نعيش حاليا إحدى تلك الفترات التاريخية النادرة التى تتميز بتحول الهيمنة العالمية من قوة عظمى إلى أخرى. وكان آخر تحول من هذا النوع فى الفترة بين 1931 و1945، التى شهدت نهاية الهيمنة المالية البريطانية وحلت محلها الهيمنة الأمريكية. وربما يقال إن الحرب الباردة تمثل فترة مشابهة، غير أن هذا القول يحوى مغالطة كبيرة. فالحرب الباردة كانت صراعا أيديولوجيا بين قوتين ليس هناك أى احتمال لاتفاقهما. أما الفترة الجديدة فتتميز باتجاه صعود الصين وهبوط الولاياتالمتحدة. ويمكن القول إن هذه العملية بدأت قبل حوالى عشر سنوات، ولكن فى ذلك الوقت كانت العملية ملحوظة بالكاد، مع انشغال الغرب بأحداث الحادى عشر من سبتمبر وتداعياتها. والواقع أن إدارة بوش كانت تفكر بطريقة عكسية تماما وهى أن العالم بسبيله لدخول عصر السلطة الكونية الأمريكية الذهبى. غير أن الأنسب أن نؤرخ بداية هذه الحقبة الجديدة بعام 2008. أولا: جاء انتخاب أوباما إيذانا باعتراف الولاياتالمتحدة بمحدودية قوتها وحاجتها للتعاون مع الأمم الأخرى. وثانيا: بلغت الصين نقطة، من الواضح فيها أنها متأهبة بناء على ما حققته من تقدم فى العقود الثلاثة الماضية لمواصلة دور عالمى أكثر نشاطا. وثالثا: وفرت بداية الأزمة المالية العالمية السياق لتراجع الولاياتالمتحدة كالقوة الاقتصادية العالمية، لتظهر إلى أى مدى أصبحت تعتمد على الصين لمواصلة هيمنتها المالية العالمية. وتتسم مثل هذه الفترات الانتقالية بالاضطراب الحاد، والغموض الشديد، كما تكون محفوفة بالمخاطر. ويعتبر العالم محظوظا، فى الوقت الحالى على الأقل لأن لديه رئيسا أمريكيا هو أوباما، على استعداد لاتخاذ موقف تصالحى، ومتقبل، تجاه تراجع أمريكا، ولديه قيادة صينية، متحفظة على نحو بالغ بشأن إبداء الرأى، ناهيك عن استعراض عضلاتها. ومع ذلك، فالصورة تتغير على نحو سريع. صحيح أن هذا العام شهد بالفعل تغييرا ملحوظا فى التوجهات الصينية. فمنذ عصر دينج شياو بنج، اعتمد نهج الصين على مبدأ «تاو هوانج يانجهوى» بمعنى أن يخفى المرء قدراته انتظارا للوقت المناسب له. وتشير تصريحات ومبادرات صينية متتالية إلى أن الصين الآن دخلت مرحلة جديدة. وأعرب رئيس مجلس الدولة وين جيا باو فى منتدى «بواو» الذى انعقد فى مدينة هاينان يوم السبت، عن ثقته فى أن الصين تفادت بنجاح تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية. كما أوضح خلال زيارته لأوروبا لحضور مؤتمر دافوس فى الشتاء الماضى، أن السياسة الاقتصادية الغربية المتهورة، خصوصا سياسة الولاياتالمتحدة، مسئولة عن حدوث هذه الأزمة. كما أعلن أن الصين لن تقدم أموالا لصندوق النقد الدولى ما لم يخضع لعملية إصلاح رئيسية وهيكلية. وفيما بعد، أعرب عن قلقه العميق، بشأن السياسة المالية الأمريكية، وأثرها على الدولار، وطالب بتطمينات تؤكد أن قيمة سندات الخزانة الأمريكية التى تمتلكها الصين لن تتأثر. وخلال فترة الإعداد لمؤتمر قمة العشرين، طرح وانج كيشان، نائب رئيس مجلس الدولة، رؤية لنظام نقدى جديد، بينما دعا محافظ بنك الصين المركزى جو زياو شوان فى أكثر الرؤى إثارة إلى عملة عالمية جديدة تعتمد على استخدام حقوق السحب الخاصة التابعة لصندوق النقد الدولى، وهى الفكرة التى رفضتها الولاياتالمتحدة من أساسها. وفى نفس الوقت، طالب اجتماع سبق قمة العشرين لوزراء المالية ومحافظى البنوك المركزية من الصين، والهند، وروسيا، والبرازيل، (دول البريك) بحقوق تصويت أكبر للبلدان النامية فى المنظمات المالية الدولية. وتجد مثل هذه التأكيدات أشكال تعبير أخرى فى المجتمع الصينى. فيرى كتاب جديد، أصدره خمسة مؤلفين قوميين بعنوان «الصين التعيسة»، أن الصين ليس لديها خيار سوى أن تصبح قوة عظمى. وقد قفز الكتاب الذى صدر فى مارس إلى قمة قائمة الكتب الأكثر مبيعا. وهناك أيضا جدل عام مكثف، حول ما إذا كانت بكين سوف تواصل شراء سندات الخزانة الأمريكية، خاصة مع الوضع فى الاعتبار الانخفاض الحاد فى أسعار فائدتها. ويتضح بجلاء الآن أن الصين مستعدة للقيام بدور نشط ومشارك فى الشئون المالية الدولية. ونظرا لوجود الأزمة المالية العالمية على قمة جميع الأجندات، وأن إصلاح النظام المالى العالمى القائم صار أمرا محتما، فسوف يكون لذلك مضامين بعيدة المدى، إذ سوف تكون الصين لاعبا رئيسيا فى أى تنظيم ينشأ عن الأزمة الحالية. ويمثل هذا تغييرا استثنائيا، حتى بالمقارنة مع الوضع قبل عامين، ناهيك عنه قبل خمس سنوات، عندما لم تكن الصين متضمنة فى أى مناقشة لمثل هذه الأمور. كما أنه أيضا ذو أهمية واسعة النطاق. وسوف يكون لصعود الصين وتراجع الولاياتالمتحدة أثر ساحق على الساحة المالية والاقتصادية. وقد أظهرت الصين الآن أنها تعتزم أن تصبح مشاركا كاملا فى هذه العملية. وليس من الصعب توقع بعض التداعيات المحتملة، إذ سوف تحل مجموعة العشرين فعليا الآن محل مجموعة الثمانى، وسوف يخضع كل من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للإصلاح، مع اكتساب البلدان النامية نفوذا أكبر. وأكثر الاقتراحات جرأة حتى الآن هو الذى طرحته بكين ولم يكن متوقعا على الإطلاق تقريبا وهو الخاص بإصدار عملة عالمية جديدة، ربما تحل فى الوقت المناسب محل الدولار كعملة احتياط عالمية. وسواء رأى هذا الاقتراح النور أم لا، أو لم يتم الأخذ به، فهو على أى حال يجعلنا نبصر الفكر المالى الاستراتيجى الذى يوضح نهج الحكومة الصينية، إذا وضعنا فى الاعتبار أن عملات الاحتياط اعتمدت دائما على دولة قوية ذات سيادة. ومن الواضح أنهم يدركون أن أيام الدولار كعملة عالمية مهيمنة صارت معدودة. وهذا أيضا، بالمناسبة، مؤشر على نهاية نيويورك كمركز مالى عالمى. ولكن هذا جانب واحد للصورة. وعلى الجانب الآخر، هناك الدور المتزايد للعملة الصينية، اليوان، الذى لم يحظ حتى الآن باهتمام يذكر. وعلى الرغم من أن اليوان مازال غير قابل للتحويل، فمن الواضح أن الصينيين يسعون بشدة لمنحه دورا فاعلا ومؤثرا على الاقتصاد الدولى. وقد أجرت الحكومة الصينية مؤخرا عددا من مقايضات العملة مع شركاء تجاريين مهمين، من بينهم كوريا الجنوبية، والأرجنتين وإندونيسيا، ووسعت بذلك نطاق استخدام عملتها خارج حدودها الوطنية. كما أنها بصدد اتخاذ خطوات لتدعيم دور اليوان فى هونج كونج. وهو تحرك مهم نظرا للوضع الاقتصادى للأخيرة. وبالإضافة لذلك، أعلنت الحكومة اعتزامها جعل شنغهاى مركزا ماليا عالميا بحلول 2020. وهكذا، ربما لا يكون من الصعب توقع الاتجاهات المحتملة فى الأجل الطويل، غير أنه يصعب بالتأكيد التنبؤ بما سيحدث فى الأجل القصير، فى سياق المناخ المالى شديد التقلب. وتظل قوة الدولار خلال العامين السابقين نوعا من الشذوذ، إذا وضعنا فى الاعتبار الحالة المفجعة للنظام المالى الأمريكى. وسيكون شجاعا من يراهن على استمرار قوة الدولار؛ فالأرجح، فى الواقع،أن قيمته ستنهار عند نقطة معينة. وإذا حدث ذلك، سوف ينهار الوضع العالمى للدولار بسرعة، وستكون الحاجة لتطبيق إصلاحات مالية عالمية أكثر إلحاحا. ولن يؤدى كل هذا إلا إلى التعجيل بأفول الولاياتالمتحدة وصعود الصين. GUARDIAN NEWS SERVICE