كثيراً ما عُرفت كتب دار «الجمل» بإثارة الجدل، فقد لازمتها هذه الصفة منذ نشأتها الأولى فى 1983 بألمانيا، على يد الشاعر العراقى خالد المعالى الذى غادر العراق هارباً من النظام البعثى السابق، ليبدأ عمله من كولونيا، بآلة كاتبة وحيدة، تخرج كتبا توزع باليد. عاشت دار الجمل بروح مغامرة، فاختار صاحبها مناطق لم يرد الكثير من الناشرين العرب الاقتراب منها، وعلى رأسها الكتب التراثية والفكرية، لكنها لم تمر مروراً هادئاً، فأثارت عدة زوابع، لعل أشهرها تلك التى صاحبت كتاب «الشخصية المحمدية» للشاعر العراقى الراحل معروف الرصافى، وهو الكتاب الذى لاقى الكثير من المنع والانتقادات من التيارات الدينية والأجهزة الرقابية بالعالم العربى. وبنفس المنهج سارت خطى دار الجمل لتتنوع الموضوعات التى تناولتها كتبها بين الكثير من التابوهات دون خوف من الهجوم الضارى الذى تشنه التيارات المحافظة داخل المجتمعات العربية أو المنع والمصادرة من قبل الجهات الرقابية. وقد أصدرت دار الجمل مؤخراً ثلاث ترجمات لأعمال الكاتب الإنجليزى سلمان رشدى «العار» و«أطفال منتصف الليل» و«الغضب» بمشاركة دار التكوين للنشر قبل أشهر، وهى الترجمات التى تدوولت أنباء حول منعها فى القاهرة ودمشق. لكن «المعالى» نفى ذلك قائلاً: «لا توجد تفاصيل لدى حول المنع، فالجرائد تكتب أنه تمت مصادرة الكتب، لكن الكتب تباع فى سوريا ومصر وسائر البلدان العربية». تأخرت ترجمات سلمان رشدى كثيراً فى الظهور بالعربية، بسبب فتوى إهدار دمه التى أصدرها القائد الإيرانى آية الله خومينى عام 1989، بعد أن أصدر رشدى روايته الشهيرة «آيات شيطانية». لذا تخوف الناشرون العرب من التعامل معها، وظلت كل كتاباته حبيسة ترجمات رديئة على شبكة الإنترنت، لكن «المعالى» قرر خوض المغامرة كعادته مع الكتب الإشكالية. وفى حوارنا التالى يحدثنا «المعالى» عن تجربته مع النشر: ■ لماذا تفضل دائما الذهاب إلى نشر الكتب الإشكالية والتى تصطدم بالتابوهات؟ - نحن لا ننشر كتب إشكالية، بل يمكن أن نسميها «كتباً حية»، وهى تلك الكتب التى لديها شىء يقال، ويستحق القراءة، وهذه الكتب تمتد من كتب تراثية عربية قديمة، بعضها نشر مرة واحدة وبعضها لم ينشر من قبل، وكتب لمفكرين معاصرين عرب وأجانب. فأنا أحب القراءة، وما أنشره هو ما أحب أن أقرأه، وهذا يجعلنى حريصاً على أن أنشر الكتب التى تخاطب القارئ وتثير إعجابه، فأنا لا أنشر الكتب الميتة. ولدينا مشكلة فى العالم العربى فى هذه الجزئية، فنحن نخشى نشر الكتب التى تتناول موضوعات أخرى سواء فلسفية أو شعرية أو تراثية، ولا نفرق بين كتب التسلية، وكتب الفكر العميق، بين الرواية التى تخاطب جمهور العامة وتلك التى تخاطب جمهور الخاصة. ولا نملك هذه الرقعة الواسعة من القراء التى تتدرج فيها الطبقات، نملك فقط مجموعات صغيرة من القراء، والدليل على ذلك أن طبعات الكتب التى ننشرها لا تتجاوز الآلاف إلا فيما ندر. هناك شىء يسمى الأدب وشىء يشبه الأدب لكنه ليس أدباً فهو مجرد كتب للتسلية. إذن نحن أمام إشكالية تحديد مفاهيم الكتب الجريئة، والكتب الحقة، والكتب العادية. ■ بعض من تلك التى صنفتها كتبا للتسلية حققت طفرات فى المبيعات داخل العالم العربى، أليس ذلك جديراً بالتفكير؟ - هذه الكتب ضرورية وفى الغرب تبيع ملايين النسخ، ولا أحد يتحدث عن ذلك، فهى تخاطب مستويات محددة من الوعى لدى الناس وهو المستوى الأغلب الأعم. هذا النوع يلائم القارئ الذى يريد أن يقرأ كتاباً دون أن يشغل نفسه بالتفكير، كنوع من الدغدغة، وهذا ضرورى، فليس الجميع مطالبين بقراءة الكتب العميقة. ■ «الكتب الحية» التى وصفتها، دائماً بين مطرقة التيار الدينى، وسندان السلطة السياسية، كيف تمر كتب الجمل من بينهما؟ - الكتب التى أنشرها لا تتصادم بالضرورة مع الرقابة والتعصب الدينى، أحياناً تمنع فى هذا البلد لكنها فى البلد الآخر تكون موجودة ومتاحة ومن هنا يأتى بها القراء. هناك بيروقراطية معينة فى بعض البلدان بأجهزة الرقابة، وحتى الأجهزة الدينية، تنزعج من وجود بعض الكتب، لكن الكتب التى ننشرها ليست مضادة لجهة معينة، فليس لدينا عداء لجهة ما، فقط لدينا متعة القراءة. ■ وماذا عن الحالة الدينية الشعبية، والفتاوى التى تهاجم الكتب وتحرمها وإن لم يمنع الكتاب رسمياً؟ - هذه هى ثقافة العامة، وأنا لا أتعامل مع ثقافة العامة، أنا أتعامل مع الثقافة الأساسية سواء أكانت فى الأديان أو فى الحياة الاجتماعية، فأنا لا أريد أن أجعل نفسى قيماً أو مضاداً أو متجاوباً مع التفكير العام، فهو تفكير شعبوى وسطحى، ولا يخصنى. ■ ولست مهتما بتوصيل وجهة نظرك للناس العادية، خصوصاً فى تلك الكتب التى تثير الجدل ويقاطعها الناس دون قراءة؟ - التعامل مع الجهل قضية عويصة ولا أفضل التعامل مع الجهل. ■ كثير من طقوس التوزيع صارت منتشرة بالعالم العربى، مثل حفلات التوقيع، لماذا لا تلجأ دار الجمل لهذا النوع من الترويج للكتب؟ - هذه ليست فكرة سيئة، لكنها تتحول بالتدريج إلى شىء أشبه بحفلات الزفاف والختان والتى يجامل فيها المرء أصدقاءه، فنذهب مضطرين لشراء الكتاب وندفع الثمن متضررين وليس لأننا نريد اقتناء الكتاب. ■ وفى رأيك هل من الإيجابى أن يكون النشر متاحاً للجميع؟ - فى هذه النقطة تنتهى عملية النشر، فحين يدفع الكاتب مبلغاً من المال كف الناشر عن أن يكون ناشراً، ويكون فقط وكيل مطبعة، هذه عملية قاتلة وتجعل كاتباً موهوباً لا يملك المال لنشر كتاب، لا يعرفه أحد، فى حين ينتشر كاتب آخر عديم الموهبة لكنه يملك المال، وهنا قتلت عملية النشر والكتابة معاً. هذه دلالة أننا وصلنا لمستوى من الانحطاط لا يمكن وصفه، ففى الغرب لا يقبل الاعتراف بالمؤلف ككاتب فى أى مؤسسة، إذا كان ينشر بهذه الطريقة، والكاتب الحقيقى الموهوب مشغول بتوفير معيشته، وفى أفضل الأحوال يعمل الكاتب صحفياً، لكن هذا أيضاً شىء مرعب حيث تتحول الأعمال الإبداعية والروايات إلى تقارير صحفية، وأشعار مصابة بفقر الدم.