فى القصة الشهيرة التى توارثناها عن الغرب تقع ذات الرداء الأحمر ضحية لخداع الذئب المكار الذى ينجح فى التهامها هى وجدتها المريضة، إلى أن يأتى الحطّاب الشجاع وينقذهما بفأسه. أما فى القصة التى كتبها الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى القرن العشرين فإن الفتاة الصغيرة «نور» لم تنخدع لأنها تعرف الحكاية القديمة جيدا، فهى تهزم الذئب بقوة المعرفة ليعود ذليلا للغابة لا يملك سوى أن يحكى أساطير كاذبة عن مكره وذكائه الذى لا ينهزم. أما سندريللا المسيرى، فهى مثقفة ولا تتزوج الأمير إلا بعد إتمام دراستها بالجامعة. هكذا مارس المسيرى الاحتجاج الثقافى ضد النصوصية المتلقاة فى كتابته لقصص الأطفال التى يجب اعتبارها امتدادا لمشروعه الفكرى العام وليست مجرد هواية جانبية أو استراحة فنية. فقد بدأ المسيرى فى التأليف للأطفال فى السبعينيات حين رزق بابنته نور ثم ولده ياسر أثناء إقامته وزوجته بالولاياتالمتحدة، فقام بابتكار شخصية «الجمل ظريف» استجابة لفزعه على حد تعبيره من النموذج الاستهلاكى الفج الذى تجسده العروسة الأمريكية «باربى» ورغبته فى إيجاد بديل عربى للدب الصغير «تيدى بير» المرتبط بالبيئة الطبيعية الأمريكية. وليس مصادفة أن عقد السبعينيات هو الذى شهد ظهور التيّارات الفكرية الناقدة للتبعية الثقافية، ورفض المركزية الأوروبية، وتحليل لعلاقة الإمبريالية بالثقافة والتى عبّر عنها إدوارد سعيد. «وقد التقى به المسيرى قبل ذلك بسنوات فى بداية بعثته لدراسة الماجستير بجامعة كولومبيا». ثم دخل المسيرى فى نهاية التسعينيات مرحلة ثانية من التأليف للأطفال بشكل أكثر انتظاما وتركيزا، وهى التى أنتج فيها معظم كتاباته المنشورة للطفل حاليا وتضم حكاية نور والذئب السابق الإشارة إليها. وحين نقارن بين استجابة المسيرى الأولى للتحيز الغربى الكامن فى قصص الأطفال ولعبهم والتى تمثلت فى هجرته للنموذج الغربى وبحثه عن بديل آخر من التراث العربى (الجمل بدلا من الدب) وبين مؤلفاته اللاحقة، نجد أنها تعكس تطورا كبيرا فى تفاعله الفكرى مع الحضارة والثقافة الغربية. فخلافا لموقفه الدفاعى الأولى الذى يشبه دعوات الانفصال الثقافى عن الغرب قدم الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى مؤلفاته الأخيرة للأطفال نمطا من المقاومة الفكرية للتحيزات الغربية أكثر نضجا وإبداعا واشتباكا. فقد اختار القصص الخيالية الكلاسيكية الغربية شديدة الانتشار والشيوع «وبالتالى شديدة الهيمنة» لتكون ساحة للعب والتحدى والتغيير. وحسب تعبيره «نلعب بها لأنها ليست نصوصا مقدسة، ولا نتجاهلها أيضا، بل نطورها وندخل عليها رموزنا فتصبح أقرب لنا ونشعر بقدرتنا على التغيير». هذا «اللعب» يقول عنه العالم السوسيولوجى جون فيسك إنه أكثر فاعلية من النقد، لأنه يتضمن حرية التحكم فى المعانى وحرية صناعاتها وبالتالى فإن «امتلاك ناصية الحكى» تعتبر أداة تمكين «معرفى وسياسى» مهمة. وعملية التأليف للأطفال لدى الدكتور المسيرى لم تكن تعنى تدوين القصص التى يكتبها فقط، بل إن الحكى ومشاركة الأطفال فى الحكى هو أهم ما يميز هذه الممارسة الإبداعية الإنسانية من وجهة نظره. فقد كان يحكى لطفليه «ثم حفيده نديم» القصص التى يؤلفها لتحقيق التواصل الإنسانى الحميم بينهم، كما كان يطلب منهم مشاركتهم له فى التأليف ويتابع خيالهم باندهاش واستمتاع. وفى قصة «ما هى النهاية؟» نجد ثلاث نهايات مختلفة لقصة واحدة جاءت بهذه الطريقة. وقد قال المسيرى إن هذه الممارسة «تعطى حرية الإرادة للطفل وتشغل إدراكه ووعيه». إن المسيرى كان متابعا ومتذوقا لمختلف أشكال الإنتاج الفنى العالمى، ولم يمنعه اتجاهه الإيمانى الواضح واختياره للمنظور الإسلامى كإطار تفسيرى شامل من الإعجاب والتواصل مع الخيال الفنى والقيم الإنسانية والجمالية فى السينما الأمريكية والرسم اللاتينى والشعر الإنجليزى. ولن أنسى أبدا يوم أن شاهدنا معه فى منزله (أنا ومجموعة من شباب تلاميذ الدكتور المسيرى) الفيلم الأمريكى «الأمير الصغير» المقتبس عن القصة الرائعة للكاتب الفرنسى أنطون دى سان أكزوبرى التى كتبها للأطفال ثم أصبحت نصا أدبيا كلاسيكيا لما تحتوى عليه من فلسفة بسيطة وعميقة فى ذات الوقت شأن معظم قصص الأطفال الجيدة. وكان «رحمه الله» يتوقف عند بعض المشاهد ويتناقش معنا فى معانيها الإنسانية والفلسفية فى صورة أخرى من تواصله الإنسانى المباشر مع العديد من شباب الباحثين. لقد ترك لنا المسيرى عددا من القصص الخيالية التى كتبها للأطفال لنقرأها مرة أو مرّات. ولو كان أديبا فحسب كُنا سنكتفى بذلك، ولكن لأنه كان عالما ومعلما فقد ترك لنا إلى جانب قصصه منهجا مبتكرا فى التفكير والتأليف للطفل، وفى التواصل معه وتنشئته على الاستقلال الفكرى وممارسة الاختيار والإرادة الحرة. ولا يمكن النظر إلى هذا المنهج الذى يرفض التلقى الخامل ويدعو للقراءة النشطة بمعزل عن رحلة المسيرى فى مقاومة الأشكال المختلفة للهيمنة الفكرية والسياسية. كان رحمه الله له طرقه المتفردة فى إقامة المراثى. فقد دعانى هو وزوجته الدكتورة هدى ذات مرة إلى مشاهدة مسرحية غنائية فى لندن، وحين اعتذرت عن الدعوة بسبب حزنى على وفاة والدى رحمه الله روى لى كيف أنه رثى والده وهو فى الولاياتالمتحدة بحضور مسرحية لبريخت تذكره به، ورثى وفاة والدته بالذهاب إلى العطار وشراء الأعشاب الطبية التى كانت تحبها. فلنرثيه اليوم فى ذكراه الأولى على طريقته: بقراءة قصة جميلة لطفل عزيز.