تبدو الكتابة عن كاتب مثل اميل سيوران مغامرة بأكثر من معني فهو من المؤلفين الذين يصعب اختزال نصوصهم وتصنيفها. لان كثيرا مما كتبه يمكن قراءته كنص شعري والبعض الاخر يقرأ كنص فلسفي عميق, لكنه في كتاب تاريخ ويوتوبيا الصادر مؤخرا عن دار الجمل ببيروت يجمع بين صفة الشاعر والفيلسوف ويضيف لهما لقبا جديدا هو المؤرخ. ومن ناحية أخري فإن أحد جوانب المغامرة في الكتابة عن سيوران يتعلق بهويته فهو روماني الاصل لكن الشهرة جاءته بعد ان انتمي الي الفرانكفونية وانحاز لخيار الكتابة بالفرنسية وعلي الرغم من ذلك ظل مأزق الهوية يحكم رؤيته لكثير من الامور ولعل من المفيد هنا ان نشير الي ان سيوران(1911 1995) كما تشير الويكيبيديا ولد في إحدي قري ترانسيلفانيا الرومانية. وكان والده ينتمي للطائفة الأرثوذكسية بالقرية, بينما كانت أمه بعيدة كل البعد عن الدين وهي مفارقة أرقته طويلا وقد اضطر للرحيل إلي بوخارست لدراسة الفلسفة وهنالك عرف لأول مرة أول عوارض المرض الذي سيرافقه كثيرا وهو الأرق الذي تحول معه إلي وسيلة للمعرفة ودفعه لنشر كتابه الاول وهو في الثانية والعشرين اذ انتقل الي برلين وظل ينشر مؤلفاته بالرومانية إلا أنه في نهاية1937 وقبل صدور كتابه( دموع وقديسين) حصل علي منحة من معهد بوخاريست الفرنسي وارتحل علي الفور وقتها.. سنة1947 عرض مخطوط كتابه( رسالة في التحلل) علي دار غاليمار للنشر فقبلت الدار نشره إلا أنه استعاد المخطوط وأعاد الإشتغال علي الكتاب, ولم ينشره إلا بعد سنتين. وقوبل الكتاب بحفاوة نقدية إلا أن التوزيع كان محدودا جدا. وظلت تلك حال كتبه طوال30 عاما, ربما لأنه كان نقيض سارتر سيد المشهد في الخمسينيات, وفي تقديري ان التيار الفكري الذي جاء مع ثورة الطلاب في أوروبا بعد عام1968 كان من بين العوامل التي أنصفته ليتحول الي كاتب مرموق حيث صدر كتابه( رسالة في التحلل) ضمن سلسلة كتب الجيب ذات الانتشار الواسع. وعلي الرغم من نجاحه ظل سيوران يمتنع عن الجمهور ويرفض الجوائز ويبتعد عن وسائل الإعلام مكتفيا بالكتابة. وكما تشير الويكيبيديا ايضا فأن هناك أمر أثر في كتابات سيوران وفي حياته وفي نظرته للعالم وعلاقته مع الآخرين, وقابله أغلب التكتم والإنكار وهو علاقته بالفاشية وب هتلر شخصيا. كان في الثانية والعشرين وقتئذ وقد برر مواقفه في أكثر من مناسبة, بالطيش وعدم النضج.. وعلي الصعيد العربي ظل سيوران مجهولا اذ لم تترجم مؤلفاته الا في السنوات العشر الاخيرة حيث اصدرت دار الجديد ترجمة لنصوصه بعنوان' توقيعات' كما أصدرت دار ازمنة الاردنية ترجمة لكتابه:' لو كان آدم سعيدا' ثم نشرت الجمل كتابه( المياه كلها بلون الغرق) وهو أول كتاب يترجم للعربية كاملا من خلال الشاعر التونسي آدم فتحي الذي ترجم أيضا تاريخ ويوتوبيا بلغة اقل ما توصف به:' انها لغة فاتنة, تنقل المعني وتحافظ علي طزاجتها ومكامن السحر والمفارقة فيها وفي الكتاب الذي تضمن مقدمة وافية انجزها التونسي ايمن حسن الكثير الذي يمكن ان يضيء المسار الفكري لسيوران الذي يمكن وصفه ب المدهش الذي يختار الكتابة بسمة اسلوبية موجزة هي الشذرات الأقرب للشعر منها الي النص الفكري الكامل وهنا علي الاقل يمكن الاحالة لنصوص فيها نفس السمة هي اللاطمأنينة للشاعر البرتغالي فرديناند بيسوا او أبو حيان التوحيدي في تراثنا العربي لكن سيوران لا يلجأ في تاريخ ويوتوبيا الي المعني الشعري وانما ينطلق الي الرؤية و الرأي فكما يشير أيمن حسن يطرح الكتاب علاقتنا مع التاريخ, تاريخنا, في تبلوره وسيره جنبا الي جنب مع اليوتوبيا, أي أحلامنا وكوابيسنا معا, التي ما استطعنا بعد رؤيتها بشيء من التروي والنضج في الفكر والقول والعمل علي حد سواء. وتشير المقدمة الموجودة بالكتاب الي ان كتابة سيوران تمثل في حد ذاتها حدثا فريدا من نوعه في تاريخ الأدب الفرنسي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وفي وسعنا اعتبار كتاب تاريخ ويوتوبيا حدثا داخل الحدث, فهو أثر نحن بأمس الحاجة اليه اليوم وغدا, لأنه يحمل فكر ما بعد الوفاة بحسب عبارة نيتشه الذي يبدو تأثيره في الكتاب عميقا الي أبعد حد, حيث يمكننا الايمان بأن القلق هو الحل, لان الحياة لا تكون محتملة الا اذا أغفلنا الخلاصات النهائية وعلي اية حال ليس هذه الخلاصة الوحيدة في الكتاب الذي يعيد النظر بإمعان في فكرة التوسع الامبراطوري وينصف الطغاة وموقعهم من التاريخ فهم صناعه رغم كل شيء.