وتخلف عن الخروج فى غزوة تبوك مع رسول الله رجال معدودون، إيمانهم صحيح ليس بهم شك ولا ارتياب، وهؤلاء هم كعب بن مالك الخزرجى، ومرارة بن الربيع العمرى، وهلال بن أمية الواقفى، وأبوخيثمة السلمى وأبوذر الغفارى. فأما أبوخيثمة فقد دخل فى يوم حار على أهله فوجد ظلا ظليلا، وماء مرشوشا على الأرض، وماء مبردا لشرابه، وطعاما حسنا قد هيئ له، فقال: سبحان الله(!) رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الصِّخ (أى الشدة الشمس) والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبوخيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسنة فى ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف(!) ثم أمر بزاد أن يعد له، وارتحل على جَمَلِه يطلب رسول الله، فأدركه حين نزل بتبوك، وأخبره خبره، فدعا له رسول الله بخير. وأما أبوذر فكان بعيره أعجف ضعيفا، عندما دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الخروج، فقال يَعْلِفُه أياما ثم يلحق برسول الله، فلما خرج عجز البعير عن السير، فأراحه يوما فلم ير به قوة، فأخذ متاعه من عليه وحمله على ظهره، وسار على قدميه يطلب رسول الله، فنظر ناظر من المسلمين وقد انتصف النهار فرأى شبحا يدنو منهم فقال: يا رسول الله هذا رجل يمشى على الطريق وحده، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «كن أبا ذر» (!) فلما تبينوا ملامحه قالوا يا رسول الله هو والله أبوذر، فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة أمة وحده». فلما بلغ منزل رسول الله وأخبره الخبر قال: «قد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتنى». واشتدت حاجة الناس إلى الماء فى الطريق، فشكوا ذلك إلى رسول الله فدعا الله أن يسقيهم، فلم ينته من دعائه حتى أمطرت السماء وارتوى الناس، واحتملوا ما يحتاجونه من الماء، فنظر بعض الصحابة فلم يجد الماء إلا فى مواضع تجمع الجيش دون سواها (!) ولم يلق رسول الله كيدا فى تبوك لأن الروم لم يلقوه بها، بل كانت جيوشهم بعيدة عنها، قيل لأنهم كرهوا لقاء المسلمين فتفرقت جموعهم، وقيل لم يكونوا تجمعوا للحرب أصلا، والله تعالى أعلم. ورجع رسول الله إلى المدينة فى رمضان من السنة التاسعة للهجرة، وكان قد خرج فى رجب منها، ومن أجل دخوله فى رمضان وبدء قصة الذين خُلِّفوا فيه جعلنا تبوك وقصتها بين الأيام الرمضانية. وكان الذين تخلفوا عن رسول الله بضعة وثمانين رجلا من المنافقين، أذِنَ النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى القعود، من غير علة حقيقية كانت بأحد منهم. وتخلف رجال لا يشك فى إيمانهم، ذكرت منهم آنفًا أبا خيثمة وأبا ذر رضى الله عنهما، اللذين لحقا برسول الله فى تبوك أو فى الطريق إليها، ونلخص الآن خبر الثلاثة الذين لم يلحقوا به، وبقوا فى المدينة حتى رجع إليها النبى من تبوك. كان هؤلاء هم كعب بن مالك السلمى، وهلال بن أمية الواقفى، ومرارة بن الربيع العامرى. لم يكن لهم فى التخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عذر، ولم يسمح لهم إيمانهم الصادق أن يكذبوا على رسول الله فأقروا له بخطئهم عند رجوعه من تبوك، فارجأهم حتى يحدث فى أمرهم وحى يوحيه الله إليه. وكان من نبأهم ما حكاه كعب بن مالك من أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسلم عليه، وجلس «فتبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال، فجئت أمشى، حتى جلست بين يديه فقال لى: ما خَلَّفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك (الدابة التى ستركبها) فقلت: بلى والله(!) إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، وقد أعطيت جدلا (قوة فى الحجة وقدرة على النقاش) ولكنى والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى، ليوشكن الله أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه (أى لا تكون عنى راضيا) إنى لأرجو فيه عفو الله. والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك». وقال رسول الله أمَّا هذا فقد صدق(!) فقم حتى يقضى الله تعالى فيك ما يشاء. وعاتبه رجال من قومه أنه أقر بذنبه فسألهم هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا نعم: مُرارة بن الربيع العامرى، وهلال بن أمية الواقفى، وهما بدريان صالحان، عندئذٍ قال كعب بن مالك: فيهما أسوة. وغدًا نستكمل إن شاء الله.