يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين. إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة بإرسال مشاركتك من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى: [email protected] الشحاذ الذى كفر قصة قصيرة بقلم - محمد يحيى حسن راشد ظل فكرى يسير.. ويسير.. يمد كفه الجاف الهزيل، ويمد لسانه الأبيض بالدعاء والشكوى، يشكو الناس لله، والله للناس، كانت المجاهرة بالشكوى سرا من أسرار جلب المال والرزق له، ظل يجوب الشوارع الواسعة والحارات الخانقة والعطفات والأزقة، وكلما خطرت له فكرة بات يرددها فى بكاء ونحيب بصوته الرفيع، فيزداد الرزق و تزيد الأموال. فى وقت ما جاب فى نفس الشحاذ اشمئزاز لم يعرف له مصدر، دارت الحياة دورة كاملة وتغيرت، لم تعد مثلما كان يراها من عين أبيه فى الصغر، باتت الحياة أسرع من قدمه العرجاء، ومن صوته الرفيع، ومن يده الهزيلة، وأصبحت لمن يحيا فى عين فكرى وليست لمن جنى. ربما يكون الشحاذ قد اكتفى؛ إنه يشمئز من ملبسه وشكله الأسود ولسانه الأبيض و قدمه العرجاء وتسوله طوال اليوم ممن يمتلك ويتعفف، كان من العجيب أن تدب فضيلة الاكتفاء فى شحاذ خُلِقَت البسيطة له بيتًا والناس عائلة وكانت أموالهم حقا مفروضا. نظر الشحاذ لكيس المال المكتظ، ونظر للناس ولأشكالهم.. وقال فى سريرته: «امتلك المال الذى يجعلنى مثل الغير»، قاطعه مار رمى بجنيه عملة فى حجره، «إنها بشارة بالموافقة يا فكري، من الغد تذهب إلى دكاكين الملابس والمطاعم وتفعل ما يفعله الغير دون خجل - اللعنة على ما تركه الأب من مهنة وطباع وتطبع، بل اللعنة على الأب ذاته». استعد فى اليوم التالى للخروج إلى الحياة بوجه الإنسان- المدفون خلف وجهه الممتلئ بالجلخ. استحم.. أعاد الاستحمام مرات، هذب شعره وخفف لحيته، وارتدى بعض الملابس المعقولة التى كسبها من تسوله. يستعد الآن لترك ما امتهنه طوال حياته، وزد على حياته حياة الأب ملعون الذكر.. تردد.. فتح باب غرفته المتهالك وأغلقه. يفكر فى الناس فى نفسه. لم يتعرف على هيئته فى مرآته المهشمة، «كلا كلا إنه أحد المارة المتعففين»، قالها وسمعته المرآة فضحِك وضحكت. سيسير فى الطرقات دون مد اليد أو اللسان، سيدفع أبواب المطاعم للجلوس وليس للمال، إن الإنسان الذى كان فى داخل أسواره طيلة الحياة السابقة قد دفع الباب ورطمه. الشارع على غير العادة.. البيوت غير المعتادة.. الأرصفة قد تغيرت.. أعمدة الإنارة قد تجددت.. الأشجار زارها الهواء فتمايلت، وزارها الربيع فنضجت. - أين كانت تختبئ تلك الحياة قبل اليوم؟ متى وجدت؟ أكان كل هذا الجمال غائبًا قبل اليوم أم كنت أنا الغائب؟ تزداد الأسئلة أصبح عقله يفكر فى كل شىء.. كل شيء إلا المال. أصبحت عيناه تنظر إلى الحياة من حوله وتتعجب، هكذا هو الإنسان؛ عندما يمتلك الاكتفاء يتجه صوب الحياة.. ويتأملها!. أراد فكرى أن ينطلق.. من بعيد زحف صوت حفيف، وراح يزداد.. ويعلو حتى وضح؛ إنه ضجيج أطفال يقذفون فكرى بالحجارة والحصى ويسبونه بأبشع السباب وينعتونه بالشحاذ النظيف، وراحوا يردمونه بالرمل والتراب، فى إساءة أخرجت فكرى مما أصبح عليه، وانطلق يريد أن يمسك بأحدهم. عجز فكرى عن الإمساك بطفل منهم بسبب وقوف الكبار له بالمرصاد، صاح الأطفال: «الشحاذ يريد أن يقتلنا»، وتحولت المهانة من يد الصغار إلى الكبار الذين تناوبوا عليه فى لكم وبطش وركل وسب وإهانة ردت وجه الشحاذ وهيكله إليه. - «أظننت نفسك شخصًا؟ أنت شحاذ، ستعيش وتموت ويدك ممدودة كما كان أبوك، وسنظل نعطف عليك حتى نحلل ما نأخذه وننال الثواب».. قالها أحد الكبار وسقط فكرى أمامه. إن العالم لا يقبل أن يتغير أحد، ولا ينسى ماضيا لأحد. سيظل الشحاذ الذى استطاع أن يرى الدنيا ويتأملها يمد يده، يرى الدنيا كما كان يراها من عين أبيه. ظل وحيدًا فى دمه، وبقى فى ذهنه سؤال يعذبه أكثر من الركل واللكم والإهانة «لماذا كتبت عليّ الذلة؟».