"إن تحقيق الأمن السياسي للدولة يكون بالحفاظ على سلامة أرضيها، وعلى نظام الحكم الذي ارتضته فئات الشعب التي أقيم هذا النظام لتحقيق مصالحها. وبحماية الأشخاص الذين يشغلون المناصب الرئيسية في المؤسسات التي يقوم عليها هذا النظام. وكذلك بحماية الأنماط الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية التي ارتضتها هذه الفئات من محاولات الهدم. وعلى هذا الأساس فإن الأمن السياسي له نواحيه العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد كان تعدد أوجه الأمن السياسي سببًا في تعدد الهيئات التي تقوم بتحقيقه، وأصبح لكل من هذه الهيئات واجبان أحدهما وقائي والثاني علاجي. يشمل الواجب الأول جمع كافة المعلومات عن أي نشاط مضاد قبل وقوعه، وعن العدو القائم أو المنتظر، وعن أية تحركات يُحتمل القيام بها. أما إذا ما وقع الإعتداء فعلًا فإنه يصبح من واجب هذه الهيئات التصدي له بالبحث والمتابعة لمنع تحقيق آثاره الضارة وإيقاف القائمين بهذا النشاط عند حدهم بقوة القانون أو قوة السلاح". بهذه الفقرة الجامعة عن مفهوم الأمن السياسي وأهميته ومجالاته والهيئات المنوط به تحقيقه، افتتح الراحل اللواء حسن طلعت كتابه المهم "في خدمة الأمن السياسي" الصادر عام 1983. وهي الافتتاحية التي تُثبت لنا صدق رأي الكاتب البريطاني في شئون الاستخبارات جون لوكاريه عندما قال: "إن أجهزة الاستخبارات هي مقياس صحة الدولة السياسية، وهي التعبير الحقيقي الوحيد عن وعيها وعقلها الباطن". في هذا الكتاب دون اللواء حسن طلعت ذكريات عمله في خدمة الأمن السياسي على مدار اثنين وثلاثين عامًا امتدت من 1939 إلى 1971. وقد مهد لكتابه بنبذة تاريخية عن نشأة أجهزة الأمن السياسي في العالم، ونشأة أجهزة الأمن السياسي الداخلي في مصر بداية من عام 1882 تحت اسم إدارة الأمن الأوروبي بوزارة الداخلية، ثم إدارة القلم المخصوص بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، التي تفرع منها القلم السياسي. كما تحدث عن نشأة المخابرات الحربية في مصر بداية من عام 1935، التي أصبحت المسؤولة عن الأمن الحربي. وتحدث عن إنشاء قسم مخصوص بالسراي الملكية يتبع قائد شرطة القصور الملكية، كانت مهمته جمع المعلومات ومتابعة أعداء الملك فاروق الشخصيين. وبقيام ثورة يوليو 1952 تم إلغاء القسم المخصوص والقلم السياسي، وتولت المخابرات الحربية مسؤوليات الأمن السياسي الداخلية والخارجية، إلى أن تم إنشاء إدارة المباحث العامة (مباحث أمن الدولة وقطاع الأمن الوطني لاحقًا) يوم 22 أغسطس سنة 1952 لتتولى مسئولية الحفاظ على الأمن السياسي الداخلي. ثم أعقب ذلك عام 1954 إنشاء المخابرات العامة المصرية، التي أصبحت فيما بعد المسئول الرئيس عن الأمن السياسي الخارجي، مع اعتبارها الهيئة الأم لجميع أجهزة الخدمة السرية في مصر. وعبر فصول الكتاب التسعة عرض اللواء حسن طلعت لسياق ميلاده ونشأته وتكوينه الأمني والسياسي وظروف التحاقه بكلية الشرطة وتخرج منها عام 1939. كما تحدث عن تجارب وخبرات عمله بمحافظة قناة السويس التي كانت تشمل بورسعيد والقنطرة غرب والإسماعيلية وضواحيها، وعن تجارب وخبرات عمله رئيسًا للقسم المخصوص بمحافظة الإسماعيلية في مايو 1947، ورئيسا للمنطقة السياسية بقسم عابدين بالقاهرة يناير 1952، ومأمورًا لقسم الأجانب مايو 1952، حتى تم نقله إلى إدارة المباحث العامة عام 1952، والتي أصبح مديرًا لها بداية من عام 1964 إلى عام 1971. وخلال هذه السنوات التي امتدت من أربعينيات القرن العشرين حتى بداية سبعينياته، عاصر وعايش اللواء حسن طلعت أهم الأحداث السياسية والأمنية في مصر، وكان شاهد عيان على بعضها، وعرف تفاصيل وأسرار بعضها الآخر من مصادرها الأصلية، وتابع صداها وتأثيرها على الاستقرار والوضع الأمني؛ مثل الحرب العالمية الثانية، وصدور قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب وإقامة الدولة اليهودية في 15 مايو 1948، وإلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951، وحريق القاهرة 1952. وقد عرض اللواء حسن طلعت في كتابه لتفاصيل الصدام بين الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة، وبعد قيام الثورة سنة 1954 وسنة 1964، وتحدث عن محاولات قيادات الجماعة المستمرة لإعادة نشاط الجماعة المحظورة، وكيف استعانوا عبر تاريخهم بالتقية والكذب والتدليس وإظهار عكس ما يبطنون لتحقيق أهدافهم في الوصول للسلطة وحكم مصر. كما عرض لأهم الأحداث السياسية والأمنية التي عاصرها وشارك فيها من خلال عمله بإدارة المباحث العامة بعد ثورة يوليو، وأبرزها محاولات الاغتيال التي استهدفت الرئيس عبد الناصر، والوحدة مع سوريا ثم الانفصال عنها، ونكسة يونيو 1967 وتباعتها الأمنية، وتفاصيل الصدام بين الدولة وعبد الناصر وبين مجموعة عبد الحكيم عامر، التي انتهت بانتحار عامر، وتفاصيل الصدام بين الرئيس السادات ومن أُطلق عليهم مراكز القوى عام 1971، وغيرها من أحداث سياسة وأمنية كثيرة يضيق المجال هنا عن ذكرها، وربما أكتب عنها لأهميتها بشكل منفصل في مقالات لاحقة. لكن أبرز ما أحب التوقف عنده في هذا الكتاب والتأمل فيه كثيرًا واستخلاص الدروس والنتائج منه، هو ما ذكره اللواء حسن طلعت في نهاية الفصل الرابع، من أن السنوات الممتدة من انسحاب ودحر المعتدين بعد العدوان الثلاثي سنة 1956 إلى قيام الوحدة مع سوريا سنة 1958، تمتعت فيها مصر باستقرار داخلي لم تتمتع به من قبل، وكانت هي العصر الذهبي للأمن السياسي ورجاله؛ لأن الزعامة الوطنية المُخلصة التي عبرت عن طموح الشعب، وتجسدت في شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك توفر الشعب اليقظ الواعي المؤيد والداعم لقيادته السياسية، أديا إلى توحيد وتقوية الجبهة الداخلية، وخففا من عمل وتعب وسهر العاملين في خدمة الأمن السياسي، ومن جهودهم المُضنية في متابعة العملاء والمخربين الذين لزموا جحورهم في هذه السنوات إلى حين.