لدى الناس فى مصر، وفى العالم العربى، والعالم الإسلامى، وربما العالم كله، أسباب كثيرة لكراهية أمريكا، ويقع فى مقدمتها بالنسبة لنا تحيزها المستمر عبر كل العصور والأزمنة والإدارات المتعاقبة لإسرائيل، ومن قبل غزوها للبنان، ومؤخرا غزوها للعراق، ويدها الثقيلة منذ انتصارها فى الحرب العالمية الثانية التى وضعتها على أقطار وأوطان على امتداد العالم كله من كوريا وفيتنام فى الشرق وحتى أمريكا اللاتينية فى الغرب. وبالنسبة للمثقفين فإن كثيرين يأخذون على الولاياتالمتحدة ثقافتها السطحية التى تمكنت من نشرها على العالم والتى تبدأ بما عرف بالأكلات السريعة المثيرة والمضرة فى نفس الوقت، وحتى الموسيقى الفاحشة الاستناد للغرائز الإنسانية. وبالنسبة للعلماء فإن أمريكا هى المسؤول الأول عن تعريض كوكب الأرض للخطر بسبب استهلاكها الشره لموارده المحدودة، ولأنها المتهم الأول فى قضية الاحتباس الحرارى الذى يبدو أنه سوف يضيع الكرة الأرضية من قطبها الشمالى إلى قطبها الجنوبى. أما الاقتصاديون فحدث ولا حرج حيث إن تواجد قرابة ثلث الثروة العالمية فى بلد واحد، واعتماد الدنيا على عملة رئيسية واحدة هى الدولار الأمريكى، يجعل الاقتصاد العالمى كله رهينة قرارات وإجراءات وتقاليد لم يشارك فى صنعها أحد، وفى الأسابيع الأخيرة عندما أصيب الاقتصاد الأمريكى بالحمى تداعت بسببه كل الاقتصادات العالمية بالحمى وأمراض أخرى كثيرة. ومن الممكن المضى هكذا حتى نهاية المقال، ولكن لأمريكا وجها آخر ربما يشكل سر جاذبيتها للكثيرين الذين يلعنونها فى الصباح ثم يطالبونها بالدخول والتعلم أو العمل فيها قبل الظهيرة. وأولى طلائعه هى التغيير، فربما استمع الأمريكيون إلى لعنات كثيرة من الخارج خلال السنوات الماضية على إدارة الرئيس بوش، ولكنهم من ناحيتهم الخاصة كانوا يعرفون أنهم يتحملون مسؤولية انتخابه، ومن ثم كان عليهم، ولديهم، شجاعة التخلص منه، ومن سياساته واستراتيجياته مع قدر من الاعتذار للتاريخ بانتخاب رئيس من أصول إفريقية، واعتذار للعالم لأن أمريكا لم تكن مستعدة أن تنتخب رئيسا مثل جون ماكين يمثل مجرد تعديل للرئيس السابق، بل يريدون رئيسا جديدا تماما ليس فيه أى من رائحة عائلة بوش، أو حتى كلينتون، أو حتى من خريجى جامعة ييل حيث تخرج بوش الأب والابن وبيل وهيلارى كلينتون، فقد آن أوان جامعة هارفارد حيث تخرج باراك وميشيل أوباما. ولكن التغيير والاعتذار ليس فقط الوجه الآخر لأمريكا، ولكنه العملية الانتخابية نفسها والتى لا يوجد مثلها فى مكان آخر، فالقضية ليست أن الانتخابات جرت على مدى عامين تقريبا، ولكن لأنها كانت بمثابة عملية التقليب فى الأرض الأمريكية بالأفكار والهواء والشخصيات الجديدة وإثبات القدرة على أن شخصا لم يعرفه أحد منذ بضع سنوات يمكنه أن يكون رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية. ولم يكن أوباما هو أول الأمثلة على ذلك، بل سبقه بيل كلينتون وجيمى كارتر، حين أتى الجميع من حيث لا يعرف أحد. ولكن التكنولوجيا تظل أهم علامات الوجه الآخر لأمريكا، وخلال الانتخابات الأخيرة جرى خطوتين فى التقدم التكنولوجى سوف يظل لكل منهما دلالة عظمى فى المستقبل والتاريخ القادم. الأولى كانت تصويت رواد فضاء أمريكيين فى الانتخابات الأمريكية دون أن يطلع أحد على أصواتهم، وهو ما يغير تعريفنا للعالم فهو لم يعد الكرة الأرضية، ولكنه صار الكون كلها حيث يجوب مواطنون أرضيون يمثلون مرحلة من التطور البشرى ربما يأتى بعدها من سيطالب بحق تقرير المصير فى مجرة مستقلة. والثانية قامت بها شبكة السى.إن.إن عندما طبقت لأول مرة تكنولوجيا «الهولى جرام» والتى بمقتضاها تم نقل مراسلة الشبكة فى مدينة شيكاغو إلى مركز تغطية الانتخابات فى نيويورك من خلال تحويلها إلى ذرات ضوئية، أعيد تكثيفها فى حالة جسدية لكى تقف نسخة منها تناقش وترد على الأسئلة وتتفاعل فى نفس اللحظة مع الموجودين فى الشبكة من محررين ومحللين. وتعالوا معا نتخيل ما الذى سوف يفعله ذلك فى شكل العولمة حيث يستطيع الناس الانتقال والبقاء فى نفس اللحظة ليس من خلال صورة تلفزيونية، أو من خلال شبكة الإنترنت بوسيلة «سكايب» الشائعة الآن فى الاتصالات الدولية، وإنما انتقال البشر أنفسهم بسرعة الضوء للمشاركة برأى، أو لحضور العزاء. وربما تكون هذه هى المشكلة مع أمريكا فهى تدمر من ناحية، ولكنها تخطط مستقبل العالم والدنيا من ناحية أخرى!!.