يظل محمود درويش حالة شعرية متفردة تستحق التأمل مليا في سياقتها الابداعية و النصية وهذا ما ذكره د. صلاح فضل في مفتتح كتابه محمود درويش.. حالة شعرية الصادر عن الدار المصرية اللبنانية. أكد فضل في الكتاب ان درويش قد حقق المعادلة المستحيلة للجمع بين الشعر الحقيقي, وسحر التلقي, وكاريزما الالقاء فلم يخضع لابتزاز الجمهور حيث كان يريد التخلص من جاذبية القضية الفلسطينية ليدخل في منطقة ارحب وهي جاذبية الشعر الانساني الخالد الذي يحتفظ بقوته في كل زمان ومكان وبأي لغة. واعتبر ان درويش بدأ بالنظر لمرآة الذات التي تعكس تحولات الوطن والعالم من حوله واكتشاف قدرة الشعر علي توليد اشكال للتعبير عن أدق الحالات الداخلية للإنسان. ويشير المؤلف إلي ادراك درويش بتجربته الذاتية ان قصاري ثورته ان يتغير شعريا إلي أن يبلغ منطقة الرؤيا حيث يقول درويش لا أكتب شعرا لأغير الواقع لكن الواقع ارغمني علي الكتابة واستبعدني من شدة ما أذلني, ومن كثرة ما كان واقعا وقعت فيه, ولكن هذه العبودية تمنحني الحرية فهذه علاقتي بمعادلة الواقع التي استخرج منها حريتي من جهة وقابلية الواقع للتحرر والتغيير من جهة اخري يذكر فضل انه اثناء بعثته للدكتوراه في مدريد صدم بالنكسة فلم يجد شيئا يشفي جراحه سوي قصائد نزار قباني هوامش علي دفتر النكسة واقترب من المستعرب الاسباني بدرو مارتينيث مونتابث حيث كان يترجم قصائد لمجموعة من الشعراء الشباب الذي يطلق عليهم شعراء المقاومة فقام فضل بمراجعة ترجمة قصيدة بطاقة هوية لمحمود درويش إلي الاسبانية وتلك التي أعلنت عن مولد انسان عربي من خلف اسوار الاحتلال الصهيوني يتمرد علي الهزيمة ويعلن انتصاره الروحي حيث لفت انظار العالم العربي والغربي بجسارة موقفه وقدرته علي التعبير الشعري. وأشار فضل لانتقال درويش بين أشكال الكتابة الشعرية بخطوات عريضة ان لم تكن مفاجئة فهو شاعر تحولات تعبيرية كبري ووجد فضل تقاربا بين اسلوب شعر درويش وأسلوب شعر نزار قباني حيث قدرته المذهلة علي تجسيد المشاهد وتحويل الدلالات الغائبة إلي معالم ملموسة. ويستكمل المؤلف قائلا ان درويش لديه قدرة فائقة علي التحول من اسلوب لأخر فبدأ شاعرا غنائيا حسيا يقتفي اثر استاذه نزار قباني ويكن الأعجاب لعروبة المتنبي وقدرته علي استيعاب تيارات الشعر العربي والغربي بأكملها وطمح لكتابة قصيدة ملحمية عظمي وأدخل درويش موتيفات جديدة في كل قصيدة ولقطات منسوجة بمهارة فائقة تحول دون ضياع المعني فاستطاع مثل كبار الفنانين التشكيليين ان يبث رموزه ويطلق اشارته ويخطط هندسته للقصيدة في نسيجها وتقنياتها ودرجة كثافتها في كل مرة يمارس فيها مغامرة الكتابة وكأنه يولد من جديد فتكمن حساسية النص الدرويشي في جمالية اختيار الملمح المعبر عن تحولات الحياة وترجمته في تقنيات الشعر. وانتبه بعض الباحثين الاسلوبيين إلي وجود بعض السمات الدالة في شعر درويش اهمها خاصية التقابل التي تتجلي في أسلوب القطع والانتقال حيث ينتقل الخطاب من معني لأخر ولا يرتبط به ارتباطا مباشرا في جملة صغيرة الحجم متوازية ومتراكبة يستعرض المؤلف في كتابة عدة قراءات نصية للدواوين محمود درويش ومن الجدير بالذكر ان دواوين محمود درويش قد بلغت ثلاثين ديوانا شعريا إلي جانب العديد من الكتب النثرية والرسائل والسير فجاء ديوان حالة حصار الذي يحيل الوجود العربي المختنق بأخبار الماسأة والدم إلي قطرات صافية من الشعر والفن فكان درويش يحلم بأن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن تجربة شعبه الأليمة املت علي نبراته ايقاعا مأساويا موجوعا فالشعر بطبيعته يقاوم انكسار الروح فهذا الديوان نموذج ملتهب للقصيدة الدرامية المطورة التي لا تتعدد فيها الأصوات ولا الشخوص بل تتراكب اللفتات والمواقف وتنمو الحوارات المتخيلة لتصنع رؤية شاملة لحالات الشعر والحصار والحب والحرية. ويقول فضل في كتابة ان محمود درويش هو شاعر القضية الاخطر في التاريخ العربي وبالرغم من ذلك هو شاعر حداثي وابرز سمات الحداثه هي غياب الموضوع وعدم التحديد فالحداثة تكمن في فتح النصوص الشعرية لمختلف القراءات دون الامساك بالمعني متلبسا بالعبارة فحداثة درويش تقترب من الشعر التعبيري الملموس. وفي ديوانه الحادي والعشرين لا تعتذر عما فعلت يذكر فضل ان درويش قد أعلن نيران الشعر لتجتاح حدود الحداثة ومصير الوطن وكان قد ناهز الثالثة والستين من عمره ومازال يتفجر بالقصائد الفوارة ويقفز برشاقة علي جواد الأمل. أما في قصيدة طباق يشير المؤلف لتطابق درويش مع ادوارد سعيد بعد غيابه ومن الجدير بالذكر أن عنوان القصيدة مأخوذ من مصطلحات ادوارد النقدية كونترابونتال الذي يعود لمجال الموسيقي لا البلاغة ويعني( الاستعمال المتزامن للحنين أو أكثر لانتاج المعني الموسيقي بما يسمح القول عن أحد الألحان انه النقطة المضادة للحن الآخر) وهذه القصيدة توجز مشهد الروح الفلسطيني وتعيد صياغته وهي ليست مرثية ولا بكائيه حارة لكنها حوارية من الطراز الرفيع. يشير المؤلف لاعلان درويش عمن يغتاله بسوء الفهم لشعره وتحريف معانيه وتوجيه الاتهامات اليه في قصيدة بعنوان اغتيال والمعنيون بالذكر في تلك القصيدة هم النقاد فهو يرصد العلاقة المتوترة بين الشاعر والناقد باعتبارها من البداية نفيا للآخر واغتيالا له ويذكر فضل ان اشارة درويش لحالات النزاع تلك هي عبارة عن نموذج بسيط لموقف القراء العاديين منه فدرويش اكبر شاعر دلله الجمهور في العصر الحديث وتسامح معه النقاد ومنحوه محبة وتعاطفا لم يسعد بهما شاعر آخر في الحياة العربية فهو لم يجرب مذاق الصراع الحقيقي بين الشعراء والنقاد.