وقيل فى سبب تخلف مُرارة بن الربيع العامرى إنه كان له بستان قد ظهرت ثماره فأعجبته، فقال لنفسه لقد غَزَوتُ قبلها فلو أقمت عامى هذا؟! فلما تذكر ذنبه بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك تصدق ببستانه هذا، وقال: اللهم إنى أشهدك أنى تصدقت به فى سبيلك. وقيل فى سبب تخلف هلال بن أمية الواقفى إنه كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال لو أقمت عندهم هذا العام، فلما تذكر ذنبه عندما عاد النبى إلى المدينة، قال: اللهم لك علىّ ألا أرجع إلى أهلى ولا مالى (يعنى إن دعيت للخروج بعد ذلك). قال كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يكلمنا نحن الثلاثة (أى هو وهلال ومرارة) أحد، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، وتنكرت لنا الحيطان (البساتين) حتى ما هى بالتى نعرف، وما من شىء كان أهم إلىّ من أن أموت، فلا يصلى رسول الله علىّ، أو يموت، فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمنى أحد ولا يصلى علىّ. وبعد أربعين ليلة أمر رسول الله هؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم. قال كعب بن مالك: ومكثنا على ذلك عشر ليالٍ فكملت مدة مقاطعتهم فبلغت خمسين ليلة. وقال كعب: كنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق فلا يكلمنى أحد. وقصة هؤلاء الثلاثة طويلة، مؤثرة، مبثوتة فى كتب التفسير والسيرة والحديث؛ ونزلت بعد خمسين ليلة توبة الله عليهم بقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} التوبة: 117-118. قال كعب بن مالك: وكان تخلفنا عن أمر الذين قَبِلَ النبى أعذارهم حين حلفوا له هو الذى عناه قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} ولم يكن المراد بذلك تخلفنا عن الغزو بل تخليف النبى إيانا، وإرجاءه أمرنا بخلاف من حلف له كذبا، واعتذر إليه فقبل منه ظاهره ووكل باطنه إلى الله عز وجل. إن الغاية الحقيقية من غزوة تبوك كانت إرهاب الروم الذين كانوا يتحينون الفرصة لمهاجمة المدينة والقضاء على الإسلام وقوته الناشئة ودعوته التى تنشر فى بقعة بعد أخرى من بقاع الجزيرة العربية. فأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يقطع طمع الروم فى غزو المسلمين، وأن يوقع اليأس فى نفوسهم من اعتبار المسلمين لقمة سائغة أو غنيمة باردة، فإن مَنْ هذا شأنه لا يتقدم بجيوشه إلى حدود هذه الإمبراطورية، ويدخل متحديا متهددا مستعدا لقتال جيوشها. تلك العلة الحقيقية ذكرها القرآن الكريم فى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَنَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} التوبة:123. وقد تحققت هذه الغاية فلم يقابل الروم رسول الله بجيش مقابل جيشه، بل كان هناك نوع انسحاب منهم، إلى داخل بلادهم، يدل على أنهم عملوا حسابا جديدا لهذه القوة الناشئة، لم يحسبوه للعرب من قبل. وكان من غاية تبوك إشعار القبائل العربية التى لم تدخل الإسلام، وبوجه خاص القبائل الموالية للروم، بقوة الإسلام وبأن الروم لن يغنوا عنهم شيئا إذا فكروا فى حرب المسلمين، وقد أشار القرآن إلى هذه الغاية بقوله تعالى: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.} التوبة: 120. وتحققت هذه الغاية، كذلك، فلم يلق المسلمون حربا من تلك القبائل بعد تبوك.