استمر تَدَخُل الخواجات بالهيئة الاستشارية فى تفاصيل العمل بعدما تأكدوا أن هذا المكان بعيد عن الحرفية والميكنة وسياسة الرجل المناسب فى المكان المناسب، فأدركوا أنهم يتعاملون مع فريق عمل غير مؤهل لاتخاذ القرار! . بينما كان غياب اللغة الإنجليزية كلغة تفاهم موحدة - بين مدير الجمعية والخواجة الذى يمثل الهيئة الأجنبية عاملاً فى اهتزاز ثقة المدير فى ذاته، ومدعاة لمنح الخواجة سلطات أوسع مما ينبغى لنفسه، باعتباره مساعد مدير برنامج الإصلاح! أما صديقتي، فكانت قد أغلقت باب النقاش مع تلك الهيئة فى مسألة تعيين مساعد بعدما أدركت أن التخطيط هو إزاحتها بالتدريج لاحظتُ أن بعض الشعور بالراحة بدأ يتسرب إليها بعدما نَجَحَتْ فى إيقاف مقترح خطة الخواجة بتعيين مساعد؛ لثقتها أن ذلك لم يكن أكثر من خطة للاستغناء عنها فى وظيفتها، رغم أنها التى أنشأتها! وبمنتهى الثقة أرسلتْ إليه تصورها للتخطيط الاستراتيجى الخاص بعملها فى هيكلة الجمعية، وكيف ينبغى أن يبدأ بتكوين فريق متخصص عبر المحافظات التى تنتشر بها الجمعية، وتكوين فريق بالمكتب الرئيسي، وخطة بالأنشطة المطلوبة.. فقام بتهنئتها، ثم نصحها أن تستعين بخبرة زميلته الخبيرة، فقاطعتُها متسائلة: صحيح.. لماذا لم تفعلى ذلك بعد تحقيق هدفك؟ فقالت: لثقتى أن سلوك الخواجة كان هدنة محارب، وليس خضوعًا لقراري، دون تغيير لخطة زميلته الخبيرة فى الاستيلاء على وظيفتي! الرؤية.. أهم من المهارة سألتُها: كيف يحاولون إزاحتك وأنتِ الأعلم بالمكان وتفاصيله؟ ألم يفكروا أنهم سيحتاجون إليكِ حتى لو نجحوا فى الاستيلاء على وظيفتك؟ وأنك قد لا تتعاونين مع من يجبرونك على قبوله.. وبدون تردد، استنكرتْ قائلة: من الذى يجبرنى على شيء؟ قلتُ مستنكرة: بالطبع، يمكن للإدارة أن تقرر ما تريد حتى لو كان عكس رغبتك! فابتسمتْ وهى تفرد ذراعها اليمنى فوق المقعد المجاور، ولخصت رأيها قائلة: من يعرفُ أن يقوم بعملى - فى هذا المكان- أفضل منى.. ليتقدم! ومع ذلك، أهلًا بأى شخص يفوقنى خبرة وعلمًا.. بل سأتنحى لأتعلم منه! مستدركة: النقاش هنا ليس عن المهارة.. فالمدير صاحب الرؤية أفضل من المدير الماهر! أما إدارة جمعيتى.. بكل فخر، لا رؤية ولا مهارة سوى فى تستيف الأوراق، والتزوير والتلفيق، والانتقام ممن لا يحبون! فأخبرتها أن ما تقوله ليس جديدًا، فالفساد يسود كل مكان! وسريعًا ما قالتْ: نعم، ولكن عش بطريقتك.. ودع الآخرين يعيشون بطريقتهم، حتى لو كانوا مختلفين عنك! بدأتُ أنظر للأمور بطريقتها، هى شخصية مخلصة.. ارتبطت بالجمعية التى تعمل بها، دونما تبدى اهتمامًا بمستوى الإدارة، تطبيقًا لنصيحة أحد الحكماء الذى نصحها بأن تعمل فقط، ولا تهتم بالظروف حولها! فأخبرتُها أن نصيحة الرجل بدت حكيمة، ولكنها ليست واقعية! جمعتْ كفيها بين ساقيها، وقالتْ: ربما لديك حق! فبقدر ما عملتُ، لم يكن أحد يرى عملي، خاصة أن مديرى لم يقبلنى منذ اليوم الأول، لمجرد أننى لم أهتم بالتقرب إليه، فشخص مثله فَهِمَ سلوكى بأنه عدم اعتراف به وبجبروته! فطمأنتها قائلة: لا تندمي، لربما حماكِ الابتعاد أكثر مما تتصورين! الاقتراب من الكبار له ثمن.. تندمين إذا لم تدفعينه وتندمين أكثر إذا دفعتهِ! ولكن.. لماذا تحتفظ جمعيتك بهذا الرجل المؤذي؟ فضحكتْ عاليًا، وهى تكرر كلمة «مؤذي»، ثم قالت: هل تعلمين أن فريقه يصفونه بأنه أحسن مدير فى الدنيا، و«عسل ودمه خفيف»؟ بكل فخر.. مزور كبير. ذهبنا لتناول الغداء فى المطعم الذى تحبه، وأنا أفكر فيما تقوله، وكيف يتحمل فريق الإدارة بجمعيتها العيش وهم يُؤلمون غيرهم بالظلم وألم القلب؟ فانطلقتْ فضفضتها الساخنة دائمًا، وظلتْ تتحدث عن مواقف كثيرة ظالمة عاشتها، ما دعانى أكرر سؤالى: لماذا قبلتِ هذا طوال تلك الفترة؟ وبنفس الإجابة تخبرنى أنهم نجحوا فى إنهاكها بسياسة التأنيب والاتهام بالتقصير، رغم أنهم لم يساعدوها بأدنى وسائل المساعدة.. كغياب الكمبيوتر - مثلًا - وكله بموافقة مجالس الإدارة المتعاقبة! أشحتُ بيدى وأنا أكرر رأيى بخصوص مجلس الإدارة، حيث لا يعقل أن يكون تغاضى أفراده عن فساد الإدارة مجرد صدفة! وأضفتُ: ربما لأنكِ مصدر خطر. ولهذا لا ولن تُمكنك الإدارة، بل تريد إنهاكك هكذا، ليسهل التلاعب بكِ وإلقاء اللوم عليكِ! ولكنك واعية لكل هذا.. صحيح؟ وبنبرة شبه يائسة، قالت: ماذا يفعل الوعى والمعرفة أمام الواقع اليومى لمدير يفهم الإدارة على أنها فن التآمر، والمراوغة، وتضييع الوقت، وعدم المواجهة، وسياسة فرق تسد؟ مع وفرة فى اللسان الحلو.. المصحوب بكميات هائلة من الحقد الداخلي، والانتقام ممن يتجرأ على الشكوى من الظلم والفساد! وبنفس الإيقاع السريع، أجابتْ: منطق الجبابرة الذين يضعون قوانينهم لصالح أنفسهم، والويل لمن يرفضها! ظللتُ لسنوات أقدم مقترحاتي، ويتم ركنها، حتى أدركتُ أن الإدارة لا تريد هذا القطاع ولكنها تمسك العصا من منتصفه، لربما تحتاج خدماتي! حينما سألتها عن التفاصيل، فوجئتُ أن جمعيتها تقوم بتزوير اسمها على شيكات وإيصالات تقدمها لبعض الممولين، تفيد استلامها مبالغ خيالية كمكافآت أو أجور لا تحصل على شىء منها، حيث يقوم أحد الزملاء - نظير بعض المكافآت- بتزوير توقيعها، كواحدة من مهام عمله! بل إن المدير نفسه يفخر بمهارته فى تزوير التوقيعات! وكله لصالح الشغل! تعجبتُ مما قالت وسألتها: ألا يعترض أحدكم؟ نعم.. يعترض البعض.. قالت مستطردة: بل يذهبون لمواجهة القادة، محاولين إيقاظ ضمائرهم بالوعظ وبالتوبيخ. حتى يصلوا معهم لطريق مسدود، فيوكلوا الله شاهدًا على شرورهم، فهل تعرفين بماذا يجيبون؟ أجابتْ: ينظرون إليهم بمنتهى الهدوء، قائلين «خلّى ربنا ينفعكم»! أصابنى كلامها بالصدمة، ثم سألتها إن كان مجلس الإدارة يعلم بكل هذا! فابتسمت ساخرة وقالت: حرفيًا، كل الناس تعلم! حتى برنامج الإصلاح يعلم ويفهم سر اختلاس الأجور، والتزوير فى المرتبات والتأمينات، ما جعلهم يبتكرون برنامجًا مميكنًا لإظهار كل التصرفات المالية! فأبدى قادة الجمعية الموافقة عليه، مع نية التلاعب ببنوده، بعد انتهاء برنامج الإصلاح! الصديق اللدود.. كنتُ فى حيرة من برنامج الإصلاح الذى جاء لكشف وعلاج الفساد، ورغم هذا يتآمر ضدها! فقالتْ: حينما تسيطر المصلحة ينقطع البصر والبصيرة، وهذا يفسر محاولات أعضائه لكسر ثقتى بنفسي! موضحة: ورغم هذا كنتُ أستمتع بوضوح علاقة العداوة مع الخواجة، فهكذا ظهر الجانب القتالى الشريف فى شخصيتى. هو يعلم أننى أفهم دوره كترس فى ماكينة خطة هيئته التى تود الاستمرار معنا باعتبارنا مصدر تمويل لهيئتهم الصغيرة فى بلدهم بأوروبا.. وأنا أعلم أن جمعيتى باعت وظيفتى رشوة لهيئته! كانت تنادى الخواجة بالصديق اللدود frenemy وهكذا استمر الأمر بينهما، ثم بدأت تتقبل دور الخبيرة الأجنبية، خاصة عندما طلبتْ مساعدتها فى تنسيق ورشة العمل التى ستقوم بتنفيذها بعد شهور فى القاهرة لأعضاء قطاع العلاقات العامة بالمكاتب. الغريب. تقول صديقتى: لم يستشرنى الخواجة وزميلته فى محتوى الورشة التى قررا عقدها، بل كانت الخبيرة تنصحنى قائلة: «كونى برجماتية»، «كونى واقعية»! حتى حان وقت زيارتها للجمعية وتنفيذ ورشة العمل.. وبدأت الأحداث تتصاعد!•