آمنة وناس عريقة هي العلاقة بين الحرف و الإحساس، لطالما تنفّست الروح من حناجره، فتلقي بهمومها على عاتقه، يعانق ألمها، يواسي حزنها، يؤانس صمتها، و يقرع الأجراس لبهجتها. يأخذنا الحرف في رحلته نحو الغامض و المعروف، فيضعنا في إطار حكايته، يرويها بكل شغف، عن شاعر بنفسه يعرّف، بأنه كيان، شعوره يذرف. يدخلنا ذاك الحرف لعالم حاضنه، ليتعلّق بصرنا بخلجاته، أنفاسه المتألمة تعزف التأوّه، ليراقصه انتباهنا على إيقاع مولوده: "حدقات متثاقلة بتصاويرك الرطبة". بين حزن و ابتسامة، تستوطن العبارة نبض صدق، لعاطفة إحساسها نطق، برسومات تحتضن في طياتها لحظاتنا المفقودة. تأخذنا تلك الكلمات لذاكرته المسافرة في الحياة، لنقف على "حلمه المذبوح" المتبرّج "بحزن متعجّل" "لمسرات كفيفة". مولود، نعيش معه المسرّة و الوجع، لتتعانق الأرواح و تلوذ في عمق الحدث. ما عدنا ننظر لذلك اللحن الراحل بنا إلى ترنيماته المجهولة، فتلك "الحدقات" أنكرت صمتها، و غاصت بنا في رياح الهوية، هوية هذا القلم، بكل فصوله التي حمل، بعشقه للوطن، بصراخه من الألم، بسؤاله عن الخلاص من كل المحن، ببحثه عن التهلل، بهروبه من الاكتئاب، بنبذه للحروب و الاغتراب. ترانا بين سطوره، تقذفنا أبجدية المعنى، نحو أنفاس مبعثرة على قارعة الحيرة، فنرقب بملمس المشهد، هو ذاك الاختناق، حيث تستلقي مخيلته على أشواك الحسرة لفرحة نحرت قبل ميلادها. يأخذنا بوحك أيها الراكض فينا، إلى "تصاويرك الرطبة"، إلى "التاريخ و شواهد القبور الكثيرة"، إلى "سنوات عاثت بها الحروب"، إلى "الاغتراب العنيف"، إلى الشاعر "كريم عبد الله"، هو ترنيمة راحل عبر أحلام الضياع، صحبة إرادة مغلولة تركض وراء التلاشي في توهان، وقتها "تساقطت أغنياتنا تعد الخسائر". يتفجّر أمامنا أمل عليل، حيث "ولادة في زمن الحرب"، فيورد أنين الأرض و حرقة النفس على وطن استنشقته أريجة القصف و حلّت به أناشيد الدمار، بين ضلوع ذاك المكان، تتقمّص الفتنة أدوار البطولة، فيتوسّدنا خرير الخراب. عتمة الوجع تلفّ عطره المسكوب على عطش حلم "منهوب"، ذبلت وروده في أغصانها الباكية، تقاسيم النشيج تسدل ضلالها على الأمس الفقيد، متبرّجة بآهات تقيد، تغازل الجرح العتيد. أضغاث خيالات يتربّص بها الأسر و الجنون، لكأن الحياة هي فقط مكامن الداء و منابع اللوعة. فأيها المنادي في أرواحنا، مهلا، أفليس غدا يوم جديد، بفجر وليد، خذ من ضياءه، و ارتوي من رحيقه، و أمضي و أنت تبتسم...