والمعاناة هى التى تصنع الفن الأصيل، وكما عانى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش فى عصرنا، عانى زرياب فى القرن الثانى الهجرى - ولد عام 160ه من والدين فقيرين- الذى تسلط عليه اسحق ابن المطرب إبراهيم الموصلى فقد غار من ذكائه وفنه وقدرته على امتصاص الخبرات والثقافات التى يصادفها، استفاد من إبراهيم الموصلى، ثم من ابنه إسحق، ومن المغنى وعازف العود منصور زلزل الذى طور فى شكل آلة العود. طلب الخليفة هارون الرشيد إسحق الموصلى مطرب مجلسه أن يحضر له صوتا جديدا من باب التنوع فاختار زرياباً. بعد أن غنى راح الرشيد يمتدح موهبته واكتشف أنه يعتز بكرامته وفنه وعوده الذى نحته بيده فأوصى الرشيد المغنى إسحق بأن يعتنى بزرياب لكن إسحق غضب بشدة بعد أن فوجئ بالمستوى الفنى لزرياب فقد أخفى على أستاذه قدراته ومعلوماته وفنه. نادى إسحق زرياباً وقال له «شوفلك بلد ثانية غير دى» فلن أسمح لك أن ترتقى أنت فوقى فاختفى زرياب ولما سأل عنه الرشيد كان «الإسفين» جاهزا من إسحق إذ قال للرشيد إنه مجنون يزعم أن الجن تكلمه ولا يرى فى الدنيا من يعادله فى الغناء ثم إنه غضب لأنك يا مولاى تأخرت عليه بالجائزة التى كان ينتظرها منك ورحل زرياب من بغداد إلى القيروان مارا بمصر ثم ليبيا ثم تونس. وهناك زاعت شهرته فى ولاية أفريقيا وبقى بها 15سنة عاش فيها حياة مرفهة وانقسمت القيروان إلى حيين الأول حى الزاهدين والثانى الحى الزريابى الذى يتجمع فيه محبو فنه حتى أصابه الغرور فوشى بعض حاشية الملك زيادة الله له عنده وأساء إلى الملك وهو يغنى فقال له عليك أن تغادر البلاد فى بحر ثلاثة أيام وإلا قطعت رقبتك!. كان عبد الرحمن بن معاوية قد هرب من دمشق وأنشأ دولة أموية فى بلاد الأندلس استمرت من 138 ه إلى 422 ه فبعد وفاته تولى الحكم ابنه هشام الذى أرسل إلى زرياب ليأتى إلى الأندلس، واستقبل هناك استقبال الفاتحين رغم أن الأمير هشام قد توفى أثناء رحلة زرياب إلى الأندلس وتولى شقيقه عبد الرحمن الحكم لكنه كان أكثر كرما مع زرياب حيث أوصى عليه أمير قرطبة وهى إحدى محطات رحلته إلى الأندلس.. ولما وصل وجد الخير كله فى انتظاره فقد خصص الأمير له قصراً للإقامة وراتبا شهريا 200 دينار و20 دينارا لأولاده وثلاثة آلاف دينار فى كل عيد و300 مدىّ من هيئة التغذية العامة إلى جانب عقود ملكية من الديار والبساتين والضياع بما يساوى 40 ألف دينار واحتضنه الأمير بمجالسه وعلى مائدة طعامه وجعل له بابا خاصا يدخل إليه منه إذا أراد الأمير الاستماع إلى غنائه فلا يدخل منه غيره يعنى مغارة على بابا فتحت بأمر سمسم على مصراعيها من أجل زرياب ليلم منها براحته دهب.. يا قوت» مرجان.. أحمدك يارب. قرأ زرياب كتاب «الموسيقى» لأرسطو وحفظ عنه عشرة آلاف لحن وابتكر وسيلة جديدة لاكتشاف المواهب الغنائية وأخرى لتحفيظ الألحان. وابتكر قالب «النوبة» الغنائى ومازال متداولا فى بلاد المغرب، وأضاف الوتر الخامس للعود واستبدل ريشته بريش النسر بدلا من الخشب الذى كان عنيفا على أصابع العازف وعلى أوتار العود، كان على معرفة بالعلوم القديمة والموسيقى الكلاسيكية والإغريقية، وعالما بالنجوم وقمسة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها - أما أهم إنجازاته فهى أول أكاديمية فى العالم وكان يقوم هو وأبناؤه بالتدريس فيها فى مجال العزف وصناعة الآلات والأناقة وإعداد الموائد والنوادر والأخبار واستخدام العطور والتحق فيها 700 مبعوث من أوروبا وعادوا لبلادهم لينشروا ما تعلموه فيها ولايزال هناك بعض المعاهد التى تحمل اسم زرياب وقد تخصصت فى تدريس صناعة الآلات وعلوم الموسيقى. بينما من النادر أن نجد فى بلادنا معهدا أو مؤسسة تحمل اسم هذا الرجل الأسطورة. لكن هناك فى الجزائر شارع اسمه «حديقة زرياب» يسكن فيه الدبلوماسى الكبير الأخضر الإبراهيمى وقد جاء إلينا ليتعرف على إنجازات الرجل الذى يسكن فى شارع يحمل اسمه.