«كامو» اليساري الحالم.. حولته الحرب العالمية من الوجودية للعبثية. وانتهت حياته في حادث سيارة ومعه تذكرة قطار «ماذا تهم الحياة التي يختارها الإنسان والمصير الذي يريده إذا كان هناك قدر واحد يختاره هو نفسه كما يختار ملايين ملايين من الناس الذي غمرهم هذا القدر باختياراته..» هكذا وصف الفيلسوف والروائي وكاتب المسرح الفرنسي ألبير كامو، الحياة في رواية «الغريب».. والغريب أنه مر من الحياة نفسها كالزائر الغريب ولم تستغرق رحلته سوى 46 عاما فقط، إلا أنه ورغم قلة أعماله الأدبية، ترك بصمته في مجالي الثقافة والفكر لا يزال ممتدا إلى الآن. كيف لا؟ وقد كتب كامو في الرواية ذاتها يقول: «خلال كل الحياة التي لا معنى لها التي عشتها كانت تصعد نحوي نسمات غامضة عبر سنين لم تأت بعد.. وكانت هذه النسمات تجعل كل شيء يبدو متساوياً في نظري خلال السنين التي عشتها والتي لم تكن أكثر واقعية من السنين التي قضيتها في السجن». واليوم تحل ذكرى رحيل كامو، الذي ولد في 7 نوفمبر عام 1913 بالجزائر لعائلة من المستوطنين الفرنسيين، وعاش بها سنوات طفولته وشبابه، ورغم ترحيل المخابرات الفرنسية له من الجزائر بسبب تعاطفه مع الشعب الجزائري ووقوفه بقوة مع حق الجزائر في الاستقلال، إلا أن الجزائر بقيت حاضرة في أدبه وفى حياته. حياة كامو القصيرة التي امتدت 46 عاما فقط، وقلة أعماله الرواية والمسرحية لم تمنعه من أن يترك أثر كبير في مجال الثقافة والفكر والأدب مازال ممتد حتى الآن، فقد نشأ ألبير في سنوات غاية في الإضراب السياسي والفكري والديني والاجتماعي فبعد عام واحد من ميلاده بدأت الحرب العالمية الأولي التي شهدت مقُتل والده في بداية الحرب في معركة المارن فأصبح بعدها ألبير يتيم، ما جعله يلعن الحروب ويكره العنف، وكتب ذات يوم : «لم يعد قلبي الآن إلا ذاك القلب العاشق للحياة والمتمرّد على النظام القاتل للعالم». وفي هذه الفترة كانت المدرسة السيرالية تطرح رؤية جديدة ومغايرة للفن وفلسفته، الحياة الاجتماعية شهدت أيضاً نقلات كبيرة فبعد قيام الثورة البلشيفة وانتصارها صارت الشعوب تتطلع لعالم أكثر أجمل وأكثر حرية وعدالة فى ظل الشيوعية التي هزت العالم في حينها، كل هذه التغيرات والاضطرابات لعبة دور هام فى حياة وتكوين ألبير كامو فنشأ كامو متمرداً يسارياً حالماً متسائل دائماً، يحلم بعالم يملك فيه الإنسان حريته وتتمتع فيه كل الأوطان باستقلاليتها. ألبير كامو بين الفلسفة الوجودية والعبثية يعتبر ألبير كامي من رموز الفلسفة الوجودية، فألبير كان صديق للفيلسوف والأديب جون بول سارتر الذي ينسب له تأسيس مذهب الوجودية الفلسفي، لكن بعد سنوات من إيمان كامو بالوجودية وقيامه بالتنظير والكتابة والتبشير بها كفلسفة جديدة، تغير موقفه من الوجودية وتحول إلى الفلسفة العبثية هذا التحول الذي كان سبباً في افتراقه عن صديق العمر وشريك الفكر جان بول سارتر، وكان الدافع لهذا التحول هو ما شاهده كامو من دمار وعبثية الحرب العالمية الثانية، خصوصاً ما رآه من أفعال الجنود الألمان الذين احتلوا فرنسا وأنضم كامو فى هذه الفترة للكتائب الفرنسية التي تدافع عن استقلال فرنسا وتحارب المحتل النازي، وبعد رحيل الاحتلال الألماني عن فرنسا، عاد كامو إلى الجزائر ورأى فظاعة ما يفعله الجنود الفرنسيون في الجزائر والفقر المدقع الذي يعيش فيه الشعب الجزائري بسبب الاحتلال الفرنسي. ومما جاء في رسالة كامو إلى سارتر: «عزيزي سارتر ... أتمنى لكم ول «كاستور» مزيداً من العمل. ولأننا فعلنا عملاً سيئاً أنا وأصدقائي، ها أنا للأسف لا أنام في شكل جيّد. أخيراً، أعلمني بعودتكما لعلّنا نقضي سهرة جميلة في الخارج». لا تفاصيل حتى الآن عن هذه الرسالة. رولان أرونسون المتخصص في سارتر في الولاياتالمتحدة يبحث الآن في تفاصيل هذه الرسالة لكي يتوصّل إلى تحديد الفترة الزمنية الخاصة بها. أيّ عمل سيئ يقصده كامو؟ أيّ رحلة كان فيها سارتر مع صديقته سيمون دو بوفوار التي يُناديها الأصدقاء والمقربون باسم «كاستور»؟ وهذا دليل إضافي على حقيقة الصداقة التي كانت تجمعه بسارتر وبوفوار، التي يناديها كامو باسمها السري.. أما رسالة سارتر إلى كامو فورد فيها: «صداقتنا لم تكن سهلة، لكنني أحنّ إليها. إذا كنت قطعتها الآن، فهذا لأنّها بلا شكّ تستوجب القطيعة. كثيرة هي الأشياء التي تجمعنا، وقليلة التي تُفرّقنا. لكنّ هذا القليل كان بدوره كثيراً...». ألبير كامو بين فرنساوالجزائر أحد الأزمات الوجدانية والعاطفية التى عانى منها كامو بشكل كبير هى الصراع الوجداني والعقلي بين ما يؤمن به ويتطلع اليه وبين الواقع فهو يؤمن ويدعو للحرية وللاستقلال الدول لكن الواقع يقول ان وطنه الام محتلة لدولته التى ولد بها ونشأ على أرضها ومن هنا كان الصراع الكبير الداخلي لدي البير كامو متسائلاً فرنسا أم الجزائر؟ الثورة أم الاستعمار؟ الوطن الأم أم الوطن بالتبنّي؟ هذه الأسئلة هزّت كيان الكاتب الشاب والمناضل اليساري الذي اتّخذ أثناء مشادّة كلامية له مع طالب جزائري موقفاً مثيراً للجدل، ظلّ صداها يتردّد في أذنينا حتى الآن «أنا مع العدالة دائماً، ولكن بين العدالة وأمي أختار أمّي»، ورغم هذا دعم كامو حق الشعب الجزائري في الاستقلال و رأى في الاحتلال الفرنسي سلوك بشري غير حضاري بل وحشي ومن أقوال كامو «رجل بلا أخلاق هو وحش تم إطلاقه على هذا العالم». وحب ألبير للجزائر كان واضحا جداً خاصة عندما أعلن أمام الأكاديمية السويدية وملك السويد نفسه، أثناء تسلّمه جائزة نوبل للآداب عام 1957، أنّ أكثر ما يُميّزه هو أنه "فرنسيّ من الجزائر"، وعلى الرغم من كل هذا العشق للجزائر من قبل ألبير كامو لكن هناك أناس تختلط عليهم علاقة ألبير كامو بالجزائر خاصة أنه كان ضد عنف الثورة الجزائرية ولم يقف مع الثورة ويدعمها بالشكل المتوقع. وظل ألبير متأرجحا بين حبه للجزائر وحبه لوطنه الأم فرنسا حتى رحل عن عالمنا في حادث سيارة فى 4 يناير 1960, ففي صباح يوم4 يناير1960, كان ألبير كامو قد اشتري تذكرة للقطار المتجه إلي باريس من إحدي ضواحيها حيث كان يبيت ليلته, إلا أن صديقه الأعز ميشيل جاليمار أصر علي اصطحابه معه في سيارته! وقد رجحت الأقوال أن السرعة الجنونية وانفجار أحد إطارات السيارة كانا سبب الحادث الذي أودي بحياتهما, لكن تذكرة القطار التي وجدت في جيب كامو والمسودة الخطية لعمله الأخير غير المكتمل' الإنسان الأول' التي وجدت أيضا في حوزته تؤكدان أنه رغم كل حيرته وتساؤلاته عن جدوى الحياة, فإنه كان محبا للحياة ومقبلا عليها.. ألبير كامو الاديب وكاتب المسرح لم يترك ألبير كامو أرث أدبي ومسرحي كبير لكنه أعماله على الرغم من قلتها كانت مميزة ولها أثر كبير جدا ما زال متواصل حتى الان ومن أعماله روايته الشهيرة " الطاعون " ورواية "الغريب" بالاضافة إلى مسرحية "كاليجولا" وفى تحليل لأعمال ألبير كامو الأدبية كتب النقاد العراقي سرمدي السرمدي : " قبل الخوض في عرض أعمال البير كامي ومنها مسرحية حالة حصار, لابد لنا من توضيح حول فكره, فلم يكن البير كامي فيلسوفا, ولا معتنقا لنظرية فلسفية معينة, بل كان مفكرا له أسلوبه الذاتي, كما لم يكن من تلامذة جان بول سارتر, ولا من الذين يعتنقون المذهب الوجودي, ولم تكن العلاقة بينهما سوى علاقة تفاهم فكري دام بعض الوقت, وانتهى بخلافات فكرية, إلا أن هذا لا يعني عدم وجود أي ملامح للفلسفة الوجودية في مسرحياته, لكنه كمفكر لا يحسب على الفلاسفة الوجوديين, وتعد رواية الغريب مثالا جيدا للتعريف بأدب البير كامي, فهي كانت إعلانا صريحا من قبله كأديب ومفكر عن الرفض القاطع لما حل بالإنسان المعاصر, وتصويرا دقيقا حيا يتلمسه القارئ من خلال الحوارات الداخلية للشخصيات, لتعبر عن أكثر المشاعر الإنسانية قربا للضياع وفقدان الأمل بالحياة.. مارسيل: كنت متأكدا من نفسي, من كل شيء, أكثر من كل شيء, متأكدا من حياتي, ومن هذا الموت الذي سيأتي, نعم... لم يكن عندي سوى ذلك ولكني على الأقل كنت أتشبث بهذه الحقيقة كما تتشبث هي بي. وفي رواية الموت السعيد نجد إصرار كامي على تأسيس تلك الرؤية للإنسان والعالم الذي يحيط به, الرؤية التي جسدها بطل الرواية الذي عانى مصاعب الفقر والمرض والحب, أدت إلى صراعات نفسية, ورغم تشابه اسم البطل مع بطل رواية الغريب إلا أن الأحداث اتخذت منحى مغاير تماما في الأسلوب والتصوير من قبل كامي, مع حرصه على عرض وجهة نظر إنسانية مؤطرة بالسواد واليأس, هذه الصفة تسود على أدب البير كامي في رواياته مثل المنفى والملكوت, أسطورة سيزيف, اعراس, المقصلة, السقطة. تصور لنا مسرحية حالة حصار سكان مدينة اسبانية تدعى كاديز, يعيشون حياتهم الطبيعية الخصبة فاقدي الوعي مسلمين بها تسليما لا يقبل المناقشة, في ظل نظام تقليدي عاجز لا أثر له, يمثله الحاكم والقاضي والكنيسة, وذات يوم ينشب الوباء مخالبه داخل جسد المدينة, فيفرض عليها نظاما بيروقراطيا جامدا مجردا كأنه القدر, ويحطم الوباء حياة المدينة فيشل الوجدان ويقتل الحرية والحب والمغامرة وتصبح العداة انتقاما والحب كرها والشرف جبنا وينقطع تيار الحوار الإنساني الذي يعبر به البشر عن مخاوفهم وآلامهم عن إحزانهم وأفراحهم, عن أسئلتهم وأجوبتهم, ويسود حكم الصمت, ويكثر المونولوج في المسرحية, ويظل الحكم سائدا حتى يتشنج الطالب والعاشق دبيجو وهو الشخصية الرئيسية فيصرخ صرخة الاحتجاج والتمرد التي يعبر عنها أدب البير كامي بشدة في اغلب إعماله. وينزع دبيجو القناع عن وجهه ويحرر سكان المدينة من خوفهم.. دييجو: مالذي استطيع أن اقهره في هذا العالم , إلا الظلم الذي وقع علينا .. وينقذ حبه بعد أن يدفع حياته ثمنا له, أن التمرد على المحال ممثلا في صورة الوباء يتجسد في هذه الشخصية للبطل , انه يزيل أكوام الكسل والخوف وعدم الاكتراث ويؤجج شرارة الحياة والقوة والحرية في نفوس سكان مدينة كاديز, لقد سقط شعب مدينة كاديز ضحية نظام سلبي مجرد, تقول سكرتيرة الوباء: هل ما زلت تحس بالخوف؟, ويجيبها دبيجو لا, وترد السكرتيرة قائلة: إذن فلست املك شيئا ضدك!, ويتغلب دبيجو على الموت في نفسه وفي نفوس الآخرين, لا عن طريق غرور وكبرياء بل عن وعي بموقفه اليائس الذي لا مخرج منه والذي يزيد الموت من وطأة الظلم فيه, أن المتمرد الشاب دبيجو لا يريد أكثر من أن يكشف لسكان مدينته عن معنى قدرهم الذي خلا من كل معنى بنظره, انه يريد أن يوقظ حياتهم التي غاصت في السلبية واللاوعي, وعدم الاكتراث, تمرده كان دعوة إلى الوعي الناصع بالمحال. وفي مسرحية كاليجولا تتجسد في شخصيته تجربة الإنسان الذي يملك من القوة التي تمكنه من أن يحول منطقة المحال إلى واقع فعلي, فالمحال عنده ليس مجرد شعور أو عاطفة بل فكرة فلسفية تسيطر على كيانه فلقد اكتشف كاليجولا فجأة على اثر وفاة شقيقته أو حبيبته درزيلا, أن العالم محال هذا الاكتشاف الذي توصل إليه فيه تكمن حريته في انه جعل المستحيل ممكنا ولو أنها حرية فاسدة, يلخصه في هذه العبارة كاليجولا: الناس يموتون وهم ليسوا سعداء, إنا الحر الأوحد في الإمبراطورية الرومانية بأسره وفي حوار أخر : كاليجولا: أريد أن أذيب السماء في البحر واصهر الجمال مع القبح وان اخلق من الألم فقاعات من الضحك. لم يفرق كاليجولا بين الممكن والمستحيل, فهو يريد أن يمد يده فتلمس القمر, ولكنه لم يقدم على الانتحار, على الاختيار الصعب, وهكذا حال هذا بينه وبين معرفة الممكن والمستحيل والفرق بينهما, وشخصية دبيجو المتمرد على الآخرين وكاليجولا المتمرد على نفسه والآخرين تقودنا إلى استعراض شخصية مارتا المتمردة على الله, مع أن الثلاثة يؤكدون في تمردهم عبثية الوجود الإنساني على أكمل ما استطاع البير كامي أن يصور مسرحياته ويتضمنها فكرته عن الوجودية, إلا أن شخصية مارتا في مسرحية سوء تفاهم, تقدم على الانتحار أخيرا حينما تكتشف أنها قتلت أخاها عن طريق الخطأ, بعد أن تدرك أن ذلك لم يكن ليحدث لو لم يكن الوجود عبثا في عبث, لذا فأن أقصى حدود التمرد هي الانتحار. *للمزيد ينظر: سرمد السرمدي, تفكيك المسرح الوجودي, رؤية نقدية, المركز الثقافي للطباعة والنشر(بابل), مسجل لدى دار الكتب والوثائق العراقية, بغداد, رقم الإيداع 250 - السنة 2011م. وختاماً كان للشاب ألبير كامو صاحب ال 46 عاماً تأثير كبير على الحقل الأدبي, حيرته ما بين الوجودية والعبثية والوطن وأرض التبني خلقت منه مبدع فريد فاق بجاذبيته كثير من الأدباء أصحاب الإنتاج الوفيرعلى مدار سنوات طويلة فبمجرد أن تتصفح كلماته ستغرق في كم الزخم الفكري والعقلي وخطوطه الروائية الساحرة المنمقة لغوياً ودرامياً في تسلسل الأحداث, وانتصر كامو على فكرة الموت التي كانت تُمثّل بالنسبة إليه هاجساً مُخيفاً حاول أن يهرب منه بالكتابة مرة، وبأسلوب حياته مررة أخرى. وقد عُرف عن كامو حبّه للحياة والنساء والرقص والضحك... وكان حاضر النكتة دائماً، هو الذي قال مرّة إنّ الضحك هو الحلّ الأمثل كيلا نصرخ من الألم ولا نستسلم لليأس