في مقالة بعنوان "ميزة أمريكا .. القوة في قرن شبكي" نشر في مجلة الشئون الخارجية 2009 مقالة مطولة تقول فيها آن ماري سلوتر: إنه طوال معظم التاريخ الحديث، وضعت الرؤية الأوروبية المركزية للعالم أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية داخل نصف كرة أرضية خاص بهما، هو نصف الكرة الأرضية الغربي . واليوم باتت خريطة العالم دائرية مع وجود آسيا شرقا، وأفريقيا والأمريكتين وأوروبا غربا . هذا علي الأقل ما يعتقده بعض الأسيويين بشكل متزايد عن أنفسهم . وفي كتابه "نصف الكرة الأرضية الآسيوي الجديد: تحول لا يقاوم للقوة العالمية صوب الشرق " يقول محبوباني إن حقبة الهيمنة الغربية علي تاريخ العالم قد انتهت، وأن العالم يشهد مسيرة آسيوية نحو الحداثة . وأيا ما كانت مساحات التعدد في وجهات النظر بين منظري الشرق والغرب، بشأن مستقبل الهيمنة الأمريكية، وتحولات القوة والنفوذ في عالم اليوم ، فإنه علي الصعيد الجيو - سياسي، تواجه الولاياتالمتحدة عدة تحديات متشابكة، منها التعقيد الاستراتيجي للشرق الأوسط الكبير، والصراعات من أجل النفوذ في الجزء الجنوبي من الاتحاد السوفييتي السابق، والحضور المتنامي للهند والصين في المحيط الهندي، وفي التقديرات الأمريكية، فإن صعود دولة مثل الصين، كمنافس قوي للولايات المتحدة، ليس علي درجة خطورة دولة مثل إيران، أما الهند فهي حليف يسعي للنمو، ويعتبر صعود الأسطول الهندي، ليكون ثالث أكبر أسطول بعد أسطولي الولاياتالمتحدة والصين، هو بمثابة حاجز صد، يخفف من التوسع العسكري الصيني. إن قصة التحدي والمنافسة، هي الحقيقة المنطقية والدائمة التي واكبت كل الإمبراطوريات علي مدي التاريخ، وهو الواقع الذي يواجه أيضا الهيمنة العالمية الأمريكية حاليا ، ولكن هل ثمة "مشكلات " تواجه القوة الأمريكية، وتؤثر علي مركزها العالمي؟ بعبارة أخري، هل أصبحت تكلفة "القوة" الأمريكية أكبر من احتمالها بحيث بدأت تأتي بالعكس؟ إن الجيش الأمريكي ينشر ما مجموعه 267000 جندي أمريكي في أكثر من 100 دولة حول العالم، وذلك وفقا لعدد من الاتفاقيات، بعضها علنية،وأغلبيتها سرية، لتنظيم وجود القوات الأمريكية، ويتراوح عدد هذه الاتفاقيات ما بين 80 115 اتفاقية دولية . ويبقي السؤال .. علي أي أساس تجري حاليا " تحولات " القوة والهيمنة والنفوذ في الساحة العالمية في القرن الواحد والعشرين ؟ وما هي مشكلات " القوة " الأمريكية وعناصر هذه القوة، والتوقعات بشأنها علي وجه التحديد؟ قلق العقد القادم انتصرت الولاياتالمتحدة في الحرب الباردة، وتخطت هجمات 11 سبتمبر، ولكن الضعف الاقتصادي الآن يهدد نفوذها العالمي . هذه حقيقة لم يعد في إمكان أكثر الأمريكيين تفاؤلا إنكارها، كما لم تعد المسألة أن هناك من يتمنون سقوط وانهيار أمريكا لأسباب سياسية أو أيديولوجية، ذلك أن أمر الأزمة الاقتصادية هو في الأصل أعقد مما يبدو في التحليلات المبسطة . ومن بدهيات الموقف، كما يبدو حاليا علي الساحة العالمية، فإنه عندما تتأثر قوة عظمي، تحت وطأة أزمة مالية مستحكمة، فإن ذلك يؤدي في التحليل النهائي إلي تغييرات في موازين القوة الاقتصادية العالمية برمتها . وفي المعتقد الأمريكي علي وجه الخصوص، فإن بقاءها قوة عظمي، او قوة مهيمنة، او امبراطورية، يبقي رهنا بقدرتها علي إدارة شئونها المالية، الأمر الذي يحدد قدرتها علي الاستمرارفي مركز القوة العسكرية الأولي في العالم . والحقيقة أن قلق الناخبين الأمريكيين بشأن أزمة الديون الأمريكية هو قلق في محله تماما . وكما يفسر ذلك نيل فيرغسون أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب " تعظيم أهمية المال" The Ascent of Money يقول " يبدأ الأمر بتفاقم الديون، وينتهي بتخفيض مطرد في الموارد المتوفرة للجيش وسلاح البحرية، وسلاح الجو، وهكذا تنهار الامبراطوريات "، ويشرح فيرغسون ذلك بأن المسألة تقترن بتخفيض النفقات، ومنها الانفاق العسكري، ووفقا لمكتب الميزانية في الكونجرس، فقد تم التخطيط منذ الآن للحد من الأموال المخصصة للأمن القومي في الميزانية الفيدرالية، وبحسب خطة البنتاجون، يتوقع أن ينخفض الانفاق العسكري من أكثر من 4 % حاليا إلي 2.3% من الناتج المحلي الاجمالي عام 2015، وصولا إلي 6.2% من الناتج المحلي الاجمالي بحلول عام 2028 . ومن المعروف أنه في الوقت الحالي فإن الصين تمتلك 13 % من مجمل سندات الخزينة الحكومية الأمريكية التي يملكها القطاع الخاص، وكانت الصين تشتري ما يقارب 75 % من الاصدارات الشهرية لوزارة الخزانة الأمريكية، فإذا ما استمرت هذه النزعة، فقد يزداد عجز الولاياتالمتحدة ليصل إلي 15 % من الناتج المحلي الاجمالي بحلول عام 2030، وقد تصل قيمة مديونيتها الصافية لبقية العالم إلي 140 % من ناتجها المحلي الاجمالي، وفي هذه الحالة، سيكون علي الولاياتالمتحدة، أن تدفع 7 % من ناتجها المحلي الاجمالي كل سنة علي شكل فائدة لأطراف اجنبية تمتلك ديونها . ووفقا لتقرير أصدرته شركة " رازموسين " فإن 42 % من الأمريكيين يرون أن تخفيض العجز في الولاياتالمتحدة إلي النصف بحلول نهاية الولاية الأولي للرئيس أوباما يجب أن يأتي علي رأس أولويات الإدارة الأمريكية، بينما يري 24 % أن إصلاح نظم الرعاية الصحية لها الأولوية القصوي . والحقيقة أن تخفيض العجز لن يكون كافيا، وإذا لم تتوصل الولاياتالمتحدة إلي خطة مناسبة ومتوازنة لإعادة الميزانية الفيدرالية إلي حالتها الطبيعية، خلال من 5 10 سنوات، فإن الخطر، كما يراه فيرغسون، سيعني تضاؤل قوة أمريكا إلي حد كبير . وعلي الصعيد العام، والمقارن، تبدو الصورة أكثر وضوحا من خلال الدراسة التي أجرتها (كابيتال ايكونومكس ) وفيها أن معدلات نمو الناتج المحلي للولايات المتحدة وأوروبا هذا العام 2010 هي 3.15%، بينما يتوقع أن يرتفع اجمالي الناتج المحلي لأسواق آسيا الناشئة بمعدل 8% في 2010 ، و6% 2011، وستكون الصين في الطليعة، علي نحو غير مفاجئ، وينمو اقتصادها بنسبة 10 % عام 2010، وتتبعها الهند بنسبة 5.8% وتايوان بنسبة 7%، وفيتنام بنسبة 5.7%. هل بدأت امريكا تفقد سحرها؟ يبدو أن المشكلة الجديدة التي أصبحت تواجه " التميز " الأمريكي هي أن دولا أخري تقوم بنشاط أكثر تركيزا، وتغير من أنظمتها وقوانينها، الأمر الذي يجعلها أكثر تنافسية، بالنسبة للولايات المتحدة، وينطبق ذلك علي دول منها سنغافورة، وكوريا الجنوبية، وكندا، والسويد، حتي ليقال إن الولاياتالمتحدة بدأت تتراجع وراء دول أخري في مورد رئيسي هو " رأس المال البشري " . وفي دراسات حديثة عن " الابتكار العالمي " أصدرتها مؤسسات أمريكية، جاء ترتيب أمريكا متأخرا في المرتبة السادسة أو الثامنة، ويفسر البعض ذلك بأن الولاياتالمتحدة لا تعمل علي انتاج القوة العاملة الضرورية في اقتصاد قائم علي المعرفة . وفي مقدمة الظواهر التي أصبحت بارزة للعيان أنه خلال العقدين الماضيين بدأت عدة دول ومناطق تتمتع بميزات مهمة . فأوروبا تنعم بالسلام والرخاء، وتنفق بسخاء علي المشاريع العلمية وزيادة الانتاجية، وتزداد وتيرة وحدتها السياسية . أما الصين، وبعد سنوات قليلة، سيكون 60 % من ناتجها القومي الاجمالي متصلا بالعلوم والتكنولوجيا . ومن الملاحظات الجديرة بالاعتبار أنه مع نهاية الحرب الباردة، عندما توقفت الولاياتالمتحدة عن الشعور بالقلق تجاه الخطر القادم من الاتحاد السوفييتي، فقد تراجع التمويل في مجال الأبحاث وتطوير العلوم التطبيقية بصورة حادة، وتراجعت نسبة الحكومة من هذا التمويل، أما التمويل الذي تقوم به الشركات، فإنه ليس من النوع الذي يقود إلي اكتشافات واختراعات جديدة . ويقول الأستاذان في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد جاري بيسانو، وويلي شيه إنه بالرغم من أن الولاياتالمتحدة لاتزال تنتج ما نسبته 14 % من الخلايا الفوتوفولتية فإنها لم تعد لاعبا مهما في انتاج الشرائح البلورية الشمسية المصنوعة من السيليكون، وهي التي تمثل التقنية المهيمنة في هذه الصناعة اليوم . أما من حيث حقيقة أن الولاياتالمتحدة كانت " قبلة" المهاجرين الأكثر ذكاء في العالم، وأنه خلال الثمانينات كان نحو 75 % من جميع خريجي معهد التقنية الهندي ينتهي بهم الأمر في الولاياتالمتحدة، إلا أنه في السنوات الأخيرة، فإن أقل من 10 % من هؤلاء الخريجين يتجهون إلي امريكا . ويؤكد فريد زكريا أن مشكلة أمريكا أنها " لا تستطيع وقف صعود العالم، وابتكارات الآخرين". المجتمع الأمريكي من وجهة نظر متفائلة حول مستقبل أمريكا، يتم اعتبار التعداد السكاني الأمريكي،والذي يبلغ من 20 30 % من حجم سكان الهند أو الصين، من أهم مميزات المجتمع الأمريكي . وتنبني وجهة النظر هذه علي أساس أن الكثافة السكانية الأقل، تسهل الاستفادة من تكنولوجيات الطاقة الجديدة . هذا، بالإضافة إلي تنوع التركيبة السكانية الأمريكية مما يتيح لها توسيع نطاق النفوذ الأمريكي في العالم . وتقول آن ماري سلوتر إن الولاياتالمتحدة لديها بنية اجتماعية أفقية، حتي وإن أصبحت أكثر هرمية جراء تنامي عدم المساواة في الدخل فإن ثقافتها تحكمها روح التنظيم والإبداع، وتلك سمات تعد مزايا عظيمة، في اقتصاد عالمي، تقوده علي نحو متزايد مجموعات عنقودية شبكية، من الموهوبين والمبدعين. ومن المعروف أن التركيبة السكانية في دول العالم، يعتريها تفاوت كبير . فالصين والهند يشكلان ثلث سكان العالم، بينما أوروبا واليابان، تتناقص فيهما أعداد السكان . ويتم اعتبار الولاياتالمتحدة أمة صغيرة نسبيا (300 مليون نسمة) . وفي عام 2007، كانت الدول العشر التي حققت أعلي معدل لدخل الفرد كلها ذات كثافة سكانية أصغر من عدد سكان نيويورك، مع استثناء واحد هو الولاياتالمتحدةالأمريكية . وتؤكد سلوتر أن 300 مليون أمريكي يبدون أكثر قابلية للإدارة المتقنة،مقارنة مع مايزيد علي مليار نسمة، وأن صيغة شعب أقل، زائد تكنولوجيا أنقي، وأكثر اهتماما بالبيئة، سيكون نموذجا أكثر جاذبية في المستقبل . وفي دراسة أجراها المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية، ونشرت في سبتمبر 2009، وتناولت بيانات من عام 1972 2006، أكدت الدراسة أن سنة واحدة قاسية ماليا، في بداية سن الرشد للمواطن الأمريكي ، كافية لتغيير قيم الناس وتصرفاتهم بشكل جذري . وفي تفسير ذلك يقال إنه في وقت الأزمة، لايقبل الناس علي الاستثمار، ويميلون إلي جني أموال أقل، ويختارون وظائف أكثر أمانا، ويؤمنون بإعادة توزيع الثروات، وضرورة تدخل الحكومة بشكل أكبر، والشعور (بالتشاؤم) إزاء المؤسسات العامة، ويعتنقون فكرة أن النجاح مرهون (بالحظ) أكثر من (الجهد) . وتؤكد رنا فروهار أن علماء اقتصاد، وأكاديميين، ومستثمرين، بدءا من جورج سورس، وبيل جروس، وجيم أونيل، يقولون إن الأمريكيين سيغيرون من سلوكياتهم جذريا حاليا ومستقبلا ، ليس فقط بسبب صدمة الأزمة المالية، ولكن أيضا بسبب تغير البيئة العالمية، حتي أن " المستهلك الأمريكي، لن يعود هو القوة الوحيدة المهيمنة في العالم " . فحتي لو استعادت السوق الأمريكية قدرتها علي الانتعاش، فإن أسواق الدول النامية، في الصين، والهند، والبرازيل، ستستمر في النمو، وتزداد قوة، وتستمر قيمة الدولار في الانخفاض . إن جيل الشباب من الأمريكيين، من المتخرجين، ممن تترواح أعمارهم بين 20 24 سنة، تبلغ بينهم نسبة البطالة 15 %،مقارنة بالمعدل الوطني البالغ 10 % . وتظهر الاحصاءات أنه كلما ازدادت نسبة البطالة 1 %، تدنت أجور الخريجين بنسبة 6%، و يطلق علي الجيل الحالي في الولاياتالمتحدة اسم " جيل الركود "، ويبدو أنه هو أول جيل منذ 30 عاما يشهد انخفاضات فعلية في معدل الأجور وفي خضم حدث الأزمة الاقتصادية، فإن السؤال هو : لماذا فشل معظم علماء الاقتصاد في أمريكا في توقع الأزمة المالية؟ وهل يجب إعادة النظر في منهاجية التعليم الاقتصادي في العالم؟ لقد كان علماء الاقتصاد يعتبرون أن الرأسمالية هي نظام اقتصادي ينظم نفسه بنفسه بشكل مثالي، وهي فكرة دحضها الانهيار . وتقول رنا فروهار إن المسئول الجديد عن القطاع المالي في إدارة أوباما، كاس سانستاين، وهو عالم اقتصاد سلوكي، جعل الإدارة تستعين بالأفكار " السلوكية " لتوجيه السياسات، مثل الخطة التحفيزية، ومن المرجح أنها ستؤثر علي أي تشريع جديد متعلق بالقطاع المصرفي . وتتلخص في أنه يجدر عدم الاعتماد علي فكرة واحدة لتفسير التعقيدات البشرية . في هذا الإطار، يجري الاهتمام بالتبعات الثقافية والسياسية لحالة الأزمة، فالبطالة المرتفعة لها تبعات كارثية علي المشاركة المدنية،وتقول فروهار إن الناس المكتئبين، المسرحين من أعمالهم، يبدءون بالانسحاب من كنائسهم، ومدارسهم،وتقل مشاركتهم في الانتخابات، ولأن الأزمة تفاقم الهوة بين الأغنياء والفقراء، فإنه يتوقع ظهور سياسات حزبية ذميمة وشعبوية . وفي المحصلة يبدو الانخفاض الحاد في الحراك الاجتماعي في المجتمع الأمريكي. وقد أشار مشروع التنمية البشرية الأمريكية في تقرير يحمل عنوان :The Measure of America نشر عام 2008، إلي أن متوسط دخل أعلي 5% من الأسر الأمريكية في عام 2006 يصل إلي أقل من 5 % بنحو 15 مرة ( ما يعادل 170. 168 دولار مقابل 352 .11 دولار ) ويلاحظ الباحثون أن الحراك الاجتماعي في الولاياتالمتحدة أقل منه في دول غنية أخري . ويقول كيشور مهبوباني إن طفلا فقيرا يولد في المانيا أو فرنسا أو كندا أو أحد بلدان شمال أوروبا، لديه فرصة أفضل في الانضمام إلي الطبقة المتوسطة من طفل أمريكي في نفس الظروف . وتشير وزارة الزراعة الأمريكية إلي أن واحدا من كل خمسة أطفال أمريكيين يعاني من الفقر . ويعتبر مهبوباني أن الخطر الذي يحدق بالمجتمع الأمريكي هو خطر انهيار " العقد الاجتماعي "، وهو ما يمكن أن يحدث إذا فشل المجتمع الأمريكي في توفير فرصة متساوية للنجاح لكل مواطن . كما أن هناك خطر الفساد،الذي يكتسب صفة قانونية، حتي أن الرئيس أوباما حذر من الفساد الذي يجتاح النظام السياسي الأمريكي، في كتابه " جرأة الأمل " في 2006 . مشكلة القوة الأمريكية الاعتقاد السائد اليوم لدي الأمريكيين أن القوة الحقيقية للأمة الأمريكية تكمن في القوة العسكرية، وربما نسي الأمريكيون أن القوة العسكرية في حد ذاتها هي مشكلة لأنها تكلف كثيرا . أيضا من المعتقدات الأمريكية أن بلادهم أمة أكثر من عادية،يمكنها أن تحمل عبء أكبر من أمنها الداخلي، وأن الأمم الأخري، هي أقل من عادية، وغير معنية بأمنها الداخلي . لذلك فللولايات المتحدة تاريخ طويل من التدخلات العسكرية، في الدومينيكان 1965، في جرينادا 1983، في بنما 1989، في العراق 1991، في الصومال 1992، في البلقان ثم أفغانستان 2001، في العراق مرة أخري 2003 . ولا يزال الوجود العسكري الأمريكي في البلقان وأفغانستان والعراق حتي اليوم . إن تكلفة الحرب في أفغانستان والعراق وصلت إلي 45 من مجمل الاقتصاد الأمريكي أو ما يعادل 622 مليار دولار، وعندما يجري توزيع هذا المبلغ علي كل فرد أمريكي تبلغ حصة كل رجل وامرأة وطفل نحو 2065 دولار . ولذلك يقول كريستوفل أ. بريبل في كتابه " مشكلة القوة " إن القوة العسكرية الأمريكية جعلت من الأمريكيين مجتمعا أقل أمنا وأقل ازدهارا وأقل حرية . هذا، علما بأن القوة العسكرية هي قوة هيمنة، وهي ليست قادرة علي كل شئ، فالقوة الضخمة لم تمنع هجمات 11 سبتمبر، ولم تجعل صدام حسين يرضخ للشروط الأمريكية، واستمرت كوريا الشمالية تتجاهل التحذيرات الأمريكية، ولم تكن التهديدات الأمريكيةلإيران ذات جدوي . إن السؤال المحوري الذي يتعين طرحه اليوم في الولاياتالمتحدة هو : ألا يجب العودة إلي الدستور الأمريكي لتحديد مهمة القوة العسكرية الأمريكية علي وجه الدقة؟ إن مهمة هذه القوة أساسا هي تأمين الحرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأمريكية لجميع الأمريكيين داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وليس لحماية شركاء في الخارج، والتعهد بنشر الديمقراطية في بلدانهم . ومع ذلك فإن كريستوفل في كتابه يؤكد أن الولاياتالمتحدة يمكنها أن تحافظ علي موقعها في قمة النظام العالمي وحدها (مع أن التاريخ يقول غير ذلك) . السوق الجيو - سياسية يعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما هو أول رئيس أمريكي يقدر حقا أهمية وجود عالم متعدد الأقطاب، لاتملك فيه أي دولة، بما فيها القوي العظمي، ما يكفي لعزل أعدائها، حيث ستقوم القوي العظمي الأخري بمد الأعداء بالدعم الدبلوماسي والمالي والعسكري . ويطرح البعض تحليلات بأن هذا التحول في " العقلية والخطاب الدبلوماسي الأمريكي " هو السبب الرئيسي في حصول أوباما علي جائزة نوبل للسلام . ولكن، إلي أي مدي يبدو ذلك محققا لأهداف السياسة الخارجية الأمريكية؟ يقول باراج خانا مدير مبادرة الحكم العالمي، والباحث في برنامج الاستراتيجية الأمريكية في مؤسسة أمريكا الجديدة، وهو مؤلف كتاب "العالم الثاني الامبراطوريات والتأثير في النظام العالمي الجديد» يقول: «تتحول كل منطقة جنوب غرب آسيا، والخليج وبحر العرب ومنطقة المحيط الهندي لتصبح مركز الثقل الجيو -سياسي في العالم، ويتزايد في هذه المناطق وجود أمور مهمة مثل : انتشار الأسلحة النووية، وأمن الطاقة، والقرصنة، ونقاط التقاطع الرئيسية، والتهديدات والمخاطر،والحلفاء، والخصوم، والقوي الاستعمارية، والقوي الصاعدة "، ويتساءل الكاتب: ما هو مصير أمريكا في إطار ذلك كله؟ هل يمكن أن تجتمع كل هذه العوامل، ومنها أيضا خطأ أمريكا في العراق، ووجودها العسكري الثقيل في منطقة الشرق الأوسط، وضعف مصداقيتها الدبلوماسية، لتتحول إلي عاصفة مثالية ، تؤدي إلي طردها من مراكز وجودها، في نهاية المطاف؟ إنه السيناريو الأسوأ الذي لم يفكر فيه الأمريكيون بعد . هذا المصير هو الذي يدفع فئة من الأمريكيين في الأوساط الأكاديمية إلي طرح التحذيرات، والمطالبة بأن تبادر أمريكا بنفسها للمساعدة في (إقامة النظام الدولي متعدد الأقطاب)، لأنه، إذا ما كان صعود الآخرين أمرا حتميا، لن يمكن منعه، مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وأوروبا، فعلي الأقل ليكن للولايات المتحدة شرف السبق في صياغة العالم متعدد القوي، لكسب مواقع متميزة، بين حلفاء متقدمين . ويقول جوناثان هولسلاج Jonathan Holslag إن الولاياتالمتحدة، حتي تقوم بحل المعضلة الأمنية يتعين عليها أن تعزز التفاهم الأمني مع الصين، بالدرجة الأولي، أي التعاون بين الجانبين، في أفريقيا، وجنوب شرق آسيا ... وتطوير مواقف مشتركة بين الجانبين، وتبادل المعلومات بين الأكاديميات العسكرية، وخبراء الاستخبارات، واستمرار الحوار العسكري، ودعوة المسئولين الصينيين للمشاركة في العمليات العسكرية الأمريكية في أفريقيا ووسط آسيا ودعوتهم إلي مقار رئاسة حلف شمال الأطلنطي". ويؤكد جوناثان هولسلاج أن الصين تمهد الطريق بشكل تدريجي نحو تواجد أكثر بروزا كلاعب عسكري دولي، من خلال تقوية وتدريب وتحديث معداتها العسكرية، ويتعين علي الولاياتالمتحدة ألا تعتبر ذلك خطرا عليها، بل إنها تعتبره فرصة لها، وأسبابا كافية لتحقيق التعاون الأمني ..فلو أرادت الولاياتالمتحدة أن تكون قائدا دوليا، فيتعين عليها أن تجد شركاء، يمكن الاعتماد عليهم . هذا، في حالة اعتبار الصين هي القوة الأولي لمنافسة الولاياتالمتحدة عالميا، ولكن لايمكن إغفال ما يقوله الآخرون، فجورج فريدمان،مؤسس شركة سترافور للتحليل السياسي ورئيسها التنفيذي يقول إن الصين ستتفكك عام 2020، ولن تكون هي القوة العالمية القادمة، وتحولات القوة لاتعني بالضرورة أن القرن 21 هو القرن الصيني، ويكمل فريد زكريا بقوله، إنه حتي مع تضاؤل النفوذ الأمريكي، فإن العالم لن يتحول إلي أحادي القوة صيني أو أوروبي، ولكنه " عالم جديد في المنتصف بين القوة الأحادية، ومتعددة الأقطاب " . التهديد الرئيسي في القرن 21 السؤال المطروح حاليا علي الأجندة الدولية هو: من أين سيأتي التهديد الرئيسي للعالم خلال القرن الواحد والعشرين؟ وللإجابة علي هذا السؤال فإنه لا يمكن اغفال درس القرن العشرين، ذلك القرن الذي تميز بقوة ونفوذ الدول الكبري، ففي النصف الأول من القرن،كانت هناك محاولات المانيا واليابان، والاتحاد السوفييتي السابق لتأسيس الهيمنة عالميا، وأيضا الجهود التي بذلتها الولاياتالمتحدة وتحالف الشركاء لمقاومة ذلك، الأمر الذي أسفر عن حربين عالميتين، ثم حرب باردة . فهل تنعاد الكرة في القرن الواحد والعشرين؟ بعبارة أخري، هل ستندفع الدول الكبري نحو فرض الهيمنة عالميا، وبالتالي تصبح هي منبع التهديد الرئيسي؟ في الواقع ليست هناك إجابة قاطعة في هذا الصدد، ومن المقولات التي تطرح أنه لا أحد يعرف علي وجه التحديد كيف ستكون الصين أو أمريكا بعد 50 أو 60 سنة . ولكن هناك مؤشرات يستشفها البعض للاستدلال علي تصورات ممكن طرحها . من ذلك علي سبيل المثال تأكيدات ريتشارد هاس بأن الدول العظمي اليوم،لن تكون كذلك في المستقبل القريب . فروسيا تمتلك اقتصادا أحادي الجانب، وهي تعاني من انتشار الفساد، ويتناقص عدد سكانها، والصين تجد نفسها مقيدة تحت وطأة عدد هائل من السكان، ويري هاس أن الدول الكبري ستكون معنية أكثر بصياغة العالم وليس تدميره، أما التهديد الرئيسي في القرن 21 ،كما يقول هاس، سيأتي من الدول الضعيفة كباكستان، وافغانستان، واليمن، والصومال، وهايتي، والمكسيك، والكونغو، والعراق، وغيرها من الدول التي لا تتحكم فيما يجري في أراضيها، فالأفراد والأشياء تنتقل، ولا تعني الحدود الدولية شيئا أمام الارهاب، والأمراض، والمهاجرين، وأسلحة الدمار الشامل . وتبدو المشكلة في هذا السياق في أن كل هذه التهديدات، في مجملها، ليست من النوع الذي يمكن مواجهته باستخدام القوة العسكرية ، وهكذا يواجه العالم في القرن 21 نوعا جديدا من التهديدات العالمية .