فكر «سيوران» دوماً في ترك الكتابة جانباً، أو الإقلال منها إلى أبعد حد، كان يقول: «ما إن نكتب شيئاً حتى يفقد سحره، يصير بلا معنى، لقد قتلنا الشيء كما قتلنا ذواتنا»، لاحظ سيوران أن الذين لا يكتبون لديهم منابع أكثر من الذين يكتبون، لأنهم يحتفظون لأنفسهم بكل شيء: «أن تكتب هو أن تفرغ نفسك من أجمل ما فيها»، الذي يكتب يفرغ نفسه، في نهاية المطاف، يصير عدماً، هكذا فالكتّاب عديمو الأهمية. ليست المقولة المثالية لأبدأ بها مقالا عن الكاتب السوداوي إميل سيوران، ولكن كانت اختياراتي قليلة لقتامة الآراء الأخرى مثل الموت والانتحار ورفض مواليد جُدد للعالم، لكني استشعرت شيئا من التحدي في هكذا رأي عن ترك سيوران للكتابة لما يعتقد أنها تُفرغ الكاتب من المعاني والمشاعر التي بداخله، لتنتقل إلى الورق على هيئة حروف مُزينة، ينال من خلالها الكاتب شهرته وحلمه، لتتركه خاليا من الإحساس الذي فرغ بكامله بواسطة القلم ليخط بحبره على الورق، وكان هذا رأيه الشخصي رأي الفيلسوف والكاتب الأشهر الذي اشتهرت كتبه أثناء «سارتر»، كان ملك المشهد العالمي بكتاباته وفلسفته الوجودية، أما عن سيوران الذي ظل يمتنع عن الجمهور ويرفض الجوائز، ويبتعد عن وسائل الإعلام مكتفيا بالكتابة، فقد قرر أن يتوقف كي لا تخلو روحه من المعاني التي كان يحرص على اقتنائها وتنميتها لتصير أكثر سوادا، فلماذا لم يتوقف هو عن الكتابة وبدأ بنفسه؟ فما يتناقض مع كل هذا التشاؤم، ونظرية إفراغ النفس بواسطة الكتابة أن سيوران توفي في سن الرابعة والثمانين، وما كان هناك من يتوقع أن يعيش طوال هذه السنوات التي ما توقف فيها عن لعن الحياة، واليوم الذي ولد فيه، والسّاعة التي خلق بها، ويُمجّد الجنون والعبث والانتحار، ومع ذلك فلم يحصل له أي شيء من هذا القبيل، أنا واثقة لو أنّ سيوران كان يحبّ الحياة ويحرص عليها لما عاش كلّ هذا العمر المديد، إلا إن كان له رأي آخر، فقد كانت يد الحياة تتشبث به منذ كان في الأربعينيات والخمسينيات على أكثر تقدير، ولكن بما أنّه أظهر كرهه لها منذ البداية، وأدار ظهره لها، بل واشمئزازه منها، فإنّها أقبلت عليه وتشبثت به ولم تعد تعرف كيف تتركه! كان كمن حرق قلب إحداهنّ من كثرة الإهمال واللامبالاة، وهو في الدّاخل يكاد يحترق من أجلها، فكيف توصّل «سيوران» إلى كل هذا الخبث والعمق الفلسفي؟ إذا كنت لا تفهم عبثيّة الوجود، أو معنى الحسّ التراجيدي فيه، فلا تقترب منه أبدا. فهو لم يخلق لك لحسن الحظ، يقال إنّ عشرات الشّباب الفرنسيين أقلعوا عن الانتحار بمجرّد أن قرؤوا كتبه، ذلك أنّهم قالوا بينهم وبين أنفسهم: إذا كان هذا الشّخص السوداوي المتطرّف قد عاش كلّ هذه التّجارب المرعبة، ومع ذلك لايزال على قيد الحياة، فهذا يعني أنّ مشكلتنا بسيطة ولا تستحقّ الذّكر، إذا كان شخص «متطرف» من هذا النّوع لم ينتحر، فلماذا ننتحر نحن؟