كتب : عبد المنعم عصام المنزل علي الطريق، كنت قد تركت أبي في مقبرته، وأمي في مقبرتها، وأخي سعيد، وأخي إسماعيل وخالي عبد العليم، كنت قد تركت الروائيين في مكان لا استطيع أن أستدل عليه ثانية، إلا إذا عدت إلي رواياتهم، كنت قد تركت كل الشعراء الذين أحبهم، تركت أغنياتي الأولي وأغنياتي الأخري، لم أستطع أن أتوقف، أحسست أن الأرض سوداء، وأن الهواء أبيض، وأن السماء زرقاء، وأن الأحلام قوس قزح وأن شتي السفلي أكثر امتلاء من شفتي العليا، وأن كلاما ما، كلاما غامضا، كلاما بسيطا، كلاما بلا معني، سينطلق من بينهما، ويفتحهما، فيصبح فمي مثل مغارة، ويصبح قلبي مثل قنديل أدخل به المغارة، وتصبح شجرة الحب عند الخطوة القادمة دائما، المنزل علي الطريق، والعساكر في الجهة الأخري من المدينة، والسيارات والدراجات والطائرات والأسواق في الجهة الأخري، والموت أيضا في الجهة الأخري، وأناشيد اليمام تتهدل من كل نافذة نمشي تحتها، والفتيات بالشورتات القصيرة، والقمصان الخفيفة جدا، الفتيات ذوات الأقدام الناعمة، والأفخاذ العفية، الشعر الأسود، العيون المكحولة، المنزل علي الطريق، عدد طوابقه غير قابل للحصر، النافذة الأعلي جدا من نافذتي، النافذة قرب السماء، هي نافذة إبراهيم عبد القادر المازني، تحتها مباشرة نافذة مفتوحة علي الدوام، بغير ستائر، نافذة يوسف إدريس، تحتها نافذتي، كنت عندما أطل منها، أتخيل أنهما قرينان لي، أنهما يفعلان ما أفعله، يطّلان عندما أطل، وينسحبان عندما أنسحب، كنت أتخيل كذلك أن المازني، يتعفف، وينظر إلي رؤوس المارة، فما فوق، بلوغا إلي السماء القريبة من رأسه، وأن يوسف ينظر بجرأة إلي بطونهم وخصورهم ومواضع الشهوة والخصوبة فيهم، بينما أصررت علي أن أكون الثالث، علي أن أنظر إلي السيقان والأقدام فقط، أذكر أنني عندما كنت أقابلهما علي السلم، أو في المصعد، كانا ينظران هكذا، المازني يرفع رأسه إلي أعلي ويحدق إلي عيني، ويرتقي فوقهما، كأنه يجبرني أن أرتقي مثله، كأنه يجبرني أن أشفّ واستشفّ، ويوسف يتأمل بطني وما تحت حزام البطن، كأنه لا يجبرني علي شيء، وأنا مثل شخص عليل، يعاني من الخجل، أنظر إلي ما اعتدت النظر إليه، أحملق في أقدامهما وسيقانهما، نظراتي لم تشغلهما، نظراتهما أشعرتني بالقلق والارتباك، فأصبحت هكذا، أتلفت أحيانا، وأدعك عيني أحيانا، وأهرش بطني وأعلي فخذي أحيانا، وقد أغمض عيني، وقد أحلم، وقد ارتاب في كل ما أراه، حتي استطعت أن أراقبهما، وأضبط أوقات نزولهما وصعودهما، وأتحاشاها، كانت ساقا المازني علي الرغم من بنطلونه، تبدوان ناحلتين، مائلتين، إحداهما عرجاء، قالوا لي: إن ذلك من آثار مرض قديم أصابه في الطفولة، ولم أصدق، قالوا لي: موت أبيه المبكر أسقمه فأصابه بالعرج، لم أصدق، قالوا لي: قسوة أخيه الأكبر، أخيه غير الشقيق ونهبه أموال أبيه، ولم أصدق، ظننت أنه عندما يعاين شيئا، يفضل أن يغرز فيه إحدي قدميه، فتبدو عرجاء، وأن يحرر الأخري فتبدو سليمة، إذا أحب امرأة غرس في الحب قدما وتحرر بالأخري، كأنه في حب خالد، وفي الوقت ذاته، كأنه في حب عابر، وإذا صادق العقاد غرس في الصداقة قدما، وتحرر بالأخري، ولما اطمأن، غرسها أيضا، وإذا صادق عبد الرحمن شكري، غرس الأولي، وتحرر بالأخري، ولما اضطرب، حرر القدمين، لقد جعل المازني جسده جسرا بين خلوده وعبوره، بين بكائه وفنائه، بين شعره ونثره، وكانت ساقا يوسف إدريس راسختين، قالوا: أمه السبب، لقد جعلته يخاف الغدر، سألت بعض معارفه: كيف؟ قالوا: لقد أعلن دائما، أنها لم تحب أباه، وأنها ربما لم تحبه كفاية، لأنه ابن هذا الرجل، فأصابته اللعنة، ووقف بقدميه كاملتين علي الأرض، مثل شخص بغير أم، وجعل الأرض أمه، لكنني لم أقتنع، ذهبت إلي معارف آخرين، قالوا لي: لقد خانته الأرض أيضا، كانت تفر أحيانا من تحت قدميه، كان أحيانا يطأها علي أنها أرض، فيكتشف أنها سراب أرض، فاعتاد الرسوخ فوق كل أرض حقيقية تصادفه، معارف آخرون قالوا لي: لقد بهره جمال زوجته رجاء، فخاف من الجمال، وبهره حنانها، فخاف، آخرون قالوا: ابنته نسمة تشبهه، انظر إلي قدميها، إنهما راسختان، والدة المازني طارت به إلي أعلي، وأخلصت لأبيه المزواج طوال حياة الأب، وأخلصت لابنها بعد موت الأب طوال حياتها، وكانت تبكي إذا مرض، وتبكي إذا شفي، وتبكي إذا تهيأ للنجاح، وتبكي إذا نجح، فأحب دموعها، وأحب الصحنين اللذين يفرزان الدموع، وقال لها: يالعينيكِ، فرفعت عينيها إلي السماء، وفعل مثلها، وظل ينتظر الحنان، ظل يحلبه منهما، العيون والسماء، والدة يوسف غدرت به، لم يرها مرة تبكي، حتي عندما مات أبوه، فهرب يوسف من النظر إلي العيون، وتخيل أن ما يحرك الناس أكثر هو البطون، هو تلك البطون، وما يحركهم أكثر وأكثر، هو ما تحت البطون، هو ما تحت تلك البطون، أما أنا فقد ظللت أنظر إلي الأقدام العجولة، والسيقان النهمة، التي تصورت أن أصحابها ذاهبون إلي العمل، ذاهبون إلي الحب، ذاهبون إلي المجهول، وفي الأخير، اكتشفت أنهم ليسوا ذاهبين إلي أي مكان، كنت انظر إلي الأقدام البطيئة، والسيقان الرخوة، فأتصور أصحابها غارقين في الأسي، حتي أجدهم غارقين في الملذات، ضبطني المازني، ومثله ضبطني يوسف، كنت أراقبهما، الأول لم ينهرني، اكتفي بقول: انظر إلي أعلي، الثاني نهرني، وقال لي: الناس هاهنا، وأشار إلي بطنه وما تحتها، عرضت من الاثنين، وتذكرت أمي التي لم أبح لها مرة واحدة بحبي، وأصابني الندم، وتذكرت إحدي صاحباتي، كانت قد رفعت حجابها وباحت، لكنني انصرفت عنها، وأصابني الندم، وتعودت أن أخفض بصري، أكتفي بالسيقان والأقدام، اكتفي بالأقدام، اكتفي بما تحت الأقدام، حيث الأرض سوداء، والهواء أبيض، والسماء زرقاء، والأحلام قوس قزح والمنزل الذي أحببته، ومازلت أحبه، علي الطريق.