بين الحقول الممتدة بريف "دسوق" بمحافظة "كفر الشيخ" انساب صوت الفنان محمد رشدى موالًا للسواقى، وأنشودةً لأولاد البلد، على ضفاف الترع وبين أحضان النخيل وظلال الأشجار، وصدح صوته الشجى مرددًا أغنيات وأناشيد الموالد التى تربى عليها، فى رحاب مقام العارف بالله "إبراهيم الدسوقي" وظلت مواويله محملة بعبق الفن الشعبي الأصيل، تحاكى ما سبق أن استمع إليه من كبار "الصييتة" الذين يتوافدون إلى قريته، أو يسعى للاستماع إليهم مع والده بالقرى المجاورة فى ليالى السمر، فتأثر بتلك الأجواء التى شكلت وجدانه، وعشق أبناء قريته صوته المتفرد، إلى أن شق لنفسه طريقًا يخصه وحده فى عالم الغناء. اسمه محمد محمد بن عبد الرحمن الراجحى، ولد فى 20 يوليو 1928، لأسرة فقيرة يعمل عائلها بصناعة "الطوب" وكانت أغلى أمنياته أن يساعده فى العمل والتفرغ لحساباته ومتابعة العمال، لكونه الابن الوحيد والأكبر لثلاث شقيقات، ولكنه آثر التعلم بكتاب القرية، كما حصل على الابتدائية القديمة، وورث حلاوة الصوت عن أمه، وحفظ عشرات المواويل التى ترددها أثناء قيامها بأعمال المنزل، ونظرًا لعدم وجود "راديو" فى بيته تردد على مقهى مجاور، وأحد أكشاك بيع السجائر للاستماع إلى أغنيات أم كلثوم وفتحية أحمد وملك ونجاة على، وأفتتن بصوت "ليلى مراد" والثورة النغمية المتجددة فى موسيقى ألحانها، وكان حريصًا على حضور حفلات أفلامها بسينما "دسوق" ويعيد تجميع التذاكر التى سبق الدخول بها ليراها مرات عديدة، وتشاء الأقدار أن يسكن فى العمارة التى تسكنها فى مستهل شهرته فيصفها ب "بنت البلد" الشيك. تصادف أن أقام "فريد باشا زعلوك" ابن عمدة دسوق حفلًا كبيرًا أحيته "أم كلثوم" بمناسبة حصوله على عضوية البرلمان قبل منتصف الأربعينات، وكان من أشد الناس إعجابًا بصوت محمد رشدى فقدمه لأم كلثوم، فغنى مقطعًا من أغنيتها الجديدة "أنا فى انتظارك" وحينما سألته المزيد، غنى لنور الهدى: "يا أتوموبيل يا جميل محلاك" ولكنه نطقها " يا أطمبيل يا جميل" فقالت له فى دعابة، قل: "يا أتوموبيل.. يا فلاح" وتحمست لغنائه وشخصية صوته فقالت" "الواد ده خسارة.. وضرورى يسافر مصر" وفى القاهرة سجل فريد باشا اسمه للاختبار بمعهد فؤاد للموسيقى، وتم قبوله بالمعهد، وأقام فى "لوكاندة" بحى الأزهر، ثم فى حجرة بحى "باب الشعرية" فى بئر السلم، يقول رشدي: "كنت أنام بدون عشاء وأخفى ذلك عن أسرتى، على أمل أن أثبت ذاتى وأحقق حلمي". وكان أحد أبناء قريته يشيع أن علاقة قوية تربطه بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وحين ذهب رشدى للقائه تبين أنه يعمل ساعيًا بمكتبه، وانتظر أن يعرفه بعبد الوهاب ولم يفعل، وظل يتردد على مكتب عبد الوهاب لفترة طويلة ويستمع إلى بروفاته دون أن يراه، ويردد أحدث أغنياته مع فرق صغيرة من الهواة، إلى أن عرف عبد الوهاب أن هناك من يسرب ألحانه قبل إذاعتها، فطرده بعد أن سمعه يدندن أحد ألحانه فى حمام المكتب، وانتظر رشدى إلى أن غادر عبد الوهاب مكتبه وطلب من بلدياته أن يرى غرفة الموسيقار، والتقط من سلة القمامة ورقة ممزقة بها كلمات أغنية "سامع وساكت ليه" لحسين طنطاوى، وتشاء الأقدار أن يستمع إليه الإذاعى "على فايق زغلول" فى حفل صغير بمعهد فؤاد، فقدم له باختبارات الإذاعة، وأمام اللجنة المكونة من "أم كلثوم، عبد الوهاب، محمد القصبجى، محمود إسماعيل، حافظ عبد الوهاب" غنى تلك الأغنية التى أخذها من سلة مهملات عبد الوهاب، بعد أن لحنها لنفسه، وسمحت له اللجنة أن يغنى خمس عشرة دقيقة كل أسبوعين، وتقاضى أجرًا قدره 17 جنيهًا، كعبد الحليم حافظ الذى أجازته اللجنة ذاتها، والذى وصفه بالمؤسسة الفنية وفارس الأغنية العاطفية وأن "صوته كان رائعًا يبكينى ويشجينى بدقة الكلمات والألحان". بعد أن لحن وغنى "قولوا لمأذون البلد" غيَّر مساره إلى الغناء الشعبى، ونجح فى ظل وجود محمد عبد المطلب ومحمد الكحلاوى وعبد العزيز محمود وعبد الغنى السيد ومحمد قنديل وشفيق جلال، وتصادف أن حددت له الإذاعة موعدًا لتسجيل أغنية جديدة فى الثامنة والنصف صباح يوم 23 يوليو 1952، ونظرًا لقيام الثورة تم منعه والفرقة الماسية من الدخول، ولكنه أصر أن يدخل رغم الدبابات والحراسات، وقال له مسئول الجيش هل لديك أغنيات وطنية؟ فقال لا، قال ألست مطرب "قولوا لمأذون البلد"؟ قال نعم، قال: إذن ادخل وغنها فنحن فى يوم فرح لمصر كلها، فتجدد نجاح الأغنية بشكل مهول، وعلى الرغم من إصابته فى حادث سير كاد يودى بحياته عهدت إليه الإذاعة بغناء ملحمة "أدهم الشرقاوي" ولحن وغنى 84 موالًا، فذاعت شهرته بشكل غير مسبوق، وفى مكتب محمد حسن الشجاعى مسؤول الغناء والموسيقى بالإذاعة التقى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وتغنى بكلماته وألحان عبد العظيم عبد الحق "تحت الشجر يا وهيبة" فسطع نجمه فى سماء الغناء الشعبي، وأوصى وزير الإعلام عبد القادر حاتم بتسجيل أغنياته ودعمه والاهتمام به نظرًا للنجاح الساحق الذى حققته الأغنية، فى تلك الأثناء عدل رشدى عن شراء سيارة "فيات 1100" بالتقسيط، واشترى سيارة ألمانية الصنع من طراز "تاونس" Taunus بلغ ثمنها 650 جنيهًا قصد بها قريته للقاء الأهل والخلان، وإدخال السرور إلى قلب والده، وتبقى سيارته المفضلة تلك التى اشتراها فى مطلع الثمانينات من طراز "أوبل" بلونها الذهبى الفاتن. مع بليغ حمدي مضى من نجاح إلى نجاح فبعد "بلديات، وسع للنور، الواد م البحر الأحمر" جاءت "عدوية" بنجاحها المدوى، وبفضلها جاب أرجاء المعمورة، وقدما معًا عشرات الألحان، أبرزها: "بناديلك، شباكك عالى، بيتنا الصغير، ما على العاشق ملام، لو عديت، الخيزرانة، طاير يا هوى، ع الرملة، مغرم صبابة، ميتى أشوفك، آه يا ليل يا قمر، يا ناعسة، يا عبد الله يا خويا سماح، آهو كده ربك عدِّلها جعلها رضا"، وغنى لكمال الطويل: "أنت مين، يا قمر يا اسكندراني، اختار لك صاحب للزمان، "أنا عينى عليك" وصدح صوته بخلاصة ألحان الموجي: "يا أم الطرحة معطرة، م العين دى حبة" ومع أغنيات "عرباوي، حسن المغنواتي" لحلمى بكر أكد تربعه على عرش الغناء الشعبي، فضلًا عن "يا ليلة ما جانى الغالي" لعبد العظيم محمد، "كعب الغزال" لمنير مراد، واجتذبته السينما فمثل ستة أفلام، وعلى الرغم من ذلك ظل يردد: "زوجتي قالت لى أنت لا تجيد التمثيل.. فآثرت الابتعاد" وعرف بمؤازرته وتشجيعه لنادي الزمالك دون تعصب، فيما كان رحيله فى 2 مايو 2005 بعد صراع طويل مع متاعب الكلى.