بدأت الهيئة الأوروبية عملها فى تنفيذ برنامج الهيكلة والإصلاح فى الجمعية التى تعمل بها صديقتى، والذى جاء كشرط أساسى وضعته بعض الجهات التمويلية وخصصت له ميزانية كبيرة لإحداث التطوير اللازم الذى يضمن تدفق أموال تلك الجهات فى مكانها الصحيح، فلم تجد الجمعية بدًا من الموافقة على هذه الشروط، ثم قامت بتشكيل الفريق المصرى ليساعد الخواجات فى عملهم، وكانت المفاجأة أن الإدارة اختارت جميع مسئولى البرامج ضمن الفريق المصرى.. ولكنها تجاهلت صديقتى، ما جعل الخواجات يفكرون فى حجز الوظيفة لأنفسهم، خاصة حينما عرفوا راتبها الهش، ولم يجدوا وظيفتها ضمن الهيكل الإدارى.. فتجرأوا وفتحوا وظيفتها أثناء قيامها بعملها.. بموافقة جمعيتها (الإدارة ومجلس الإدارة».. شخصية برجماتية عادتْ صديقتى للجمعية التى كانت تعمل بها بعدما أَدرَكتْ أن العمل الجديد يحتاج شخصًا يوافق على القيام بدور «الأطرش فى الزفة» أى يكون موجودًا ولكنه غائب، فى نفس الوقت الذى بدأ فيه بعض الأصدقاء المقربين فى الجمعية يحثونها على العودة لعملها، بعدما انتشر خبر استعداد الخواجات فى برنامج الهيكلة لتعيين زميلة جديدة حديثة التخرج لتدير قطاع العلاقات العامة، رغم أنها لا تمتلك شيئًا من مواصفات الوظيفة التى وضعوها، وأن راتبها سيكون آلاف الجنيهات هى أحق بها! - يومها، تقول: تعجبتُ لترحيب مديرى بعودتى، خاصة حينما قدمنى لمساعد مدير برنامج الهيكلة الأجنبى المقيم فى مصر بأننى - قرار نهائى - سأعود لوظيفتى كمسئولة العلاقات العامة بالجمعية، وسأتولى نفس الدور ببرنامج الهيكلة، كل الوقت! فتغير وجه الخواجة، ثم أخبرنى أنه شخصيًا يرحب بى ولكن المشكلة فى الخارج، حيث يقولون عنى عاطفية وعنيدة وغير قابلة للتفاوض! - ضاحكة، سألتها إن كانت هذه الصفات عيوبًا أم مميزات! - فأخبرتنى أن الثقافة الغربية تفضل التعامل مع الشخص البرجماتى (العملى» عن العاطفى، خشية أن ينساق الشخص العاطفى وراء أحاسيسه ومشاعره فى العمل. أما اتهامهم بأننى غير قابلة للتفاوض فذلك لأننى كنت أتعامل معهم بندية وثقة فى النفس لم يجدوها فى معظم الزملاء الذين ينبهرون بهم ويعتبرونهم الأذكى والأفضل! - عقدة الخواجة يعنى.. قلتُ لها، وسريعًا ما انتبهتُ لتغير موقف مديرها، وذَكرتُها بأمر التقرير الذى طلبهُ منها قبل رحيلها للمنظمة الأخرى، متسائلة: ألا يدل ذلك على أنه كان يُقدِرك ولكنكِ التى أسأتِ التقدير؟ - فضحكتْ قائلة: ليس الأمر كما تتصورين، فقد بدأتْ الإدارة تشكو من تدخلات برنامج الهيكلة، وكان رأيى ينصب فى صالحها.. حينما انتقدتُ ترك زمام الأمور كاملًا للخواجات، وطالبتُ بوجود خبير تنمية مصرى يعمل لسد الفجوة الثقافية والمهنية بيننا وبينهم، فاستجاب الخواجات للمقترح، ولكنهم استعانوا بمركز تنموى مجهول اختاروه بمعرفتهم، فكانت النتيجة أن المركز حصل على مبالغ مالية كبيرة دونما يقدم لنا شيئًا! - ولماذا لم يستشركم الخواجات فى الرأي؟ ولماذا لم تصر جمعيتك على الاستعانة بخبير مصرى بمعرفتها؟ - وبدون تفكير أجابتني: كانت جمعيتى توافق على أى مقترح يقدمه الخواجات، ليس عن قناعة طبعًا، ولكن رغبة فى إثبات التعاون وحسن النوايا لكسب ثقتهم.. بشرط أن تكون تلك المقترحات بعيدة عنهم! الاحتلال الأجنبى - وكيف سار الأمر مع مساعد مدير البرنامج الأجنبي؟ - استطردتْ: بعد إعلان مديرى لعودتى أمامه، فوجئت به يتقبل الأمر بابتسامة واسعة، وبعد أيام، وجدته يدعونى لحفل الافتتاح الذى أعده احتفالًا بمنزله فى أحد أرقى أحياء القاهرة، لكنى اعتذرتُ حينما لم أجد أحدًا من أصدقائى مدعوًا! مع الوقت.. لاحظتُ كم كان ذكيًا فى قدرته على فتح موضوعات نقاشية مثيرة لعقلى، ولتنشيط لغتى الإنجليزية، ولمحبتى فى التعامل مع الخواجات التى دائمًا ما كنت ناجحة فى عقدها.. - أعرف ميولك للانفتاح مع العالم.. منذ درسنا معًا فى دورات علم النفس! - استطردتْ: مع الوقت، بدا كمن لديه فكرة يريد أن ينقلها إليّ، ورغم أنه لم يذكر شيئًا عن عدم إعجابه بأسلوب المدير فى إعادتى للوظيفة التى قامت زميلته ببرنامج الهيكلة فى فتحها، والتى تركتُ عملى بسببها.. لكنى كنتُ أرى هذا فى عينيه وأسلوبه! - ألم يسألك عن سبب رحيلك وعودتك؟ سألتُ صديقتى، فأجابتْ بابتسامة: ذكرتُ له القصة أكثر من مرة! إلا أننى فى إحدى المرات التى كنا نحضر فيها احتفالًا، وبشكل غير رسمى فوجئتُ به يسألنى بنظرة ارتياب عن سبب عودتى لعملى بعد رحيلى.. فى تلك اللحظة أدركتُ الخطة! - ماذا تقصدين؟ ما جو المؤامرات هذا؟ ضحكتْ قائلة: تصدقى بالله؟ هذا ما قلته لنفسي! وسريعًا ما تذكرتُ مصطلح الاحتلال الأجنبى الذى كان زملائى يرددونه كلما لاحظوا هيمنة الخواجات على كل التفاصيل.. فيصبون غضبهم على الإدارة التى جلبت لنا هذا الإزعاج! بينما يلعب بعضهم لعبة العميل المزدوج! - يعنى إيه؟ سألتها، فأجابت: يعنى يتظاهرون أمام الإدارة برفض برنامج الهيكلة، ولكنهم قلبًا وقالبًا مع البرنامج! والعكس صحيح! - سألتها كيف كان موقفها هي؟ فأجابتنى بأنها رغم الخلاف الجذرى مع برنامج الهيكلة بسبب طمعهم فى وظيفتها، لكنها لم تخفِ يومًا دعمها لفكرة الإصلاح فى حد ذاتها، وإعجابها بتبادل الخبرات مع الهيئات الغربية.. - ببعض التحفظ، عبرتُ لها عن انزعاجى من استغراقها فى فكرة طمع الخواجات فى وظيفتها، وعدم معقوليتها! - فنظرت إليّ ساخرة: إنه المال يا صديقتي! هذه الوظيفة كانت تقدر بمبلغ كبير بالنسبة لهيئة استشارية تعتمد على التمويل الذاتى، وأنا أعترف بصحة وجهة نظرك بأن جمعيتى هى السبب وراء كل ذلك.. منذ شجعتْ الخواجات على الحلم بالوظيفة، ثم ظهرتُ أنا أمامهم جميعًا.. وتمسكتُ بوظيفتى تمسكًا شديدًا لأننى التى أنشأتها.. - ولكن.. كان رأيها يستفز مخيلتى وأسئلتى، فقلت لها: وأنا لا أنتظر ردها: ولماذا لم تسمحى بتبادل الخبرات مع الخواجات فى وظيفتك.. ما دمتِ ترحبين بذلك؟ - نظرتْ لى بابتسامة جميلة التقطتُها سريعًا، قائلة: أفتقد هذه النظرة الصافية، فضحكت عاليًا، وقالت: وأنا أفتقد نفسي! وسريعًا ما عادتْ لجديتها وهى تسألنى قائلة: هل تظنين أننى سعيدة بسماحى لكِ بكتابة كل هذا؟ بالتأكيد لا، ولكن جمعيتى وقادتها لم يتركوا لى ولأنفسهم أية فرصة للنجاة من هذا كله! - وبنبرة يائسة قلتُ لها: يا حبيبتى الفساد فى بلادنا كالماء والهواء! كل ما هنالك أن قادة جمعيتك بالتأكيد يخططون للانتقام منكِ الآن، والايقاع بكِ، وتلبيسك فى كارثة أو فضيحة تخرجين بها من الجمعية، انتقامًا منكِ ومن تجرؤكِ عليهم، خاصة وأنهم قادرون على رشوة أكبر مراكز فى الدولة - كما تقولين -! - صمتتْ بعض الحين، ثم قالت: لا أُخفيكِ سرًا.. البعض يحذرنى من قيامهم بأكثر من ذلك بكثير! ببعض الاستخفاف سألتها: هايقتلوكِ مثلًا؟ - أوقفتنى نظرتها الجادة، فحاولتُ تخفيف الموقف قائلة: لم تخبرينى كيف انتهى موقفك مع برنامج الهيكلة! •