الوطن خارطة من لحم ودم.. لحمنا ودمنا نحن.. أما الذين يريدون تحويل الوطن إلى مسابقة للكلمات المتقاطعة، ويتوهمون أن حل ضفائر مصر وإهدار ثرواتها ونهب مواردها عبر قروض لا تُرد ومشروعات وهمية والاستيلاء على الأراضى بالقوة وأعمال السمسرة وسياسة قبول الهدايا والرشى، تمنحهم القوة والنفوذ والقصور والحسابات المصرفية فى الخارج، فإنهم ليسوا سوى لعبة ودمية يتم استخدامها لفترة، وتهديدها تارة والتلاعب بها تارة أخرى، قبل التخلص منها والكشف عن فسادها فى الوقت المناسب. الأكيد أن مصر فى ثورة 25 يناير 2011، نفضت عن المصريين تهمة الانتماء إلى كتيبة «أبناء الصمت»، ليبدأ المجتمع رحلة استعادة روحه المغيّبة وكرامته المهدرة وحرياته المنتهكة. يكفى أن تلك الثورة العظيمة نبهت الجميع إلى أن شعب مصر يملك قوة التغيير، وأن النظام الحاكم ليس بالتماسك أو الصلابة التى توحى بها مظاهر استعراض القوة، وهو ما ثبت بشكل قاطع فى ثورة 30 يونيو 2012. الآن، وقد حان وقت العمل والأمل، فإن من أولويات العمل التى نحسبها مهمة، إعادة الاعتبار إلى قيمة القانون التى تراجعت وأهدرت فى عهود سابقة، عبر سن عدد من القوانين والتشريعات التى تمكن من محاسبة الفاسدين وعودة الحقوق إلى الشعب وفض الاشتباك بين السلطة والثروة، ومنها قانون محاكمة الوزراء وقانون عدم تعارض المصالح، بالإضافة إلى تفعيل القوانين القائمة، والتى تم تجميدها من قِبل أنظمة سابقة للتستر على عدد من الفاسدين. ونحن لا نتجاوز الحقيقة حين نقول إن القوانين الموجودة حاليا مليئة بالثغرات لحماية الخاصة من المقربين من النظام، ومنها قوانين: الرقابة الإدارية، وحماية المستهلك، ومنع الاحتكار، ومن أين لك هذا. إن اختفاء قانون «من أين لك هذا» خلال العقود الأخيرة أفرز نوعًا من عدم المحاسبة أو المساءلة بشكل عام على مستوى جميع قطاعات وهيئات ووزارات الدولة، حتى بدا أن اختفاء المساءلة أو غض الطرف عنها هو نوع من مباركة تلك الأنظمة لانتشار الفساد. ومن الأهمية بمكانٍ تسريعُ وتيرة التحقيقات فى قضايا الفساد المتورط فيها رموز عهد مبارك ومن تلاه، ممن أساؤوا استغلال نفوذهم، وإحالتهم إلى محاكمات علنية عادلة لتقضى بالحق والحقيقة. فى تقديرنا أنه فى هذه المرحلة من عمر مصر، أصبح لزامًا على جميع المسؤولين -خصوصًا الوزراء والنواب ورؤساء المجالس الشعبية والمحلية والجامعات- الالتزام بتقديم الإقرارات الضريبية والذمة المالية سنويا، بما يحدد ثروات المسؤولين والتغيرات التى تطرأ عليها من عام إلى آخر وتبريرات أى زيادة فى تلك الثروات. إن قانون العقوبات المصرى ينظم ما يتضمن ردع الفاسدين ممن يعتدون على المال العام فى الباب الرابع من الكتاب الثانى منه، حيث نصت المادة «112» على أن «كل موظف عام اختلس أموالاً أو أوراقًا أو غيرها وجدت فى حيازته بسبب وظيفته يعاقب بالسجن المشدد»، ويشترط هنا أن يكون المال فى حيازة الجانى، أى تحت تصرفه وله صفة المال العام. ونصت المادة «113» على أن «كل موظف عام استولى بغير حق على مال أو أوراق أو غيرها لإحدى الجهات.. أو سهَّل ذلك لغيره بأية طريقةٍ كانت يعاقب بالسجن المشدد»، وهنا لا يشترط أن يكون المال فى حيازة الجانى، بل يكفى أن يكون من المال العام واستولى عليه لنفسه أو سهَّل ذلك للغير. وطبيعة الموظف العام والمال العام هى ما تميز جرائم العدوان على المال العام عن جرائم السرقة المؤثَّمة بقانون العقوبات بالمادة «311» إذ إن «كل من اختلس منقولاً مملوكًا لغيره فهو سارق»: المادة «26» التى تقوم معها الجريمة على المال الخاص، إلا ما استثنى القانون بنصٍّ خاص. ونصت المادة رقم «115» عقوبات على أن «كل موظف عام حصل أو حاول أن يحصل لنفسه أو حصل أو حاول أن يحصل لغيره بدون حق على ربح أو منفعة من عمل من أعمال وظيفته يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة». وكانت علة المشرع هنا أن جرائم العدوان على المال العام لا ترجع إلى قصور التشريع بقدر ما ترجع إلى قصور التنظيم والرقابة المستمرة، وما يستتبع ذلك من مجابهة الجرائم المستحدثة أو إضافة بعض الظروف الموجبة للتشديد لجريمة التربح من موظف عام التى نحن بصددها، وسواء حصل الموظف لنفسه على الربح أو حاول الحصول على أىٍّ منها بطريق مباشر أو غير مباشر. ونصت المادة «116» من قانون العقوبات على أن «إخلال الموظف عمدًا فى توزيع سلعة عهد إليه بتوزيعها وفق نظام معين فأخل بنظام توزيعها، وكانت متعلقة بقوت الشعب واحتياجاته يعاقب بالسجن». ونصت المادة «116» مكرر على أن «كل موظف عام أضر بأموال أو مصالح الجهة التى يعمل بها أو يتصل بها بحكم عمله.. يعاقب بالسجن المشدد». وغاية المشرع فى هاتين المادتين هى الإضرار العمدى من الموظف العام. ونصت المادة «116» مكرر بند «أ» على أنه «كل موظف عام تسبب بخطأ فى إلحاق ضرر جسيم بأموال أو مصالح الجهة التى يعمل بها أو بأموال الغير.. يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد عن 6 سنوات إذا ترتب على ذلك إضرار بمركز البلاد الاقتصادى أو بمصلحة قومية لها...». وغاية المشرع فى تلك المادة هى الإضرار بإهمال من موظف عام. كما نصت المادة «118» على أنه وفضلاً عن تلك العقوبات، يحكم بالرد وبغرامةٍ مساوية لقيمة ما اختلسه أو استولى عليه. ومن ثم، فجميع العقوبات مشمولة بالسجن والرد وغرامة مساوية للمال الذى تم العدوان عليه. لدينا القوانين.. بقى أن ننفذها بشفافية وحزم.