تعليم الغربية يكرم الطالب مهند خضير الحاصل على ذهبية بطولة العالم لشباب الخماسي الحديث    بهاء شعبان: الأحزاب القديمة لم يتراجع دورها ونتائج انتخابات الشيوخ أقرب لتقسيم المقاعد    البورصة تواصل الصعود بمنتصف تعاملات اليوم    القومي لحقوق الإنسان يحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني    المجتمعات العمرانية تكشف أسباب سحب أرض نادي الزمالك بحدائق أكتوبر    خبر في الجول - حلول منتخب مصر لإزمة إصابات الدفاع أمام إثيوبيا وبوركينا    كورييري ديلو سبورت تكشف حقيقة رغبة مانشستر يونايتد في بيع زيركزي    حريق هائل في كرم نخيل بمنشأة العماري بالأقصر والحماية المدنية تسيطر (صور)    خالد جلال ناعيا الدكتور يحيى عزمي: تخرجت على يديه أجيال من السينمائيين    جائزة كتارا لرواية العربية تعلن قوائمها القصيرة لدورتها الحادية عشرة لعام 2025    مرض ADHD أسبابه وعلاجه    بعد وفاة الطفل حمزة، 7 أضرار كارثية للإندومي والنودلز سريعة التحضير    الأرصاد تحذر من كتلة هوائية صحراوية ترفع درجات الحرارة إلى 44 (فيديو)    بعد منعه راكب بسبب «الشورت».. تكريم رئيس «قطار الزقازيق» بشهادة تقدير    آداب حلوان تعلن شروط القبول بأقسامها للعام الجامعي 2026/2025    رغم مزاعم عصابة العسكر..تراجع الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصرى وهمى وغير حقيقى    مدير أوقاف الإسكندرية يتابع لجان اختبارات مركز إعداد المحفظين بمسجد سيدي جابر    تعاون جديد بين "غرفة القاهرة" وشركة "فوري" لميكنة الخدمات والتحصيل إلكترونيًا    رئيس جامعة قناة السويس يُصدر قرارات تكليف قيادات جديدة بكلية التربية    أمن المنافذ يضبط 53 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    التحقيق مع 3 أشخاص بتهمة غسل 100 مليون جنيه من النصب على المواطنين    إطلاق أسماء 4 نقاد كبار على جوائز أفضل مقال أو دراسة حول الأفلام القصيرة جدا    رئيس الرعاية الصحية: بدء تشغيل عيادة العلاج الطبيعي للأطفال بمركز طب أسرة العوامية بالأقصر    وزيرة التخطيط والتعاون تتحدث عن تطورات الاقتصاد المصري في مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية    "قصص متفوتكش".. 3 معلومات عن اتفاق رونالدو وجورجينا.. وإمام عاشور يظهر مع نجله    صور.. تأثيث 332 مجمع خدمات حكومية في 20 محافظة    واعظة بالأزهر: الحسد يأكل الحسنات مثل النار    " ارحموا من في الأرض" هل هذا القول يشمل كل المخلوقات.. أستاذ بالأزهر يوضح    ضبط 433 قضية مخدرات فى حملات أمنية خلال 24 ساعة    قرار جديد من وزارة الداخلية بشأن إنشاء مركز إصلاح (نص كامل)    البورصة تواصل ارتفاعها.. وانخفاض ربحية شركة كونتكت بنسبة 17%    53 مليون خدمة.. ماذا قدمت حملة "100 يوم صحة" خلال 34 يومًا؟    هل يمكن أن تسبب المشروبات الساخنة السرطان؟.. اعرف الحقيقة    إلغاء إجازة اليوم الوطني السعودي ال95 للقطاعين العام والخاص حقيقة أم شائعة؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    وزيرا الإسكان والسياحة ومحافظ الجيزة يتابعون مخطط تطوير منطقة مطار سفنكس وهرم سقارة    5 قرارات جمهورية مهمة وتكليفات حاسمة من السيسي لمحافظ البنك المركزي    على ملعب التتش.. الأهلي يواصل تدريباته استعدادا لمواجهة المحلة    السبت.. عزاء الدكتور يحيى عزمي عقب صلاة المغرب في مسجد الشرطة ب6 أكتوبر    عماد أبوغازي: هناك حاجة ماسة لتغيير مناهج التاريخ فى الجامعات    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة    وزير الخارجية يعرب لنظيره الهولندي عن الاستياء البالغ من حادث الاعتداء على مبنى السفارة المصرية    رئيس الوزراء يلتقى وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني    ياسمين صبري ناعية تيمور تيمور: «صبر أهله وأحبابه»    رسميًا.. 24 توجيهًا عاجلًا من التعليم لضبط المدارس قبل انطلاق العام الدراسي الجديد 20252026    «عارف حسام حسن بيفكر في إيه».. عصام الحضري يكشف اسم حارس منتخب مصر بأمم أفريقيا    الاتحاد الأوروبي يخفض وارداته من النفط إلى أدنى مستوى تاريخي    رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 بعد انتهاء تسجيل رغبات طلاب الثانوية العامة 2025 للمرحلتين الأولي والثانية    وقت مناسب لترتيب الأولويات.. حظ برج الدلو اليوم 19 أغسطس    رئيس وزراء السودان يطالب الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية في الفاشر    أبرز تصريحات لقاء الرئيس السيسي مع الشيخ ناصر والشيخ خالد آل خليفة    عاجل- الكرملين: بوتين وترامب يبحثان رفع مستوى التمثيل الروسي والأوكراني في المفاوضات    جمال الدين: نستهدف توطين صناعة السيارات في غرب بورسعيد    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    القبض على المتهمين بالتشاجر والتراشق بالحجارة في مدينة الشيخ زايد    فلسطين.. إصابات بالاختناق جراء اقتحام الاحتلال مدينة بيت لحم    سعر الزيت والمكرونة والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025    هل يجوز قضاء الصيام عن الميت؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هنا‮ ‬يعيش إنسان مات أثناء حياته
المنتحرون‮..‬ سادة المحو
نشر في أخبار الحوادث يوم 30 - 07 - 2016

انتحر يسري‮. ‬ردد الناس‮. ‬وعرفتُ‮ ‬وقتها أن من حق المرء أن يختار الطريقة التي يريد أن يخرج بها من هذا العالم‮. ‬لكنني لم أعرف لماذا يسبه هؤلاء الناس‮. ‬قالوا إنه ضعيف وتافه وعاص لربه‮. ‬قلل الجميع من معاناته‮. ‬ربما لأنهم لم يدركوا أن البقاء في حياة مسلوبة منك هو الانتحار بعينه‮. ‬الآن أراهم منتحرين،‮ ‬ويسري الوحيد الحي بينهم‮. ‬هو وغيره من الذين أرادوا الغياب‮. ‬فكل‮ ‬40‮ ‬ثانية ينتحر إنسان في مكان ما في العالم‮. ‬وذلك وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي قالت‮ "‬كُثر هم الذين يحاولون الانتحار كل يوم‮". ‬هذا يعني أن الحياة صارت عبئاً‮ ‬علي الناس،‮ ‬ورغم ذلك يتظاهرون بالقوة والفضيلة،‮ ‬ويعلنون عن مقتهم للمنتحرين‮. ‬وحدهم الكُتّاب الذين أنصفوا المنتحرين،‮ ‬سواء بكلماتهم عنهم،‮ ‬أو بالانضمام إلي صفوفهم‮.‬
لذلك كلما سمعت عن انتحار شخص أعرفه،‮ ‬أو لا أعرفه،‮ ‬أتلو أحد النصوص‮. ‬خاصة نصوص الشاعر اللبناني وديع سعادة‮ (‬1948‮) ‬المهاجر إلي أستراليا منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي،‮ ‬الذي وضع المنتحرين في مكانة يتمني كل منّا الوصول إليها،‮ ‬إذ قال عنهم‮ "‬المنتحرون قدّيسونا‮.. ‬سادة المحو‮.. ‬سادة الخواء‮". ‬وذلك في ديوانه‮ (‬غبار‮)‬،‮ ‬الذي خصص فيه مساحة للحديث عنهم‮. ‬كأنهم إخوته‮. ‬وعائلته‮. ‬وأحباؤه‮. ‬فهم بالنسبة له مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات‮. ‬الذين تركوا المقاعد وثرثرات الوعود،‮ ‬وذهبوا إلي صمتهم‮. ‬الذين لم يملكوا حياة،‮ ‬فملكوا موتاً‮. ‬الذين يضعون شيئاً‮ ‬في العدم حين يتدلون من الحبل،‮ ‬فيملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط‮. ‬يري أنه‮:‬
‮"‬لا ينتحر‮ ‬غير من طفح بالحياة‮. ‬
من طفحت فيه الحياة فاندلقت‮.‬
ولا ينتحر‮ ‬غير من يعلو علي الموت‮. ‬
من يسوده‮.‬
المنتحر يهب الموت معني‮. ‬ويدحره‮.‬
من ينتحر يترك لطختين،‮ ‬
واحدة علي وجه الحياة‮.. ‬
وأخري علي وجه الموت‮."‬
الانتحار عند وديع سعادة ليس محض جسد يشيعه الناس قبل آوانه،‮ ‬إنه حالة من التأمل والاكتشاف،‮ ‬ليس فقط للمنتحرين،‮ ‬بل للأحياء أيضاً؛‮ "‬الجثة حين يحملها الحاملون،‮ ‬يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم‮. ‬يجدون الجثة الميتة تسبق الجسد الحي،‮ ‬والماضي يمشي بعد المستقبل،‮ ‬والموت يتقدم علي الحياة‮. ‬يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد‮". ‬نحن إذن المنتحرون‮. ‬الباقون لأجل موت عادي‮. ‬المتفائلون جداً‮. ‬والبائسون جداً‮. ‬لا نجرؤ علي القفز من شرفة،‮ ‬أو علي الوقوف أمام قطار قادم‮. ‬لذلك فهُم أجملنا،‮ ‬مثلما وصفهم وديع سعادة في نصه البديع‮ (‬جمال العابر‮) ‬المنشور في ديوانه‮ (‬من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟‮): "‬أجملنا الراحلون‮. ‬أجملنا المنتحرون‮. ‬الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء‮. ‬الذين خطوا خطوةً‮ ‬واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه‮".‬
كانت سارة كين الكاتبة المسرحية البريطانية أجمل وآخر الكُتاب المنتحرين في القرن العشرين‮. ‬ففي إحدي صباحات عام‮ ‬1999‮. ‬يوم العشرين من فبراير‮. ‬الساعة الرابعة وثماني وأربعون دقيقة‮. ‬قررت الخلاص من هذا العالم‮. ‬تاركة لنا رسالة قالت فيها‮: "‬إنني أكتب للموتي،‮ ‬لأولئك الذين لم يولدوا بعد‮. ‬كل مجاملة تقتص قطعة من روحي،‮ ‬لا شيء يمكن أن يطأ‮ ‬غضبي،‮ ‬ولا شيء يجعلني استعيد إيماني‮. ‬ليس هذا عالم أرغب بالعيش فيه‮. ‬أشعر وكأن عمري ثمانين عاماً‮! ‬إنني متعبة من الحياة وروحي تريد أن تموت‮. ‬بعد ‮8‬4‮:‬4‮ ‬صباحاً‮ ‬سأتوقف عن الكلام‮".‬
ولدت سارة كين في برينتوود،‮ ‬إسكس،‮ ‬المملكة المتحدة عام‮ ‬1971‮ ‬لعائلة مسيحية متشددة،‮ ‬وتأثرت بهم بطبيعة الحال،‮ ‬لكنها سرعان مافقدت إيمانها بعد مراهقتها،‮ ‬إلي الحد الذي كانت تناقش فيه الله علي الملأ‮. ‬ما جعلها تُصاب بالحزن والاكتئاب بعد أن فقدت اهتمام أقرب الناس إليها،‮ ‬وبعد أن فقدت هي اهتمامها بالحياة‮. ‬الحياة التي تراها بشعة ومخيفة ولا تُحتمل مثلما تناولتها في مسرحياتها الخمس‮ (‬البغيض،‮ ‬وعطش،‮ ‬ونهم،‮ ‬وتطهير،‮ ‬وعشق فيدرا‮). ‬فمن خلال التكثيف اللغوي والاختزال الشديد استطاعت أن تعبر عن الواقع وتنقله بسوداوية‮. ‬حيث جسدت مشاهد العنف والقتل والاغتصاب‮. ‬الأمر الذي لم يلق رواجاً‮ ‬وقبولاً‮ ‬بين الناس‮. ‬
لم تتراجع سارة كين عن فضح التشوهات الموجودة فينا،‮ ‬رغم الانتقادات الجمة التي واجهتها،‮ ‬وكانت دائماً‮ ‬ما تتطرق إلي الانتحار باعتباره الخلاص من العبث والفراغ‮ ‬الروحي في الحياة،‮ ‬وهو ما قامت به في النهاية،‮ ‬والتي أعلنت عنه‮ ‬في مسرحيتها‮ (‬ذهانات الساعة ‮8‬4‮:‬4‮) ‬التي كتبتها قبل أيام من انتحارها‮. ‬ما يعني أنها كانت تخطط جيداً،‮ ‬حتي للتوقيت الذي ستموت فيه‮. ‬فابتلعت‮ ‬150‮ ‬حبة مضادة للاكتئاب و50‮ ‬حبة منوّم،‮ ‬لكن رفيقتها نجحت في انقاذها،‮ ‬وهرعت بها إلي مستشفي كينج كوليج في لندن‮. ‬أحست سارة كين حين وجدت نفسها علي قيد الحياة بالضياع والخوف،‮ ‬فانتهزت فرصة خروج رفيقتها‮ ‬التي تركتها لمدة تسعين دقيقة،‮ ‬وقامت بشنق نفسها بأربطة الأحذية‮. ‬تقول في مسرحيتها الأخيرة‮:‬
‮"‬أنا حزينة‮. ‬أشعر بأن لا أمل في المستقبل،‮ ‬
وأن الأمور لا يمكن أن تتحسن‮.‬
أشعر بالملل وعدم الرضا عن أي شيء‮.‬
أنا فشل ذريع‮. ‬أنا مذنبة،‮ ‬أنا أُعاقب‮.‬
أرغب في قتل نفسي‮."‬
أي حياة هذه التي تجعلك تكره نفسك،‮ ‬وترغمك علي الذهاب إلي الموت بخطي ثابتة‮. ‬كان من الأولي ألا نكون موجودين‮. ‬ألا يُعذب الكاتب المصري رجاء عليش تحديداً‮. ‬الذي احتقرته الحياة لأنه ولد قبيحاً‮. ‬فلم يعش أحد في العالم القبح كما عاشه‮. ‬عينان جاحظتان،‮ ‬ووجه طويل،‮ ‬وأنف مدبب‮. ‬ملامح جعلته يشعر أنه إنسان مغاير،‮ ‬يثير ضحك الناس،‮ ‬وازدرائهم،‮ ‬كأنه عاهة‮. ‬فقد حرمه القبح من الحب والعمل والحرية‮. ‬إذ كانت تلمع العيون من حوله دائماً‮ ‬بسخرية شديدة‮. ‬تذكره بأن عليه أن يعود إلي حجمه الحقيقي،‮ ‬كما رسموه له،‮ ‬وليس كما هو في الحقيقة‮. ‬لقد دمروا معنوياته،‮ ‬وسلبوا آدميته‮. ‬وكان هذا أخطر كثيراً‮ ‬من سلبه حاسة من حواسه‮. ‬وأبعد آثراً‮ ‬في تدمير حياته،‮ ‬وتشويهها‮. ‬
لم ينظر أحد إلي داخله،‮ ‬ليجدوه جميلاً‮ ‬ونقياً،‮ ‬كما وجدته أمه،‮ ‬التي تقبلته عندما رفضته كل النساء،‮ ‬وأحبته عندما كرهه العالم‮. ‬ففي كتابه‮ (‬لا تولد قبيحاً‮)‬،‮ ‬تحدث رجاء عليش عن ذاته المجروحة‮.. ‬المطرودة من الحياة‮. ‬يري نفسه أغرب رجل في العالم‮. ‬أقبح وجه يمكن أن تصادفه في أي مكان علي الأرض‮. ‬لا أحد يحبه‮. ‬لا أحد يشفق عليه أو يثق فيه‮. ‬إنه المرفوض الأول‮.. ‬المكروه الأول‮.. ‬المُعذب الأول‮.. ‬إنه ضمن وخارج إطار الحياة المألوفة‮. ‬فلقد عاقبه الناس علي شيء لم يفعله،‮ ‬وجمدوه في مكانه،‮ ‬حتي صار أشبه بصخرة في محيط من الأمواج الصاخبة‮. ‬يصف نفسه قائلاً‮:‬
‮"‬أنا رجل بلا امرأة،‮ ‬بلا حقل للقمح،‮ ‬بلا زجاجة نبيذ،‮ ‬
بلا كرة للعب،‮ ‬بلا ذكريات مضيئة،‮ ‬بلا طريق للمستقبل‮.‬
علي قبري ستُكتب العبارة الآتية‮:‬
هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته‮.‬
أنا رجل تتبعه الضحكات والكلاب؛ ضحكات الناس ودعوات الكلاب‮.‬
أنا رجل تلعنه المرأة في الشارع،‮ ‬وتحبه في السرير‮.‬
أنا ملك يرتدي ثياب صعلوك‮. ‬مفكر يلعب بدمية طفل صغير‮.‬
مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوي،‮ ‬فالطبيعة قد وضعته هناك،‮ ‬وألصقته جيداً،‮ ‬ليبقي إلي الأبد‮."‬
في عام‮ ‬1979‮ ‬كان رجاء عليش يعبر جسر الأربعين دون امرأة،‮ ‬ودون طفل يشعره أنه لا يزال هناك أمل في أن يصير العالم أكثر إنسانية‮. ‬وكان قد كتب عمله الثاني والآخير،‮ ‬وهو رواية‮ (‬كلهم أعدائي‮) ‬التي دون فيها مرثيته،‮ ‬وأنهي بعدها حياته؛‮ "‬ارقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح‮.. ‬دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعيش مليونًا من السنين‮.. ‬أنت أيها الملاح التائه في بحار الظلمات البعيدة،‮ ‬لقد جئت إلي أمك الأرض لتعيش في حضنها إلي الأبد‮" ‬وغادر العالم بطلقة رصاصة استقرت في رأسه‮. ‬ليتخلص من عذاباته‮. ‬لكنه قبل هذا الفعل،‮ ‬كتب رسالة إلي النائب العام يخبره فيه بأنه كان يحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوه يكفر بكل شيء‮ . ‬
قبل اللحظة التي ستحسم كل شيء،‮ ‬لم يكن يرغب أي منتحر سوي أن يعيش حياته التي يريد،‮ ‬حياته التي لم يجدها،‮ ‬ومن العبث حينها أن تناقشه في أن يتراجع عن قراره‮. ‬فهو مريض الحياة،‮ ‬المنتقم منها،‮ ‬ومن نفسه‮. ‬وهو التوصيف الذي استخدمته الشاعرة اللبنانية جمانة حداد‮ (‬1979‮) ‬في كتابها‮ (‬سيجيء الموت وستكون له عيناك‮)‬،‮ ‬الذي جمعت فيه قصائد‮ ‬150‮ ‬شاعراً‮ ‬انتحروا في القرن العشرين‮. ‬من‮ ‬48‮ ‬بلداً‮ ‬مختلفاً‮. ‬وأهدته إلي جدتها جميلة،‮ ‬التي كتبت قصيدة انتحارها يوم الثلاثاء‮ ‬22‮ ‬يونيه‮ ‬1976،‮ ‬والتي بسببها أحبت المنتحرين،‮ ‬وجعلتها تنظر لهم بصورة مختلفة؛‮ "‬المنتحر ليس ميتاً‮. ‬ليس ميتاً‮ ‬عادياً‮. ‬هو شيء أكثر‮. ‬شيء آخر‮. ‬لا ميت ولا حيّ‮. ‬بين بين‮. ‬والاثنان معاً‮. ‬وثالث‮. ‬ضيفٌ‮ ‬مرتبكٌ‮ ‬وصل متأخراً‮ ‬إلي الحياة،‮ ‬ومبكراً‮ ‬إلي الموت‮".‬
حين وجدت جمانة حداد ابنة الخمس سنوات،‮ ‬جدتها مسجّاة علي الأرض،‮ ‬فتحت عينيها،‮ ‬ونظرت،‮ ‬هكذا سعيت إلي رؤية جثث‮ ‬المنتحرين،‮ ‬حيث أدركت أن الانتحار بالحبوب المنومة ربما يكون الأكثر جمالية،‮ ‬لأنه عبور مسالم من الميتة الصغري إلي الكبري‮. ‬كما رأت أيضاً‮ ‬صور الأشلاء المرعبة،‮ ‬والوجوه المتفحمة،‮ ‬والصدور الممعوسة،‮ ‬وغيرها من الصور الرهيبة،‮ ‬وقتها لم تقو علي التفكير بأن الانتحار شعر‮. ‬وأن الشعر انتحار‮. ‬لذلك حملت علي عاتقها أن تجمع الشعراء الذين انتحروا في كتاب واحد،‮ ‬ليكون لهم بمثابة البيت والحياة،‮ ‬منهم‮ ‬15‮ ‬شاعرا عربيا،‮ ‬هم‮: ‬منير رمزي‮ ‬وأحمد العاصي وفخري أبو السعود من مصر،‮ ‬وخليل الحاوي وانطوان مشحور من لبنان،‮ ‬وإبراهيم زاير وقاسم جبارة من العراق،‮ ‬وعبد الباسط الصوفي ومصطفي محمد من سوريا،‮ ‬وعبد الله بو خالفة وفاروق اسميرة وصفية كتو من الجزائر،‮ ‬وتيسير سبول من الأردن،‮ ‬وعبد الرحيم ابو ذكري من السودان،‮ ‬وأخيراً‮ ‬كريم حوماري من المغرب‮.‬
‮"‬نابشةُ‮ ‬القبور أنا،‮ ‬قبور الشعراء المنتحرين‮. ‬
مئة وخمسين نعشاً‮ ‬فتحتُ،‮ ‬نعم،
وإلي مئة وخمسين جهنم نزلتُ‮.‬
مئة وخمسين جثة أنعشتُ‮ ‬بماء الزهر،
ومئة وخمسين شيطاناً‮ ‬روّضتُ‮.‬
مئة وخمسين دمعة رشفتُ‮.‬
وبمئة وخمسين ناراً‮ ‬احترقتُ‮.‬
مئة وخمسين حكاية حكيتُ،
ومئة وخمسين مرة سألتُ،‮ ‬بحسرة سألتُ،‮ ‬وقهراً،‮ ‬وعارفةً‮ ‬سألتُ‮:‬
لماذا ينتحر من ينتحر؟‮"‬
في نظر الكاتب الروماني إميل سيوران‮ (‬1911‮ ‬‮ ‬1995‮). ‬رسول العدم أو فيلسوف الخواء كما‮ ‬يحلو للبعض‮ ‬تسميته‮. "‬لا ينتحر إلا المتفائلون‮. ‬المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين علي الاستمرار في التفاؤل‮. ‬أما الآخرون،‮ ‬فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لم يملكوا مبرراً‮ ‬للحياة؟‮". ‬كانت فكرة الانتحار تراود إميل سيوران طوال حياته‮. ‬وفي العشرينيات من عمره كان قاب قوسين أو أدني منه‮. ‬لكن كان هنالك شيء دائماً‮ ‬غير معروف يؤكد له أنه‮ ‬غير قادر علي الانتحار‮. ‬هذا الشيء،‮ ‬أو هذا الصوت الداخلي،‮ ‬كان يخفت عنده أحياناً،‮ ‬حينما تستحوذ عليه هواجسه السوداء،‮ ‬فيخرج من‮ ‬غرفته مسرعاً،‮ ‬لأنه لا يضمن أن يسيطر علي بعض قراراته المفاجئة إذا بقي وحيداً،‮ ‬وكان هذا بالنسبة له قمة البؤس‮. ‬كتب في إحدي شذراته يقول‮:‬
‮"‬في كثيرٍ‮ ‬من الأحيان لا يوجد سوي خيط واحد يربطنا بالحياة،‮ ‬وهذا الخيطُ‮ ‬يُقطع‮. ‬ما يفسر صعوبةَ‮ ‬الانتحار وسهولته‮. ‬أحياناً‮ ‬لا يمكنني تصوره،‮ ‬وأحياناً‮ ‬أخري يبدو لي مغريا ولا يمكنني مقاومته‮.‬
‮ ‬أستطيع تفهم أن يقتل المرء نفسهُ‮ ‬لأنه موجود،‮ ‬لكن أن يقتل نفسه بسبب فشل،‮ ‬يعني بسبب رأي الآخرين،‮ ‬هذا ما يتجاوز قدرتي علي الفهم تماماً‮: ‬وتقريبا كل حالات الانتحار تنطلقُ‮ ‬من الإحساسِ‮ ‬بالفشل‮. ‬ستبصقُ‮ ‬البشريةُ‮ ‬كلها في وجهي،‮ ‬أنا أفهم هذا‮. ‬لكنني لن آخذَ‮ ‬نتائجها كتقييم‮. ‬لن يكون بصاقهم حتي دافعاً‮ ‬لأستبين درجةَ‮ ‬تفاهتي‮.‬
كلما تقدمتَ،‮ ‬وجدتَ‮ ‬أنه لا توجد مبررات للحياة ولا حتي للموت‮. ‬لنعش و نموت في العبثية الخالصة إذن‮.‬
الحياةُ‮ ‬هي التي تتخلص منا،‮ ‬ولسنا نحن الذين نتخلص منها‮."‬
من هذا المنطلق واصل إميل سيوران حياته مثل كثير من الفلاسفة،‮ ‬فلم يكن من الذين آمنوا أن هناك خلوداً،‮ ‬وأن ثمة حياة أخري تنتظرهم‮. ‬ربما لأجل هذا كان يُعدل عن فكرة الانتحار‮. ‬وقال مرة‮: "‬أن أفكر في الانتحار شيء،‮ ‬وأن أخضعَ‮ ‬له شيءٌ‮ ‬آخر تماما‮"‬،‮ ‬وقد اعتبره هاجساً‮ ‬سلمياً،‮ ‬لأنه ساعده علي مقاومة رغبته في تدمير ذاته‮. ‬لكنه ظل يكتب عن الانتحار،‮ ‬وعن أصدقائه وأقاربه المنتحرين،‮ ‬كأنه واجب عليه القيام به؛‮ " ‬منَ‮ ‬الغريب جداً‮ ‬أن أكونَ‮ ‬قد تحدثتُ‮ ‬بهذا القدر عن الانتحار،‮ ‬أنا الذي أحب الحياةَ‮ ‬كأي شخص آخر،‮ ‬بل أكثر من أي شخص آخر‮".‬
لقد تقبل إميل سيوران الحياة،‮ ‬وتقبل الموت،‮ ‬وتقبل حتي الانتحار،‮ ‬لكنه لم يتقبل الولادة واعتبرها أبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها المرء،‮ ‬لذلك رفض أن ينجب أطفالاً،‮ ‬كأنه أراد الانتحار بصورة آخري؛ ألا يكون هناك شيئاً‮ ‬يجبره علي البقاء بعد الموت‮. ‬لذا كان طبيعياً‮ ‬أن يري أن أكثر المحظوظين في هذا العالم،‮ ‬ليس الذين واصلوا الحياة أو الذين انتحروا،‮ ‬بل هؤلاء الذين لم يصلوا إلي البويضة أصلاً‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.