد أن أجريت تعديلات عليه تؤهلّه للنشر، وبالفعل صدر تحت مسمى حوار مع صديقى الملحد ولاقى إعجاب الكثيرون، ولكن لأن بعض أصحاب العمائم استهوتهم مشاغبتى فنادوا من فوق منابرهم بأن ذلك الكتاب تصريح مني بالكفر وأن ذلك الصديق الملحد كان هو أنا أيام الإلحاد ورحلة البحث، ولكن كانت أعيرتهم فشنك ولم يستمع لهم أحد من الشارع المصري والعربي أو المسئولين ولم أقدم للمحاكمة كما كانوا يطالبون بحجة دفع المجتمع للإلحاد". "من اليسار إلى اليمين" كثيرًا ما يغيّر الإنسان من أفكاره، ويتحول من مسارٍ إلى مسار ومن ضفة إلى ضفة، وقد مر مصطفى محمود بالتغيير بكل ما يملك من بعنفوان فيقول : " لأني تعرضت من اليسار في ذلك الوقت إلى إغراءات كثيرة خاصةً بعد كتابي الأول "الله والإنسان"، فقد كانت التنظيمات اليسارية إذا صادفت كاتبًا يميل ولو من بعيد إلى أفكارها فكانت تحاول استقطابه؛ لكي يعمل معها؛ فحين صدر هذا الكتاب في البداية فوجئت بدكتور محمود أمين العالم يكتب مقالًا يمجّد فيه بظهور كاتب موهوب مُجدّ هو شخصي، ولأني قلت ما يريدون نصّبوني زعيمًا، وعندما عدلت وعرفت الطريق الصحيح كاد هؤلاء الناس أن يفتكوا بي، واتهموني بالردّة الاجتماعية والنكسة الفكرية، وهذا يدل على أنهم ليسوا مخلصين بالمرة، وأنهم يكيلون بمكيالين وليس لديهم مكيال واحد للعدل . " "الإلحاد والتأثر بالمادية" حين يذكر اسم مصطفى محمود تذكر معه كلمة كلمة "ملحد" لكنه يدفع عن نفسه هذه الكلمة قائلًا "أنا طوال عمرى ما شككت فى وجود الله سبحانه وتعالى وأنه الواحد القهّار، ولم ينتابنى الشك أبدًا في القدرة الآلهية وأنها تدير هذا الكون الكبير من حولنا وأن هذا الكون باتساعه الكبير هو خير برهان ودليل على وجود الخالق الأعظم، فهو يثبت ويبرهن بل يهتف (لا اله إلا الله محمد رسول الله)". ولكن أصابه الشك في أمور أخرى، فيقول:" الشك كان في مسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار والجنة والنار ونوع الخلق وشكله ومظهره، وكان رجال الدين يعتبرون أن مجرد التفكير في مثل هذه المسائل هو الكفر بعينه، وأنا لم أكن كافرًا". فالشك لديه كان في أمور نسبية أخرى غيرالإلحاد، وإن كان مؤمنًا بالمادية وتأثر بها كثيرًا فيقول: "في شبابي كان تيار المادية هو السائد، وكان المثقفون يرفضون الغيبيات؛ فكان من الطبيعى أن أتأثر بمن حولي". وكانت للمادية أثرًا كبيرًا في تكوين شكّه ووصوله إلى اليقين، فيقول عن نفسه:" لقد مررت بكل المراحل الفكرية من الشك إلى اليقين، من الإلحاد إلى أن أصبحت خادم كلمة التوحيد".