(محمود درويش) أمْ عناقُ الصدمتينِ ؟! محيط - خاص كانت بداية (درويش) من قضية عايش تفاصيلها في الواقع وهو في السابعة من عمره، حين عاد إلى (البروة) بعد عامين من الرحيل فلم يجدها ولم يجد الحقل ولا المنزل، ليبدأ رحلته المعروفة مع السجن والحزن والمنفى...، وإذا أخذنا بالمقولة المعروفة لعلماء الاجتماع : " مشاهد الطفولة مهد الشخصية " فإنّ ما شاهده (درويش) في طفولته كان كافياً لتشكيل شخصيته الشعرية الغاضبة ... لقد استمرّ (درويش) غاضباً حتى انتهى، ولم يمتْ فيه الغضب حتى مات، ولأنه أوقف نفسه على قضية فلسطين طوال عمره الشعري فقد أصبح هو قضية مثلها : حياته وموته، شعره ونثره، كلامه وصمته ... إلخ، ومامن أحد إلا وينظر إليه كذلك، السياسي، والأدبي، وربما عداهما...، وما اجتماع الأطياف المتباينة يوم جنازته إلا دليل من الأدلة الكثيرة على ذلك... يا ترى : ما الذي يميّز تجربة (درويش) عن غيرها من التجارب الأخرى ؟
هذا السؤال يحتاج إلى دراسة علمية تتتبّع رحلة (درويش) من الألف إلى الياء لكي تضع إجابة كافية شافية لتاريخنا الأدبي، إذ ليس من الممكن أن يدرك أحدنا بقراءة متقطِّعة عالم (درويش) بكل ما يحتويه هذا العالم من مخلوقات ومظاهر طبيعية متنوِّعة على المستويين : الشعوري والشعري، لكن ما أراه من خلال قراءة للمتعة أنّ أبرز السمات التي ميّزت تجربة (درويش) عما سواها من تجارب الآخرين سمة (الصدمة) التي وجد فيها صورته، ووجدت فيها صورتها !! يعرف كل من يتعاطَى الشعر – وإن بشكل محرّم - أنّ الشعر لحظة صادمة يتعرّض لها الإنسان، ويعرف كل متابع – مهما كان بليداً – أنّ القضية الفلسطينية صدمة، وقد شاء الله أن توافق صدمة فلسطين موهبة خالية في (درويش) لتتمكّن منها، وإذا كان الشعراء كلهم مصدومين بالقضية الفلسطينية، فإن ظرفنا التاريخي لم يجد علينا إلا بشاعر واحد يتملكنا؛ ربما لأنّ صدمته لم تكن كصدمتهم، هو رأى وأكثرهم سمع، هو عبّ من واقع قريب يلمس نتوآته وهم يعبون من واقع بعيد تنقله إليهم شاشات البلازما، هم يتأذون من اسم السجن، وهو تأذى من أقفاله، وجدرانه، وأزراد سلاسله ...، كل شيء في حياتنا له مستويات، وللصدمة مستويات أيضاً، وبقدر مكانك من الصدمة ومكان الصدمة منك تكون شاعراً ... ولد (محمود درويش) عام 1941م وأصدر ديوانه الأول عام 1964م، وفي أولى قصائد ديوانه قال : " الزنبقات السودُ في قلبي ... وفي شفتي اللهبْ من أي غاب جئتني يا كلّ صلبان الغضبْ بايعت أحزاني .. وصافحت التشرد والسغبْ غضبٌ يدي .. غضبٌ فمي .. ودماء أوردتي عصير من غضبْ يا قارئي ! لا ترجُ من الهمسَ ! لا ترج الطربْ هذا عذابي .. ضربة في الرمل طائشةٌ وأخرى في السحبْ ! حسبي بأني غاضبٌ والنار أولها غضبْ ! " . كثيراً ما تساءلت لماذا سمى (درويش) قصيدته هذه (إلى القارئ)، وكثيراً ما جال في خاطري أنه أراد لها أن تكون بياناً، بياناً لكل قارئ يبحث عن متعة، بأن ما يقرأه هنا شعر غاضب، لشاعر غاضب، ينتمي إلى مكان وزمان غاضبين... ما بين موقف الاحتلال مع قريته وديوانه الأول (أوراق الزيتون) أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، ظلّ فيها (درويش) غاضباً، وجاءت قصيدته الأولى لتفجِّر في كلِّ واحد منا هذا الغضب كأنما كتب أحرفها بعد الموقف مباشرة، وكأنما سمعناها وقتذاك، ثلاثة وعشرون عاماً لم تفلح في إطفاء ذلك الموقف، لأنّ ذلك الموقف قد صار هو، قد صار (محمود درويش) الذي نعرفه ...
لقد تعدّدت الاتجاهات الفنية التي سلكها (درويش) مثلما تعدّدت اتجاهات قضية فلسطين، وتعددت كذلك مستويات تعبيره مثلما تعدّدت هي، لكنه ظلّ شاعرها الوحيد مثلما ظلت هي قضيته الوحيدة ...، ولد (درويش) بميلاد القضية الفلسطينية ولن يموت إلا بموتها، ولعلّ هذا ما كان يشعر به (درويش) نفسه، حين كتب قصيدته (الوداع الأخير) في ديوانه (ورد أقلّ)، حيث قال : رأيت الوداع الأخير : سأُودَعُ قافية من خشبْ سأرفع فوق أكف الرجال، سأرفع فوق عيون النساءْ سأرزم في علم، ثم يحفظ صوتيَ في علب الأشرطهْ ستغفر كل خطاياي في ساعة، ثم يشتمني الشعراءْ سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة ستروى أساطير عني، وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدهْ ستبحث صاحبتي عن عشيق جديد تخبئه في ثياب الحدادْ سأبصر خط الجنازة، والمارة المتعبين من الانتظارْ ولكنني لا أرى القبرَ بعدُ . ألا قبر لي بعد هذا التعبْ ؟ لقد قدر (درويش) أن لا يكون له قبر بعد هذا التعب، لأنه لن يموت ما دام لفلسطين قلب ينبض بأغنيات الحياة . ثمة جزئية لا بد من الإشارة إليها هنا - لتثبيت الفكرة السابقة - : هي انتقال أثر القضية الفلسطينية على (درويش) إلى قارئ الشعر الدرويشي حتى في مرحلته الأخيرة، والتي أطلق عليها أحد الدارسين المرحلة الوجودية، والتي هي بحاجة إلى قراءة تأويلية جادة من أجل الوصول إلى معناها – إن كان لمثلها معنى محدد - ، فمن يقرأ هذه القصائد يجد عدداً من الإشارات النصية تأخذ القصيدة بعيداً عن فضاءات القضية الفلسطينية، ورغم ذلك لا يستطيع القارئ أن يقنع نفسه بذلك، فضلاً عن إقناع قارئه، لذلك تجده يتكلف في محاولة ربط هذه القصيدة بالقضية الفلسطينية حتى لو لم تكن لديه الإشارات النصية الكافية ... لولا عناق الصدمتين ماكان (محمود درويش) إلا فلاحاً يعيش في " كوخ ناطورٍ من الأعوادِ والقصبِ " ! ألا فليرحم الله كلَّ صدمة تعانق صدمة فتنجب غضباً ...، تنجب شاعراً...، شاعراً مثل (محمود درويش) يتسع لسانه للتعبير عن صدمتين !!