كان إبراهيم الموصلى عبد الوهاب عصره وأوانه يحتكر صفة الغناء فهو المغنى الأول والملحن الموهوب وصانع النجوم والمطرب المرغوب فيه عند خلفاء العصر العباسى جميعهم ولما مات ورث ابنه إسحق الموصلى كل هذه المهام. كان إبراهيم يمرعلى ابنى الخليفة محمد المهدى وهما موسى الهادى وهارون الرشيد فلما مات المهدى أشرقت شمس السعادة على الموصلى الكبير حتى إن موسى كافأه فى يوم واحد بمائة وخمسين ألف دينار ولا أظن أن نجما فى الغناء حصل على هذه المكافأة منذ زمن الموصلى إلى زمننا هذا..أرزاق! كان الغناء مقصورًا على الجوارى سوداوات اللون فبحث الموصلى عن جوار بيضاء وقام بتدريبهن على العزف والغناء، لا من أجل الفن إنما للفلوس. فكان يشترى الجارية بمبلغ زهيد ليعلمها العزف والغناء والمؤانسة وحلو الحديث والأشعار وتطريز الثياب وتنسيق الموائد وإعداد الطعام ثم يبيعها نجمة ومطمعا للخلفاء والأثرياء. هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموى من دمشق وأنشأ دولة أموية فى بلاد الأندلس استمرت 284 سنة حكم فيها عبد الرحمن وكان ملقبا ب عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش أول 34 سنة وتبدأ بعام 138ه ثم ثبت خلفاؤه دعائم دولته وعاشت فيها العلوم والآداب والفنون أزهى عصورها. نجم نجوم الغناء فى الأندلس، بعث الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ليحضره من بلاد أفريقيا التى هرب إليها من كيد إسحق الموصلى له عند هارون الرشيد، فكان هذا الفتى الأسود منشئ للأكاديمية العربية للفنون ووصل إلى المجد الفنى الذى لم يصله حتى من علموه أصول الصنعة وهم إبراهيم وإسحق الموصلى ومنصور زلزل أمهر عازفى العود فى عصره. وسطعت شمس الأندلس على أوروبا وتعلم أبناؤها فى أكاديمية زرياب ونشروا ما تعلموه فى بلادهم. وكان من الطبيعى أن تتوارى الأصوات الغنائية الرجالى منها والنسائى أمام سطوة وإمكانية زرياب فى الغناء، ولم نسمع أسماء لامعة بالعدد الذى وصلت إليه المغنيات فى زمن بنى أمية والعباسيين. من أشهر مغنيات الأندلس ابنة زرياب، وابنة المهدى واسم كل منهما علية، الأولى عاشت طويلا بينما ماتت الثانية فى عمر الزهور فأتيح لمن عاشت أطول حفظ عدد أكبر من الأغانى، أما نجمة الغناء فى هذا العصر فكانت «ولادة بنت المستكفى». ويحكى التاريخ كثيرا عن جمالها وروعتها وثرائها، إنها بنت الخليفة المستكفى بالله وقد أوتيت جمال الصورة والأدب والتربية والغناء الفاتن بالصوت العبقرى، شبت فى بيته مرحة ضاحكة تكتب الشعر، وقد انقطعت للفن فلم تتزوج أسوة بعلية بنت المهدى فى بغداد. وكانت ولادة ملمة بالتاريخ وتقويم البلدان، وكان الشعر سجالا بينها وبين ابن زيدون. وتوفيت عام484ه أما المغنية «أنس القلوب» فهى جارية غنت بعض الأبيات ورد عليها بأبيات مثلها الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم مما آثار غيرة المنصور ابن عامر الذى قال لها: قولى وإصدقى القول إلى من تشيرين بهذا الشوق والحنين، فقالت: إن كان الكذب أنجى فالصدق أحرى وأولى، والله ما كانت إلا نظرة ولَّدت فى القلب فكرة فتكلم الحب على لسانى، وبرح الشوق بكتمانى، والعفو مضمون لديك عند المقدرة، ثم بكت وأنشدت «أذنبت ذنبًا عظيمًا.. فكيف منه اعتذارى..والله قدرى هذا.. ولم يكن باختيارى» فعفا عنها المنصور. أما المغنية «الزلفاء» فكانت جارية اشتراها الخليفة سليمان بن عبد الملك، ودخل عليها الشاعر العباسى العباس بن الأحنف وقال لها: أجيزى هذا البيت «أهدى له أحبابه أترحه..فيكِ واشفق من جواب زاهر» فردت عليه ارتجالها:«خاف القلوب إذ أتته لأنها.. لو كان باطنها خلاف الظاهر» فضم الأحنف هذا البيت إلى بيته وقال لها لئن ظهر هذا البيت لا دخلت لكم منزلا. وكانت «ربيحة» جارية لجعفر بن سليمان اشتراها بمائة ألف درهم أما «روب متى» فكانت مغنية هندية ذات حسن وجمال وبنت نكتة، وكانت «الريباس أم كلثوم» شاعرة ومغنية مجيدة، أما «الزرقاء» وهى صاحبة ابن رامين فقد اشتراها جعفر بن سليمان وكانت الجوارى يتعلمن منها الغناء أما أم عمرو والأصبهانية وكان يهواها سماك بن النعمان ووهبها عددًا من الضياع التى كان يمتلكها وكتب عنها كتبا وحملها إليها على ظهر بغل.. أما «فريدة مولاة آل الربيع» فهى أصلها من الحجاز تعلمت الغناء فى دار آل الربيع ثم ذهبت إلى البرامكة فلما قتل جعفر بن يحيى هربت، وسأل عنها الرشيد فلم يجدها وصارت لمحمد الأمين فلما قتل خرجت ليتزوجها الهيثم ابن مسلم وتنجب له عبد الله ولما مات الهيثم تزوجت السندى بن الجرشى. قليلات هن المغنيات اللائى استطعن أن يصنعن لأنفسهن مكانة تحت شمس الأندلس إلى جوار العندليب الأسود زرياب ذلك المغنى والمعلم ورائد التنوير فى العصر الأندلسى.